صفحات أخرى

ستين دولاراً واستلم كتابا ملوناً: الازدهار العشوائي لصناعة الكتب المصرية

حمدي ابو جليل
أعلنت مؤخرا واحدة من أحدث دور نشر الأدب في مصر عن ثلاثة عروض تفصيلية للطباعة والنشر والتوزيع اعتبرتها مفاجأة مفرحة لكل منتجي الكتب خصوصا الأدبية في مصر والعالم العربي، العرض الأول يبشرهم بعدم دفع أكثر من 350 جنيها مصريا (الجنيه يعادل خُمس دولار أميركي) «لطبع ونشر وتوزيع كتاب قطع» 12*17 «وغلاف 4 ألوان وورق داخلي 70 غراما أبيض، بشرط ألا تزيد عدد صفحات الكتاب عن 96 صفحة»، والثاني يعرض « 750 جنيها فقط لا غير لطبع ونشر وتوزيع كتاب قطع» 13.5*20 «و غلاف 4 ألوان وورق داخلي 70 غراما أبيض بشرط ألا يزيد عن 96 صفحة، أما الثالث فيعرض 1500»جنيه مقابل طبع ونشر كتاب قطع» 13.5*20 «وغلاف 4 ألوان وورق داخلي 80 غراما «كريمي» بشرط ألا يزيد عن 128 صفحة» .
وبغض النظر عن أن هذا الإعلان يعتبر الأول من نوعه في تاريخ النشر في مصر، وانه يذكر بعروض وتخفيضات المحلات التجارية في نهاية المواسم، وانه يتيح نشر أي كتاب لأي بني آدم بمجرد دفع مبلغ يقل عن مئة دولار ـ فإنه يعتبر آخر مظاهر ما يمكن اعتباره «الازدهار العشوائي» لصناعة الكتب الأدبية خصوصا الجديدة والطليعية في مصر، هذا الازدهار الذي يتمثل في الازدياد المضطرد في دور النشر والمكتبات المختصة بنشر وتوزيع الأعمال الأدبية الجديدة وفي ظهور قوائم «الأكثر مبيعا» و»حفلات التوقيع» التي صارت أخبارها تقليدا يوميا في الصحافة الثقافية المصرية وفي رواج العديد من الأعمال الأدبية خصوصا الروائية وصدورها في طبعات متوالية في فترة قصيرة. كما يتمثل أيضا وربما أولا في الارتجال والاستسهال وإغراق سوق الكتاب الأدبي بأعمال لا مبرر لنشرها إلا دفع أصحابها تكاليف طباعتها على «داير مليم»!
هذا الازدهار جربه سوق الكتاب الأدبي المصري ـ بعد ركود دام عقودا ـ مطلع التسعينات، ورسخه بداية القرن، وواكب صدور أعمال أدبية، روائية تحديدا، راجت بشكل غير مسبوق، ليس فقط رواية «عمارة يعقوبيان» لعلاء الأسواني التي حظيت برواج أسطوري لا يقاس عليه، ولكن العديد من الروايات الأولى للكتاب الشباب التي صدرت في طبعات متوالية ووزعت آلاف النسخ ولعل وأبرزها رواية «ان تكون عباس العبد» لأحمد العايدي التي صدرت في عدة طبعات وترجمت لعدد من اللغات منها الانكليزية والايطالية والهولندية، ورواية «فرتيغو» لأحمد مراد التي صدرت في عدة طبعات، ومؤخرا ولأسباب مختلفة رواية «ربع غرام» للكاتب الشاب عصام عبد التواب يوسف التي صدرت في سبع طبعات خلال عام واحد.
واللافت ان هذا الازدهار ارتبط بظهور دار «ميريت» التي أسسها الناشر والكاتب محمد هاشم واحتفلت العام الماضي بمرور عشر سنوات على تأسيسها وحظيت بالتفاف عدد كبير من الكتاب الشباب والتي سار أو قل أنشئ على هديها عدد من دور النشر الجديدة المختصة بنشر الأدب الجديد والمغاير ويا حبذا لو كان جريئا ومرفوضا من دور النشر الرسمية في مصر والبلاد العربية وأبرزها دور «العين» و»آفاق» و»ملامح» و»الدار»، ومعها، وبفضل مطبوعاتها المتميزة شكلا وموضوعا، حدثت نقلة نوعية في صناعة ونشر وتوزيع الكتب الأدبية خصوصا الجديدة والمغايرة والطليعية وحتى المرفوضة والمحرمة، فقد انتقلت من دائرة النشر النخبوية الضيقة التي عانت منها عقودا إلى دائرة النشر والرواج الواسع والطبعات المتوالية والجمهور الشاب الذي ربما لم يعرفه الأدب المصري من قبل.
واللافت أيضا ان هذا الازدهار ارتبط بنشر أعمال الكتابة الجديدة والكتاب الجدد الشباب تحديدا في مطلع القرن وبتصميمات أغلفتها التي أبدع معظمها الفنان احمد اللباد، ومعه اختفى ربما للأبد التقليد الذي اضطر له الأدباء الجدد في مصر على مدى أجيال متعاقبة، وهو الانغلاق على أنفسهم في جماعات هامشية تسفر عن «مطبوعات» ماستر «فقيرة ضئيلة العدد وتوزع باليد مثل مطبوعات فاليري 68» التي نشرت الأعمال الأولى لشباب جيل الستينات وعلى رأسهم طبعا إبراهيم أصلان وإبراهيم منصور وجميل عطية إبراهيم وسيد حجاب ويحيى الطاهر عبد الله ومطبوعات «إضاءة 77» و» أصوات» لشعراء جيل السبعينات ومنهم حلمي سالم وعبد المنعم رمضان واحمد طه ومحمد سليمان وعبد المقصود عبد الكريم وأخيرا مطبوعات «الجراد» التي نشرت الأعمال الأولى لشباب جيل التسعينات ومنهم ياسر عبد اللطيف واحمد يماني ومحمد متولي وهدى حسين وشحاتة العريان وهيثم الشواف.
غير ان هذا الازدهار يبدو منفلتا، أو على الأقل لم يستقر على قواعد واضحة لطبع ونشر وتوزيع الكتب الأدبية الجديدة خصوصا للكتّاب الشباب، وما زالت قاعدته الأبرز والأثبت هي «الدفع»، أي مقاولة المؤلف على المساهمة أو قل دفع كامل تكاليف طباعة ونشر وتوزيع مؤلفه، وهذا بالطبع ما دفع أحدث دور نشر الأدب المصرية إلى المجازفة بالإعلان عن عروضها «السخية» التي تعتبر سابقة في سوق الكتاب المصري!

السفير

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى