سلامة كيلةصفحات مختارة

أزمة اليسار الشيوعي ـ 3

سلامة كيلة
ما دامت أزمة القوى القومية والوطنية بنيوية فإن المسألة التي تفرض التساؤل هي عن أسباب فشل البديل. هنا يمكن تناول أزمة الحركة الشيوعية التي تأسست قبل تسعين سنة، وكان بعضها من أوائل الأحزاب في الوطن العربي، وكانت في مرحلتها الأولى تحاول بلورة تصوّر مطابق (هنا حسب مفهوم ياسين الحافظ) للواقع العربي، وجهدت من أجل قيادة الصراع الوطني ضد الاستعمار، والطبقي ضد الإقطاع والبورجوازية التجارية، وتحقيق الأهداف التي كانت قد تبلورت في عصر النهضة العربية، أهداف الوحدة والتحرر والتطور والحداثة، تحت برنامج صيغ سنة 1934 بعنوان «في سبيل الوحدة العربية» (أو في تحوير «في سبيل تحرير الشرق العربي»). وكانت تعتبر أنها وريثة عصر النهضة ذاك، ومحققة أهدافه. كل ذلك بالترافق مع النهوض النضالي من أجل الاستقلال والتحرر الذي وسم الوضع بعد الحرب الأولى والاجتياح الاستعماري الذي أكمل السيطرة على الوطن العربي. وربما كان هذا الخط الذي حكم الحركة يسمح بتحقيق الانتصار.
إن الأزمة البنيوية التي حكمت كل تطور رأسمالي كانت تفرض أن يقود الشيوعيون النضال من أجل التغيير، كما كانوا يحاولون في المرحلة الأولى. وهي السياسة التي نجحت في أمم أخرى مثل الصين والهند الصينية وكوبا، وكانت في صلب الإضافة اللينينية التي أعطت للشيوعيين دوراً محورياً في تحقيق التغيير والتطور في الأمم المتخلفة.
لكن تحوّلاً حدث منذ أواسط ثلاثينيات القرن العشرين قلب الوضع، حيث تحققت السيطرة الستالينية على الحزب الشيوعي السوفياتي، ثم على الكومنترن في سنة 1935. ولأن الحركة كانت تتشكل كفرع للأممية الثالثة، فقد باتت محكومة بالمركز، وباتت سياساتها تخضع لتكتيك الدولة السوفياتية في صراعها العالمي. وإذا كانت النظرية قد أصبحت هي المبرر للتكتيك في المركز السوفياتي، وبالتالي جرى خفضها إلى أيديولوجية تدافع عما يقرره «السياسيون»، فقد أصبحت النظرية هذه هي أساس التكتيك في كل فروع الحركة الشيوعية، مما كان يجعله مطابقاً للتكتيك السوفياتي، كما يظهر في الشكل، رغم أن المسألة كانت تتعلق بالتزام التكتيك السوفياتي، لكن هنا مدعماً بـ«النظرية».
هذه المسألة تطرح السؤال حول السبب الذي جعل الحركة الشيوعية العربية تتكـيف مع هذه السيطرة. ربما ان نواتها الأولى كانت تعمل تحت إشراف الكومنترن، رغم أن البحث والأفكار والسياسة التي كانت تنتجها هذه الأحزاب كانت تعبّر عن بحـث في الواقع وفهم عميق له، حيث كانـت ما زالت بعيـدة عن السيطرة. وربما يكون هذا الإشراف قد تحوّل إلى تبعية بدل أن يقود إلى تكـريس الاستقلال كمــا حدث في الصين مثلاً، وكل الأمم التي انتصـرت فيها الشيوعية. لكن في كل الأحوال سنلمس انقلاب الرؤية بعد سنة 1937، والتراجع عن تحرير الشرق والوحدة العربية، وكذلك عن قيادة النضال. وهو التصـور الذي ارتبط بعودة خالد بكداش من موسكو وتنصيبه أميناًً عاماً للحزب.
ورغم أن الأمر يتعلق بـ«وعي مشوه» بالماركسية انبنى على الأفكار التي باتت معتمدة في الماركسية السوفياتية، والتي باتت تنقل عبر الدورات الحزبية ومعاهد «الماركسية اللينينية»، كما يتعلق بالموقف من مجمل القضايا التي تخص الواقع في الوطن العربي (ومنها قضايا الوحدة وفلسطين، والتطور)، والتي أصبحت مشوشة ومشوهة، ومخالفة لما كان يُطرح في المرحلة الأولى، فإن المسألة الجوهرية التي تلمّ بكل ذلك هي المسألة التي تتعلق بدور الشيوعيين، حيث انحكم لعنصرين، الأول: السياسة السوفياتية التي كانت ترى بأنه ليس بإمكان الاتحاد السوفياتي دعم الثورات الشيوعية في العالم بعد، وأن نذر الحرب التي كانت واضحة أواسط الثلاثينيات تفرض عدم دفع الشيوعيين لتحقيق التغيير، وبالتالي عملت على التهدئة مع البورجوازية، وأقرت في مؤتمر الكومنترن السابع سنة 1935 مفهوم «الجبهات الشعبية» التي تخضع لسيطرة البورجوازية، بديلاً لمفهوم طبقة ضد طبقة الذي تقرر سنة 1929 في مؤتمر الكومنترن السادس.
العنصر الثاني: «نظري»، حيث كانت قد جرت «غربلة» تراث ماركس وإنجلز ولينين، وجرت صياغة «الماركسية» التي ستعرف بالماركسية السوفياتية، والتي ستعمم كونها هي وحدها الماركسية. وصيغت صيرورة التاريخ في خط تصاعدي جبري، يقوم على الانتقال من المشاع إلى الرق إلى الإقطاع إلى الرأسمالية ومن ثم إلى الاشتراكية. ولأننا في مرحلة سيادة الإقطاع فيجب بالضرورة المرور بالمرحلة الرأسمالية، قبل أن يفكر الشيوعيون في الانتقال إلى الاشتراكية.
من هذين العنصرين صيغت السياسة «الواقعية» و«العلمية» و«الماركسية»، التي تنطلق من المبدأ النظري الذي يقول بحتمية المرور بالمرحلة الرأسمالية، والتي تفرض التحالف مع البورجوازية ودعم تطورها وانتصارها. وبالتالي بدل تطوير الصراع الطبقي ضد الإقطاع، والوطني ضد الاحتلال، عملت على دعم البورجوازية في مفاوضاتها مع الاستعمار، وهادنت الإقطاع لأنه متداخل مع البورجوازية، وقبلت بالتكيف مع سياسة البورجوازية من المسألة القومية. لهذا أصبحت جناحا يساريا للبورجوازية التي تسعى للحصول على الاستقلال وإقامة دولتها المرتبطة بالرأسمالية (دون تناسي أن بعض الأحزاب في بعض الأوقات مارست غير ذلك، وأخص هنا الحزب العراقي بقيادة فهد وثم سلام عادل، والحزب السوداني الذي كان خارج هذه السياسة).
بمعنى أن الحركة لم تعد تطرح على ذاتها مسألة التغيير أصلاً، وتكيفت مع تطور رأسمالي ممكن، رغم أنه كان في الواقع مستحيلاً. ولهذا حينما حان وقت التغيير انفرض عبر آليات قسرية. بعد ذلك كان الزمن قد تجاوزها، حيث تحققت تحولات عميقة أسست لوضع مختلف. هل تستطيع ذلك اليوم؟ لا، حيث ما زالت تنحكم للوعي «الماركسي» ذاته، وللسياسات ذاتها، وتهرب من طرح مسألة السلطة وتحقيق التغيير، وتتكيف وطنياً مع الأمر الواقع.
السفير

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى