صفحات ثقافية

مؤتمر القاهرة للرواية ليس جامعة ولا دعاء

null
عباس بيضون
وصلت متأخراً إلى المطار، لا بد أن لي يداً في هذا التأخر، ومسؤوليتي عنه واضحة، غير اني ضجرت لفرط ما أحمل نفسي أوزاراً أستحقها، وخير لي ولرواية الخير ان أضعها على عاتق السائق والطقس، لنقل ان السائق حضر متأخراً وانني قطعت وابل المطر إليه ووصلت مبللاً. القصة إلى الآن عادية، أما غير العادي فهو ان السائق الذي أرسلته إليه وكالة نقليات، لا يعرف الطريق إلى المطار، ظل يبحث عن النفق من طريق إلى طريق، ومن زحمة إلى زحمة والعاصفة ترمي بالناس والسيارات في الشوارع بحثاً عن ملاذ. ظل السائق يدور بحثاً عن النفق، وبعد عدة أسئلة وعدة دورات وصل إلى النفق، لا إلى داخله ولكن إلى سطحه، هكذا كرج على سقف النفق وهو يفرك يديه ويعلن انه وصل، ولما صار فعلاً على طريق المطار هنأ نفسه وهنأني وادّعى كاللبناني الأصيل انه كان يعرف الطريق من الأول وان ما حدث ذنب الطريق لا ذنبه.
دخلت إلى المطار فوجدت عند حيز «مصر للطيران» الكراسي شاغرة، لقد انتهى الوقت جادلت الموظف الوحيد الذي وجدته وترجيته ان يتصل مراراً فأتصل وعاد إليّ أسفاً: لقد انتهى الوقت، خرجت لكن الاتصالات الآتية من داخل المطار بشرتني بأن الطائرة تأخرت فعدت ووجدت موظفين أحدهما أذن لي بالذهاب إلى قاعة المطار، أما الثاني فكرّج حقيبتي وتركني ألحقه. وصلنا فاختفى بحقيبتي، صرت منذ اللحظة راكباً عادياً…..
من الساعة إلى الاثنتين إلى الثلاثة إلى السبعة فالثمانية، بقينا كل هذا الوقت متأخرين وكلما راجعنا قيل لنا ان عاصفة رملية تعصف في مطار القاهرة فحمدنا ربنا على انها لم تسقطنا ولم تتعرض لنا وتركناها تروح لسبيلها، في السابعة مساء قمنا للطائرة التي داورت العاصفة فوق المطار وحطت الطائرة وقد أوغلنا في الليل.
أوتيل بيراميزا عجيب
انه بألوانه المتدرجة من الأبيض الكلسي والبني إلى الأحمر الوقح، من غرفه التي تتراوح بين القاعات الملوكية والأجنحة الفخمة والغرف الضيقة التي لا تزيد عن غرف الخدم كثيراً، بمقاهيه الكثيرة وأروقته الفريدة ومجموعات مصاعده الثلاثة التي يشير كل منها إلى اتجاه هو بذلك مزيج من القلعة والقصر والمتاهة. انه محيّر وخاصة إذا دار في فنائه عرس يملؤه بالموسيقى والصخب فلا نعرف إذا كان ارستقراطياً كما يدل بعض أجنحته أو بلدياً، إذا كان للملوك أم للخدم.
المؤتمر يوم الافتتاح حاشد لكنك لن تعثر على كثير من معارفك كما كنت تظن، في مصر لا يعرف الذي لم يزر القاهرة من سنوات مثلي، أن جيلاً كاملاً تكون في غيابه، ان الشعراء زادوا والروائيون زادوا عشرات من الصعب ان يحيط غير القريبين بهذه الحركة المستمرة، ستجدهم أمام كومبيوتراتهم في المماشي والمقاهي وتنتظر ان يعرفك عليهم واحد من أصحاب الأمس الذين لا تعرفوا كيف اختفوا. ستصادف يوسف الشاروني وإبراهيم عبد المجيد وخيري الشلبي وإبراهيم أملان في المؤتمر وفي مناسبات أخرى. لكن الواضح أن الروائيين المصريين على نحو الإجمال لم يغرقوا في الاحتفال بالمؤتمر وحتى الضيوف لم يحضروا كثيراً أو دائماً، يخطر لك من المقارنة بين المؤتمر الأول وهذا المؤتمر وهو الخامس فيما أظن أي انها عشر سنوات فقد فيها المؤتمر تألقه وبدأ يبهت. أحسب ان الظرف نفسه ساهم في ذلك فالعاصفة الباردة لم تحسن وفادة المؤتمر. وجابر عصفور الذي ترأس المؤتمر بدا متأنياً في الجلسة الأولى وغاب عن الأخيرة التي قدمت فيها جائزة المؤتمر إلى إبراهيم الكوني.
المؤتمر
مع ذلك لا يمكننا ان نشكو من أي نقص في المؤتمر وإذا جاز لنا ان نشكو فمن الزيادة والإفراط. كانت مشاركة النقاد والروائيين كثيفة، وانعقدت الندوات والطاولات المستديرة على مدى أيام في الصبح والعصر وتقاطعت الندوات وتواقتت مما فوّت على كثيرين ندوات لم يكن حضورها في الإمكان ويمكننا القول ان الندوات والطاولات المستديرة حفلت بشؤون الرواية العربية وشجونها. كما حفلت بمكاشفات صريحة وشملت قضايا وأسماء وشكاوى ومشاكل. تعددت المسائل والموضوعات وفاقت المتوقع، يمكن القول ان المدعوين عملوا بجدية أكيدة وان المؤتمر كان عامراً وحافلاً. مع ذلك لم يرض ذلك كثيرين، بدا هذا في عدد الحضور أحياناً. كما بدا في تهرب البعض من حضور الندوات كما بدا في انطباعات الملل والتعب والشعور حقاً بالزيادة والازدحام، شكى البعض من الكثرة لا من القلة، ومن الزيادة لا من النقص. ربما نحمل شكوى كهذه على السن وعلى العافية، وربما لا نجد لها معنى بل نجدها مديحاً أكثر منها شكوى، بيد ان من الأفضل ان ننظر إليها بشيء من الجد.
لقد تعب المنظمون حتى رسموا ونفذوا هذا البرنامج لا شك في ذلك لكن المسألة مختلفة هذه المرة. انها في الزيادة والإفراط ومن قال ان الزيادة ليست مشكلة وان الإفراط ليس مأخذاً، من الواضح ان كثرة الدكاترة في المؤتمر كادت ان تحوله إلى جامعة وأن المؤتمر بقاعاته ومواضيعه وأبحاثه الكثيرة والمتقاطعة، كان أشبه ما يكون بجامعة ونشاطاته أشبه ما يكون بفصول جامعية. ليس المؤتمر جامعة ولا يوكل إليه أن يجد حلولاً لمسائل نظرية وأسلوبية وتقنية وتسويقية في الرواية فهذه المسائل لا يجتمع عليها الروائيون فلكل رؤيته وممارسته الخاصة ولكل اتجاهه. كان أجدى من ذلك ان تفرز مسائل تهم الجميع، فالروائيون العرب لا يقرأون بعضهم بعضاً لدواع تتعلق بالأسواق والنشر، والروائيون المحترفون لا يضمنون مستقبلهم وتقاعدهم، والروائيون الراحلون يخرجون من التداول ومن المهم تجديد قراءتهم وترهينها، هذه مسائل جامعة وإذا طرحت وطرح أمثالها، لا يعود المؤتمر فصولاً جامعية وإنما يتحول إلى نقاش شامل وفاعل وقد تنتهي مؤتمرات كهذا المؤتمر إلى حل بعض المشاكل أو تليين بعض المعضلات.
الجائزة
منحت الجائزة لإبراهيم الكوني وليست هذه المرة الأولى التي يطرح فيها اسم الكوني للجائزة. فقد طرح في الدورة الأولى وتنافس مع عبد الرحمن منيف الذي فاز، وطرح ثانية لدى فوز الطيب صالح وها هو يطرح للمرة الثالثة أو الرابعة، والخلاصة ان اسم الكوني لم يأت من الغيب ولم يفتعل ولم يستحدث، ان يفوز في هذا المؤتمر بالجائزة أمر طبيعي وعادي ولا يتطلب أي تعليق، ليست هذه هي المرة الأولى التي يحجب فيها الفائز عن المؤتمر ولا يظهر إلا يوم الاحتفال بالجائزة فقد حصل ذلك مع الطيب صالح الجدير للغاية بالجائزة، ولا تعرف الظرف فقد حضر الطيب المؤتمر الأول وحضر الكوني ولا اعرف ما هو السبب الذي جعلهما يحتجبان عن المؤتمر ولا يحضران إلا يوم تنصيبهما، هل هو شخصي خاص، إذا كان هذا هو فليقل وإلا فما الداعي للاحتجاب. كيف يفوز واحد بجائزة مؤتمر لا يحضره، وكيف يكون في مستوى جائزة المؤتمر ولا يكون في مستوى المؤتمر نفسه، يفترض ان تكون الجائزة هي مخاض المؤتمر وذروة نشاطه فكيف تمنح لغائب عنه وما هي عندئذ صلتها بالمؤتمر وكيف يمكن ان تنسب إليه وان تحمل اسمه. ثم من الذي يختار اللجنة المحكمة ولماذا لا يختارها المؤتمر نفسه بطريقة ما، هل يحمل احتجاب الفائز حتى يوم الإعلان سمة التعالي وعلى من، على روائيين زملاء أم على مؤتمر يقبل المحتجب جائزة تحمل اسمه، ألا يساهم المؤتمر عن قصد أو غير قصد، بقبوله هذا الاحتجاب، باحتــقار نفســه والتصريح بإفلاسه، لماذا المؤتمر إذا كان وسيلة لإنتــاج ارستــقراطية أدبيــة لا تقبل بحضوره، ثم أليس في قبــول جائــزة المؤتــمر والتعالي عن حضوره قدراً من التناقض، حضر الطــــيب والكوني المؤتمر الأول ألا يعــني غيابهما عن مؤتمرين نصباهما ومنحاهما الجائزة إشــعاراً بتدهــور المؤتــمر أو على الأقـل، تدنيه.
خطاب الكوني في المؤتمر غريب، بدأ باستحالة السعادة، وتواترت بعد ذلك ألفاظ الصلاة، الجهاد، القربان، النبوات، الخطيئة، الشهادة، الاستشهاد، بدأ الكوني بالتأمل الفلسفي وأنهى بالدعاء وبينهما كان الكلام يزوغ عن معناه ويفقد مع الوقت قاعدته الفلسفية. أيا كان الأمر فإن الخطاب ليس لمؤتمر وليس لتظاهرة جماعية، انه كلام بينه وبين نفسه، كنا ننتظر كلاماً عن نفسه وعن الرواية وعن الثقافة ومشكلاتها وعن الحرية بوصفها إمكاناً لا كآبة وجودية.
السفير

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى