صفحات مختارة

إعادة الاعتبار إلى التفاصيل

حسام عيتاني
أمام تمدد مقولات انقسام العالم «فسطاطين»، واستنباط أنصارهما المزيد من الحجج لتبرير هذه الثنائية الجديدة، تبدو مُلحَّةً إعادة الاعتبار إلى التفاصيل والفوارق الصغيرة في السياسات والأفكار وكيفية اشتغالها.
تظهر، على المستوى العربي، الثنائية المانوية هذه في جدل معدوم الأفق بين عنصرين متناقضين في الشكل، بين الديموقراطية والاستبداد، بين التغيير والاستقرار، بين أولوية التطور السياسي التدريجي والتبدل المفاجئ، بين أثر الداخل والخارج. ينتشر الجدل هذا شاملاً ساحات الثقافة والفكر ليسائل التناقض الحداثة والأصالة، و»التشاؤم» و»التفاؤل» حيال المصير العربي.
ليس بجديد تناول هذه التناقضات في مجالي السياسة والثقافة العربية، وليست هي ذاتها بجديدة، فالحرب بين قصيدة النثر وقصيدة التفعيلة، والمندلعة منذ الخمسينات، لم يخْبُ أوارها بعد، على سبيل المثال، بيد أن معطى أساسياً يغيب عن أكثر الجدالات هذه، ما يبقيها في حيز التراشق اللفظي ويحول بينها وبين الانتقال إلى مجال التراكم وجمع الاستنتاجات لبناء معطيات عامة أو قوانين ومفاهيم سياسية وثقافية، بالمعنى الدقيق.
تتأسس الجدالات هذه عادة على جمع كمّي لمعطيات توفرها ظاهرة ما، كالاستبداد في العالم العربي، وتنتقل بقفزات سريعة إلى استخلاص القوانين، لتبحث بعد ذلك، وبطريقة مخالفة لكل المنهج المنطقي، عن الأسانيد في العلوم الاجتماعية والاقتصادية وفي التاريخ، فتبدو الحرب الأهلية في العراق اليوم هي هي الفتنة المذهبية السنية -الشيعية التي شهدتها بغداد على امتداد العصر العباسي، ويبعث مستخدمو المقاربة هذه، ابن العلقمي (الذي ساهم باستسلام بغداد إلى المغول) على شكل المرجعيات الشيعية «المتعاونة» مع الأميركيين.
أقل ما يقال في هذا الضرب من التفكير، وما يوازيه أو يفوقه تعقيداً واستخداماً للذرائعية التاريخية، أنه ينسى مرور تسعة قرون بين الغزو المغولي وبين الاحتلال الأميركي، وأن مياهاً كثيرة جرت في الأنهار منذ تلك الحقبة فغيرت مواقع الطوائف والمذاهب والجماعات، والأهم أنها غيرت تركيبة السلطة والأسباب الخارجية والدولية التي جعلت العراق يتعرض للغزوين.
بداهةُ أن العالم الذي نعيش فيه اليوم يختلف تماماً عن ذاك الذي شهد قدوم هولاكو إلى بغداد، وأن منطق الأحداث يتغير بمرور الزمن وتبدل الخرائط الجيوسياسية والاقتصادية العالمية، لا تعني في كثير أو قليل أنصارَ تصنيم الانقسامات وتجميدها وتحويل الجدل بين المتناقضات إلى صراع بين جواهر لا تأخذها سنة ولا نوم. فجورج بوش الابن هو هولاكو، سيان مَرَّ عام أو ألف على حقيقتين يكاد لا يجمعهما جامع باستثناء تعرض العراق الى هجوم خارجي.
غني عن البيان أن النظر السكوني هذا إلى العالم كان تهمة جاهزة يرمي بها دارسو الفكر الجدلي، المؤمنون بالتطور عبر الطفرات وبتراكم الكم المفضي الى تبدل النوع والمنافحون عن فكرة التقدم، خصومَهم أتباع التصور الدائري للتاريخ. غير أننا بتنا شهوداً اليوم على خضوع الفكر النقدي إلى مقولات صماء لا تقبل نظراً ولا تعديلاً.
عليه، اختُزلت حياتنا السياسية والثقافية في مبارزات بين حقائق كلية ومطلقة. ورحنا نحفر عميقا في بئر وقعنا فيها بلا تبصر ولا اختيار، وبدل اللجوء إلى المناهج الحديثة في العلوم الاجتماعية والتطبيقية في تفكيك وإعادة تركيب إدراكنا لذاتنا، انقلبت المناهج تلك أدوات في حفلات الزجل، تلفزيونية لا أول لها ولا آخر.
أما التفاصيل والفروق الصغيرة التي يرسم حاصل جمعها صورة العالم المعاصر، فتُسحق تحت «حقائق» صخرية متدحرجة من كل صوب.
الحياة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى