صفحات مختارةميشيل كيلو

إعلام يصنعه المواطن.. والقارئ بحجم البشرية!

ميشيل كيلو
ارتبط ظهور الجريدة بالحداثة. وارتبط ظهور الحداثة بالمجتمع المفتوح ولبنته الرئيسة: المواطن، وما نجم عن تكونهما من دولة مواطنة وقانون. بما أن الحداثة وقعت خلال طور الانتقال من الزراعة إلى الصناعة، ومن ملكية الأرض إلى ملكية رأس المال، ومن الحياة في القرية إلى العيش في المدينة، ومن سيادة الأمية إلى تعميم التعليم، ومن الرعية إلى المواطن الحر، ومن المجتمع المغلق إلى المجتمع المفتوح، فإن الجريدة حملت سمات عصرها، وكانت بدورها مشروعاً رأسمالياً، حتى إنها لم تنشر في بداية ظهورها غير الأخبار الاقتصادية الصرف، والبرقيات المتعلقة بحركات رأس المال والبورصة، وحين بدأت تنشر بعض الأخبار الاجتماعية، التي تركزت أول الأمر على أكابر وأعيان المجتمع الجديد من رأسماليين وملاك ورجال فكر وعمل، قال احد الظرفاء معرفاً الصحيفة: هي نشرة اقتصادية ألحق بها قسم اجتماعي. مع الزمن وتبلور مصالح متضاربة في المجتمع الحديث، ومع انطباع العلاقات الاجتماعية بطابع العمل المنظم في ورشات وشركات ومصانع متعاظمة الكبر وصناعات متزايدة التعقيد، أضيف قسم سياسي وثقافي إلى الصحيفة. ومن المعروف أن القسم الأخير كان يفصل عن بقية موادها بخط، حتى لا يختلط معها.
كانت الصحيفة مشروعاً رأسمالياً كغيره من المشاريع، وقد بنيت على حسابات اقتصادية شأن غيرها من المعامل والورش، وعمل فيها أشخاص مختلفون، تفاوتت مراتبهم ووظائفهم وخضعوا لانضباط عام تطلبته آليات عمل حديث لم يستهدف فقط لعب دور مرسل لديه مقولات تستطيع التأثير في جمهور غير محدد بصورة مسبقة، بل استهدف كذلك تحقيق أكبر قدر من الربح. ومن درس الصحافة، يعلم أن هناك اقتصاداً سياسياً للجريدة، له قوانينه وركائزه، وأن الجريدة الناجحة تحريرياً لا تعيش إطلاقاً إن كانت فاشلة رأسمالياً وتجارياً.
مع ظهور وسائل الإعلام الجماهيري الأخرى من راديو وفيلم وتلفاز وأسطوانة… الخ، تنوعت مقولات المرسل وتبدلت طرق اشتغاله، وتعمق الطابع الجماعي والمجتمعي للإعلام، واكتسب خصوصية تجلت في فصل المتلقي عن واقعه الملموس وإدخاله في واقع بديل هو واقع وسيلة الإعلام، الذي يأخذه إلى زمن غير زمنه الاجتماعي، ويعرّفه على أشخاص يشبهون من بعض الجوانب من يعرفهم من بشر، لكنهم ليسوا مثلهم تماماً، بل هم أشخاص واقعيون/ متخيلون، يعيشون في وعي يمثلونه ويريدون نقله إلى من يتلقاهم، مع أنهم ليسوا من لحم ودم، وينخرطون معه في علاقات ويحرضونه على النقاش والتفكير، أو على الاستسلام لما يقولونه، مع أنه لا يقيم روابط مباشرة معهم، فهو يحتاج إذن إلى الخروج من واقعه والدخول إلى واقعهم كي يحاورهم ويؤثر فيهم ويتأثر بهم، مع أن التلفاز أدخلهم إلى بيته وجعلهم يعيشون معه، ويتدخلون في خبراته ومداركه وثقافته الفردية، مع أنه لا يتلقى ما يقدمونه له بالطريقة التي يرسلونها، بل بالطريقة التي يلعب هو أيضاً دوراً فيها يتعين بدرجة وعيه وانخراطه في العالم ومقولاته، في إطار تقسيم عمل يجعل منه طرفاً يتلقى، ويجعلهم مرسلين يبعثون مقولاتهم إليه، ويزوّدونه بأنباء العالم التي تساعده في حياته وعمله، باعتباره فرداً في جمهور غير متعين بصورة مسبقة، هو جزء من عملية مجتمعية عامة تقوم على تبادل أدوار متغير، لكنه حتمي ودائم.
بزيادة التعلم وارتفاع مستوى الوعي وتوسّع دائرة العالم الخاص وتوفر المطبوعات الرخيصة والمعارف العامة والمصورة، لم يعد المتلقي قطعة إسفنج تمتص ما يصلها، وصار صاحب دور في تعيين مستوى ما يرسل إليه ونوعيته، وفي تحديد موضوعاته، لهذا نشأت مدرسة إعلامية نراها بوضوح في السينما وخاصة منها المصرية، هي مدرسة «الجمهور عايز كده»، التي تعطي الوزن الأكبر في الجدلية الإعلامية للمتلقي وليس للمرسل.
في أول الأمر، كان المتلقي سلبياً، يأخذ ما يرسل إليه، فصار تفاعلياً، يتلقى ويرسل، خاصة في المجتمعات المفتوحة، التي تحول المواطن الفرد فيها أكثر فأكثر إلى منتج ومستهلك ومدخر وقطب في عملية الإنتاج الاجتماعي، يعد اليوم مركزاً تتقاطع عنده المصالح وتتضارب، وفاعلاً يمتلك استقلالية واسعة ومتعاظمة في الرأي والعمل. كان متلقياً فصار شريكاً، واليوم نراه يتحوّل ـ أنظر معنى حدث ويكيليكس الهائل الأهمية – إلى مرسل مستقل، تتمحور حول نشاطه عملية إعلامية من نمط جديد، رأسمالها معارفه، أما وسائلها وأدواتها فهي في متناول يده بصورة فردية وشخصية، نتيجة لمنجزات الثورة العلمية التقنية والرقمية، التي وضعته بقوة في مركز العالم، وجعلت بقية الكون على بعد خطوة منه، بفضل ما هو مُتاح له من قدرة بلا حدود على الدخول إلى مراكز المعلومات الكبرى، والتطور الآني واللحظي الذي تشهده تقنيات التواصل، وسقوط الحدود المادية والعوائق المعنوية أمام حركته وأفكاره ومبادراته.
في هذه الحقبة الجديدة، التي نحن في بداياتها الأولى، البدائية، شرع الإعلام ينفصل عن المؤسسة الرأسمالية، ويكتسب طابعاً فردياً يتعاظم بلا انقطاع، وصار بإمكان فرد واحد، مجهول الهوية والصفة، لكنه يمتلك الرغبة في العلنية والمعلومات الضرورية لذلك، أن يبز في فاعليته ودوره أية وسيلة إعلام تقليدية كالصحيفة. وليس مثال ويكيليكس عنا ببعيد، فهو دليل دامغ على ظهور الحقبة الجديدة، التي ستمكّن أي مواطن من أن يصير صانع إعلام، مرسلا إلى جمهور غير محدد سلفاً هو العالم، دون أن ينفصل عنه أو يقوم بينهما تقسيم عمل دائم، ما دامت المادة التي ينتجها ويرسلها ليست مقيدة بلغة أو حدود أو جنسية أو قدرة شرائية أو وضع ثقافي أو تقسيم عمل، وبوسعها اجتياز أي عائق، وتخطي أية اختلافات مناطقية أو اجتماعية أو اتنية أو طبقية أو قومية، فجمهورها هو البشرية بأسرها، وما يفعله فرد هنا يستطيع فعله أي فرد آخر هناك، والعالم على مشارف عصر جديد.
لم يعد الأمر بحاجة إلى مؤسسة رأسمالية، كي يتمكن فرد من المشاركة في عملية إعلامية أو في صنعها من ألفها إلى يائها. ولم يعد نصيب الأفراد الذين خارج المؤسسة من الإعلام أن يكونوا غالباً مجرد متلقين، ولم يعد الأمر بحاجة إلى رأس مال كبير أو تقسيم عمل صارم، فالذي كان بالأمس متلقياً، يتيح له حاسوبه الشخصي أن يصير مرسلا في أي وقت، والتواصل العمودي الذي كان قائما بالأمس، وقام على وجود فوق مرسل، وتحت متلقٍ، غدا اليوم تواصلا أفقيا، ليس فيه فوق وتحت، بل يستند بكامله على فكرة تمثل جوهر الديموقراطية هي حق البشر في أن يكونوا إلى جانب بعضهم البعض كأفراد متساوين لديهم اهتمامات مشتركة وارتباط متقارب مع القيم الإنسانية، فهم يحظون إذن بالفرص عينها ويعيشون في الشروط ذاتها، ولديهم القدرة ذاتها على بلورة مجال إعلامي/ مجتمعي/ سياسي/ ثقافي/ اقتصادي/ كوني… الخ مفتوح، هو موطنهم الجديد وهم مواطنوه بقدر ما هم مواطنو بلدهم «الأصلي»، الذي لم يعد مرجعيتهم الوحيدة، في ظل النمط البازغ من التنظيم الإنساني، الذي تغلب عليه علاقة تزداد أفقية، يحلها النمط الجديد من الإعلام محل العلاقة الرأسية الموروثة، التي تجد نفسها في مواجهة تحدٍّ غير مألوف يقوض أسسها، فلا يمكنها وقفه، وإن أدى إلى هزة انقلابية كالتي أحدثها فرد أو مجموعة أفراد مجهولين يعملون في موقع معلوماتي، غدا بين يوم وليلة، أكثر مواقع إعلام العالم شهرة، وغدا «صاحبه» رجلا زعزع الوضع الدولي بأسره، مع أن قليلين فقط ربما كانوا قد سمعوا باسمه من قبل.
ثمة أمر مهم يلفت النظر في الظاهرة الجديدة، هو ردود الأفعال عليها، التي اتسمت بالارتباك الشديد، وبقدر مذهل من العجز عن اللحاق بالحدث، مع أن الجهة المعنية به هي الدولة الأكثر تقدماً في العالم، والسبب هو أن من استهدفهم بوثائقه ينتمون جميعهم إلى دول هي تكوينات جزئية، بينما ينتمي هو وموقعه إلى حالة تتخطى أي جزئية وأي كيان وطني أو دولوي، ولعل السبب في قصور أفعال خصوم الموقع يكمن هنا، وليس في سلوكهم الديموقراطي، كما يودّ بعضهم القول. لقد أدانوا عمل الموقع، لكن وسائلهم المحلية كانت عاجزة عن احتواء طابعه الكوني ودائرته العالمية. وسيمر وقت طويل ٌقبل أن يصلوا إلى حل فاعل يمكنهم من الرد بوسائل جزئية هي وسائل الدولة القومية على فعل ميدانه العالم، قام به مواطن غير منضبط قومياً ودولوياً، لكنه ملتزم إنسانياً، جاء من مكان طرفي هو أستراليا، وسدد ضربته في قلب العالم: أميركا، فتردد صداها على امتداد البشرية، فهي دون شك بداية مرحلة جديدة في الواقع الدولي، شأنها شأن «غزوة نيويورك»، مع فارق هائل هو أن هذه تسهم في تقويض العلاقات الدولية الراهنة، القائمة على السيطرة والاستغلال والعنف، ومختلف فنون الدجل والكذب والاستغفال، وفي حلول علاقات مختلفة محلها، أكثر نقاء وإنسانية منها!
هذه سمات أولية لزمن مقبل، تشاركي ومساواتي ومن طراز روحي وعقلي في متناول جميع البشر، رأسماله المواطن الحر، أو المصمم على حريته، والذي نلقاه عندنا في المدونين الشباب وغيرهم من بنات وأبناء الأجيال الجديدة، الراغبين في إسماع صوتهم، والذين يملكون بلا ريب ما يقولونه لأنفسهم ولنا، ونحن بانتظارهم!
السفير

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى