صفحات ثقافية

المدينــة تنــام «غلــط»

null
عناية جابر
على الطاولة عند الطبيب، لم يكن هناك جرائد، فقط نشرات حول ضرورة أكل البقول والجزر والأرضي شوكي، وكرّاس أَصفر عن «كيف تعيش عمراً مديداً». كان الشاب يحيط رفيقته بإحدى ذراعيه، ويربّت بالاخرى على رأسها المدفون بصدره. صامت يضع رجلاً على رجل، هزال فخذيه عجيب تحت بنطاله الجينز المبري. كنت أتساءل إن كان لي رفيق، هزيل أو سمين، أغرس رأسي بصدره كهذه الصبية السمراء، هل كانت لتُمَّحى حينها أسباب خوفي.
خرج عجوز تسنده شابة ألقت على المنتظرين نظرة حادة مذعورة. العيون ترتفع كلما ظهرت الممرضة عند باب الطبيب. النظرات تتبعها. انتهيت الى تطمين نفسي. لن تكون هناك علاقة بين ثديي المتورِّم ومرض السرطان. لمسته بحركة سريعة وجلة. ثقيل ويوجعني. تذكرت أنني عشت نوع القلق هذا السنة الفائتة، قبل أن تظهر صورة الاشعة «النظيفة». «نظيفة»، قال الطبيب: «يظهر أنك نمت على صدرك فأذيته». نمت «غلط». كل نومي «غلط بغلط».
الآن ماذا؟ أملت أن أكون نمت غلطاً مرة اخرى. بعد ساعة انتظار عاد إليّ قلقي، تفاقم، ولم يمكنني كبحه. نادتني الممرضة، ومن خوفي اقترحت على السيدة الجالسة بجانبي ساهمة تفكر، أن تدخل قبلي. صوت الممرضة تناديني بنبرة حانقة لم يترك لي فرصة مقايضة من أي نوع: «شو هيئتك مش مستعجلة» قالت.
لحظة دخولي تَذكّرَني. خير؟ سألني. أصغيت لوقت قصير الى همهمة تصدر من جهاز الكومبيوتر أمامه، ثم أجبته: «صدري ورمان وعم يوجعني يا حكيم»، «اشلحي البلوزة والسوتيان ـ قال لي و«عربشي» على الطاولة لنشوف شو السيرة». شعرت بالزهو للحظة من اكتمال صدري المتورّم، وتمددت على الطاولة كما لو جسدي معروض في «فاترينه». تساءل عما اذا كنت ارتدْتْ أحد المسابح مؤخراً، فيما انهمكت أصابعه في جس صدري بحثا عن مكامن الورم. يد خبيرة، غير حانية، راغبة في تأدية عملها. قلت إني سبحت مؤخراً، «أجل، فعلت». نظر الى صدري. ما كان له الحق بتلك النظرة. ابتسم واثقاً من قبضه على السر، واذ اطمأن الى السبب في جولة أنامل أخيرة، صوبن يديه في المغسلة الصغيرة في زاوية العيادة.
ما إعتبرته سرطاناً، كان التهاباً سببه تلوث في مياه «البيسين». كتب لي «روشته» أخذتها وخرجت. ألقيت ابتسامة ظفر على المنتظرين ورغبت في ان أقول كلاماً مطمئناً للجميع، سوى أنني كمن قُذفتْ في العالم العادي ثانية، وانتيهت الى سماع صوت رصاص واشتباكات في الخارج، لكن لم يكن هناك أي شيء يمكنه أن ينغص سعادتي. أريد أن أغوص في نجاتي. أن يتوقف الزمن عند تلك النجاة، أن يمور بداخلي بلا شك، وينبغي عليّ مداعبته بأي ثمن.
ذهبت واحتسيت قهوتي في الـ«سيتي كافيه»، وفي الظهيرة نزلت وتغديت في الـ«داون تاون». لقد عدت الى العالم ذاته، أشك بأنه افتقدني. كان هناك المارة، برؤوسهم الخالية، وأنا. كنت أقيم بشكل ملتبس علاقة بما حدث لجسدي وبما يحدث للمدينة. كنت أفكر في مرض المدينة العضال، مدركة الآن إمكانية انها هي الاخرى تنام «غلط». تتصرف «غلط». المدينة «ورمانة» ولا أحد يعرف حتى اللحظة سبب تورّمها.
أنظر الى الشوارع والارقام «الكودية» للبنايات الفخمة، والشتائم المكتوبة بالفحم على الجدران شاعرة بالغربة والقهر، كأن هذه الدلائل المادية تفضي الى تدمير جسدي. اتجهت الى عين المريسة، متخيلة أن المناخ يكون أكثر سلاماً في هذا الحي البحري الشاسع. مقدمة أغنية تافهة أسمعها في رأسي وتروح تتكرر بلا توقف.
مثل أغلب الأغنيات التي تتكرر في رأسك، بدأت أكرهها. النساء اللواتي مثلي يفضلن بصدق أن يذهبن في حب الأشياء حتى النهاية، لكن التكرار يثقل على روحي. انني ألعب جيداً بالمشاهد والصور، الناس، الزملاء، الاصدقاء، الأهل، أُغيّر في أشكالهم وأُنوّع في مشاعري نحوهم لئلا أنتهي بكرههم. التكرار يقتلني، وربما لهذا أحب قراءة الروايات ومشاهدة الافلام. شيء شديد القدم متفسخ في داخلي من قدمه، من تكراره وتعفنه فيّ، فلا أطيق بعد أن يتكرر أي أمر. آمل أن تكون الايام ـ وقد نجوت للتو ـ كافية لكي أتخلص من هذا التفسخ.
في الليل صوت الرصاص ملأ غرفتي. فكرت أن لا أحد يمكن أن ينام مع هذا الصوت. أخيراً انقطع أزيز الرصاص، والظلمة التي كانت، تجهمت أكثر. أخذت حبة «انتيبيوتيك» عيار ,500 كافية ـ على ما قال الطبيب ـ مع حبة ثانية أخذها عند الفجر على تفريغ ثديي المتورم. في الصباح أكثر خفة مما توقعت. هطلت من عيني دموع حارة. أعتقد أن الامتنان قد أسالها. كانت ثمة الغبطة العميقة الآن، وبرودة لذيذة نفذت الى جذعي، أرعشته.
غير ملائم جسدي اليوم لأي عمل. عملي الوحيد إجهاد عينيّ في رؤية البحر. مررت أمس في وقت صعب وأحتاج الى بطالة رأسي وأعضائي. سنتر «صوفيل» هذه الكلمة اللاتينية المخلَّعة، جعلت رغبتي بزيارة فادي الذي يقطن في تلك المنطقة، مشوشة، بل معقدة، وبالتالي غير قابلة للتنفيذ. وحتى الكلمة الأبسط «الجميزة» حيث يقطن يوسف، والتي كررتها بثقة، كان ينتج عنها شيء أكثر تعقيداً من الاولى. وحتى لو لم أزر أياّ من الصديقين اليوم، فإن بهجتي تبقى على جبهتي، مشرقة وفاضحة.
وفي اليوم الثالث على الامر، لا مشاعر ولا معنويات. واظبت على تناول الانتيبيوتيك ولم يعد بداخلي مكان للخوف. في «الجريدة» قلت لمن سألني عن سر غيابي في اليومين الماضيين، إنني أزلت «خرّاج» من أذني التي تلوثت بفعل جرثومة التقطتها من مياه «البيسين». لسنوات عشت في هذا المكتب ورأيت هذه الرفوف، الكتب، الستائر الكومبيوترات، التلفونات، الوجوه، القهوة، النسكافيه، الشاي، العصير، الكاكاو، الزهورات، النعناع، ثم فنجان الزعتر المغلي ـ ابتداع أبو أحمد صاحب الكافيتيريا ـ الذي أوشك أن يطيح بمعدتي الهشة ويتسبب لي بنزيف فيها.
هذه الاشياء والوجوه هي (الأيام)، لطيفة وحزينة قليلا، لكنني أنتمي لها، جزء مني، وإن المرض كان ليُذبلني ويسقطني عنها. الحرب ايضا، أسقطت الكثيرين عن صهوة المدينة. عندي مسدس «سميث» أبيض صغير وفكرت أن أضعه في حقيبتي دائما، وأحمله معي أنى ذهبت. ضحكت من الفكرة، عائدة الى بيتي في المساء، وقد ابتلع الظلام الحي. عمود الكهرباء الوحيد المضيء يؤشر بصلف الى أول طلعة بيتنا كما لولا أحفظ الطريق غيباً. التركيز على أعلى العمود يمنعني من رؤية أي شيء آخر. اذا ما كان عليّ الوصول، فلي أن أنظر الى ما يمكن رؤيته. أتجاهل العمود وأنظر في الظلام. انطلق نواح طفل موجوع خلف إحدى النوافذ على الدرجات التي توصل الى مدخل البناية، توقف نواح الطفل. لم يعد ثمة سوى نداءات لم أتبيّن أصحابها.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى