صفحات أخرىياسين الحاج صالح

مناقشة لكتاب «السلفي اليتيم» لحازم الأمين

ياسين الحاج صالح
هذه المقالة ليست عرضاً لكتاب «السلفي اليتيم، الوجه الفلسطيني للجهاد العالمي والقاعدة» (عن دار الساقي) لحازم الأمين، لكنها نقاش على هامشه، ومحاولة للبناء على أطروحته الرئيسية.
يربط الأمين بين الشتات الفلسطيني، أو ما يسميه أحياناً «ضائقة الهوية الفلسطينية»، والجهاد العالمي. ويرى أن «نزع الهوية عن مجتمعات الشتات في سياق الاقتلاع الذي مورس في حربي 1948 و1967، ولاحقاً في سياق احتكاك الشتات بخبرات اجتماعية ودينية أخرى، كل ذلك سهل مهمة السبق الفلسطيني إلى الجهاد العالمي». ويوفر الكتاب الموزع إلى فصول تتناول شخصيات مركزية في «السلفية الجهادية»، وترسم لوحات حية لبيئاتها، مادة كافية لتسويغ الربط.
لكن المؤلف يبدو متردداً في هذا الشأن مع ذلك. يتكلم مرة على «جوهر ثقافي وديني» موصوف بأنه على قدر كبير من القوة، ومرة على بنية دينية وتقليدية ثابتة ومتجاوزة حدود الدولة الوطنية، ويبدو التجاوز خاصية متأصلة في تلك البنية. وهذا لا يضعف الأطروحة المركزية فقط، بل يخرج من منهج التحليل الاجتماعي التاريخي الذي يمثل الكتاب بالذات إطاراً طيباً لإظهار خصوبته. ويحصل أن يجري التعبير عن الخروج بطريقة غامضة وغريبة: «ومرة أخرى لا يخرج متقصي هذه الحكايات بخلاصة يفضي إليها رصف منطقي للوقائع، وإنما عليه أن يجعل من غموض هذه الوقائع وعدم انسجامها وسيلة للتفسير».
هذا الكلام على غموض الوقائع غامض هو ذاته، وغير مقنع أيضاً، ويتعارض مع فكرة «التفسير» ذاتها، وليس فقط مع الأطروحة الرئيسة.
عبر هذه النقاط قدم الأمين تنازلات غير مبررة للمنهج الثقافوي الرائج اليوم، وعلى حساب أفضل ما في كتابه بالذات.
لكن ما هو الرابط بين الشتات الفلسطيني والجهاد العالمي؟ الشتات انفصال عن بيئة حية وعن تقليد اجتماعي وذاكرة مشتركة. محصلته حيوات متقطعة في مخيمات متدهورة. إنه هجرة ويُتم، واضطراب متولد عن «الإقامة المتقطعة» و «سرعة تبدل القيم والقواعد» بحسب الأمين. ولقد وفرت الحركة الوطنية الفلسطينية ومنظمة التحرير إطاراً لاستيعاب هذا الانفصال، وكانت المنظمة توصف حتى الثمانينات بأنها الوطن السياسي للشعب الفلسطيني. وبعد طردها من لبنان، وتدشين ما قد يسمى تجربة الشتات المضاعف (فقدان «الوطن السياسي» بعد فقدان الوطن الاجتماعي الواقعي)، انفتح الباب لوطن بديل، أكثر تجريداً وانفصالاً، هو «الإسلام»، وفي صيغته الأكثر تجريداً بعدُ: السلفية الجهادية.
يقول المؤلف إن السلفيين الجهاديين «وجدوا في الإسلام هوية بديلة تعوض عنهم فقدان هويتهم الأولى». ويضيف أن القاعدة مناسبة لهذا الغرض لأنها «تذيب كل الفروق، وتعيدها إلى فرق أول بين التوحيد والشرك، وبين المسلم وغير المسلم». وواضح أن الفروق المعنية بالتذويب هي تلك التي تحيل إلى بلد أو بيئة أو هوية خاصة.
الشتات أصلاً تجربة تجريد، والمجرّد ينجذب إلى المجرد الذي تمثله الحركة السلفية الجهادية. لقد نشأت هذه بفعل تلاقي حياة منفصلة، مجردة، منقطعة عن المكان والأهل من جهة، وعقيدة مجردة، منفصلة عن تاريخها ذاته، وعن أية بيئة ودودة، عقيدة ولدت في ظروف المحنة والانفصال.
لكن من أين ولدت العقيدة السلفية الجهادية ذاتها؟ ربما من تحولات انقلابية في البيئات الاجتماعية والثقافية لكتل كبيرة من المسلمين المعاصرين. بفعل التحولات الاقتصادية والتزايد الديموغرافي والهجرة الواسعة إلى المدن، وتكون الدول الإقليمية الحديثة، شهد العالم الإسلامي (وغير الإسلامي في كل مكان من «العالم الثالث») بعد الحرب العالمية الثانية حراكاً بشرياً قد يكون الأوسع في تاريخه، انهارت بفعله البيئات التقليدية الموروثة من عشيرة ومحلة وحي ونمط حياة تكافلي، وكفافي غالباً. الشتات الفلسطيني، تالياً، ليس إلا الشكل القياسي، الأعنف والأكثر عدوانية، لشتات واسع النطاق، جوهره تغير سريع وعاصف في البيئات واللغات والذاكرات والخبرات لمئات ملايين الناس. كان أبو الأعلى المودودي هندياً في مجتمع كان يخف فيه وزن المسلمين وتشعر نخبهم بالغربة والاقتلاع وضآلة الوزن. وكان سيد قطب مصرياً صدمه نمط الحياة الأميركي، ثم سجن وعذب في السجون المصرية، قبل أن يُعدم. وكانت البيئة الاجتماعية في العربية السعودية تعرضت لانقلابات بالغة السرعة من حياة الريف والبوادي والمدن الصغيرة إلى حياة أشد تعقيداً بما لا يقاس بفعل التمديُن والدولة والريع النفطي. ومعلوم أن السلفية الجهادية تركيب بين سلفية سعودية المصدر عموماً وبين جهادية مصرية أساساً، على ما يقول المؤلف ذاته.
ليس الشتات في أصل «الجهاد العالمي» إلا لأنه شتات عالمي هو ذاته: نطاقه واسع جداً وعالمي، ولأنه تجربة إنسانية عامة، وجدت العرض الإيديولوجي الأنسب لها في «الإسلام». لماذا؟ لأنه، الإسلام، صيغة عالمية للوجود يتعرف اليها بسهولة أولئك المقتلعون «الهائمون على وجوههم» (تعبير الأمين). ولأنه الطبقة العميقة الحية من الوعي التي يرجح أن تقف عليها جماعاتتعرضت لتعرية اجتماعية وثقافية، ولتجريد بالغ القسوة من مواطنها الحية. أضحى الفلسطيني مجاهداً عالمياً لأنه، لم يعد مقدسياً أو خليلياً…، ولأنه حُطِّمت فلسطينيته (ممثلة بمنظمة التحرير). ولعله بفعل هذا التجريد المفرط ليس هناك جهاد غير عالمي. المجاهد العالمي قلما يجاهد على أرضه وفي بيئته الخاصة. يذهب عبدالله عزام الفلسطيني إلى أفغانستان، ويتخذ أبو مصعب الزرقاوي من العراق قاعدة لجهاده. ويذهب أيمن الظواهري، المصري الأصل، إلى الشيشان لاختبار فرص الجهاد فيها، قبل أن يعود مجدداً إلى القاعدة الأفغانية. وبالعكس، حين ظهرت مجموعة سلفية جهادية في غزة، «جند أنصار الله»، بادرت حماس إلى سحقها بقسوة متناهية (آب/أغسطس 2009). ولعل بلداناً مثل أفغانستان، وبدرجة أقل العراق، وربما اليوم الصومال، ملائمة للجهاد العالمي بالضبط لأنها لا أوطان، أي لا توفر لهم «مرتكزاً نفسياً» يكبح الانزلاق إلى ما يتعدى «ما هو معيش ومختبر» بعبارة المؤلف.
إيديولوجية هؤلاء تقول إنهم في وطنهم في كل مكان من العالم الإسلامي. لكن لعلنا على حق أكبر إن قلنا إنهم غرباء في كل مكان، وغربتهم ليست عارضة، بل هي التجربة المكونة لكل منهم. وهم راديكاليون بنسبة جذرية اقتلاع بيئاتهم، وحساسيتهم لتجربة الاقتلاع تلك. ولعل تعريتهم وتجريدهم ينشّطان جوانب المتخيل الإسلامي الأشد تفاصلاً وقطيعة وعنفاً. تعبير «التفاصل» لسيد قطب، وهو مؤشر على إرادة انفصال جذرية عن «الجاهلية» التي شخصها في مصر المعاصرة له.
تحاول هذه المناقشة إضفاء قدر من المعقولية (ولا أقول العقلانية) على ظاهرة «الجهاد العالمي» الإسلامية، ضداً على تيار واسع يظن أنه يواجهها أفضل إن أنكر عليها كل منطق وعقل. أي إن مارس ضدها تكفيراً مضاداً.
الحياة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى