صفحات سورية

العسكري والسياسي والثقافي

null


د.نديم المعلا

تحتفي أوروبا بإسرائيل، هذه الأيام، إذ يقترب مرور ستين عاماً على تأسيسها. ففي باريس تحل ضيفة على معرض الكتاب. وفي باريس يقف العجوز شمعون بيريز، ليفيض في الحديث عن “أولئك الذين يحرقون الكتب ويقاطعون الحكمة” وهو الذي أحرقت قنابل جيشه الأطفال -وليس الكتب- في “قانا” القرية الجنوبية اللبنانية!

وقد ذهب بعض المعنيين بالثقافة من الفرنسيين وبعض العرب أيضا، إلى القول بفصل الثقافة عن السياسة. وإذا سلّمنا بمثل هذا الفصل، رغم صعوبته، كيف تكرّم دولة إنجازاتها الثقافية ليست محدودة فحسب، وإنما تُبشر بالعنف ضد “الغيريم” أي ضد الآخر العربي، وتدعو إلى عسكرة المجتمع ليكون قادراً على شن الحروب السريعة على الجيران، كلما سنحت الفرصة بذلك. ولم يحدث في العقود الستة التي مضت على التأسيس، أن كانت إسرائيل في وضع دفاعي، لأن من “يدافع” لا يحتل أراضي الآخرين، ويعمل على “تشريع” هذا الاحتلال، متكئاً على أسطرة التاريخ حيناً، وعلى تواطؤ الغرب المتعاطف مع شعب، “كفاه شتاتاً في الأرض!”.

إنتاج الثقافة أم إنتاج الحرب، ذلك الذي شغل الدولة العبرية. في مقابلات أجرتها “قناة الجزيرة” من خلال برنامج “إسرائيل رؤية من الداخل”، شكا بعض اليهود من ذوي الأصول الروسية، الذين تقاطروا على “الفردوس” و“أرض الميعاد” من ضحالة الوضع الثقافي، ومن أنهم جاؤوا من ثقافة شمولية (الثقافة السوفييتية) إلى ثقافة بائسة. أي من وجود ثقافة بملامح خاصة، إلى ثقافة يكاد وجودها أن يكون معدوماً.

المسألة ليست في حرية التعبير، بل في الاستخفاف بالثقافة بعامة. ولعل الثقافة المزدهرة، بوجوهها الأوروبية والفنية، قد تُشيع ضرباً من الاسترخاء، أو لعلها تغذي الروح بدفق إنساني يحد من العسكرة، وقد يعطل آلة الحرب التي يقول عنها إيهود باراك (الملقب بالبرق) إنها الوحيدة التي حافظت على الدولة.

العسكرة إذن في مواجهة الثقافة. ولا يمكن لبنية عسكرية، إلا أن تكون المهيمنة والعميقة في مجتمع تلك ملامحه، وهذه بنياته.

وما كان “لأثينا” أن تنتج تلك الثقافة المزدهرة، وما كان لها أن تزهو بديمقراطيتها التي أسعفتها الثقافة المزدهرة، إذ ضخت الوعي في أفراد مجتمعها، لو أنها كانت كروما المُعسكرة، الطامحة إلى إشعال الحروب.

الاحتفاء بإسرائيل، في جوهره، سياسي وليس ثقافياً. وفرنسا -ساركوزي- تنظر إلى الشرق الأوسط بعين واحدة. عين لا ترى سوى إسرائيل. والأهم من ذلك أن الرئيس الفرنسي لا يخفي “هيامه” بإسرائيل وقلقه عليها!

ثمة حنين لوشائج قديمة يستيقظ الآن مُباشراً وشفّافاً. والإرث الذي تنهض فرنسا عليه، يعود إلى التعاون النووي (مفاعلات ديمونه) وإلى شراكة حرب السويس 1956 وأخرى لم يكشف عنها النقاب بعد.

وما يلفت الانتباه أن فرنسا تعرف كيف تلعب بمهارة وتقفز على الحبال بتوازن يثير الإعجاب. صفقات في الخليج، ودعم بلا حدود لإسرائيل! وطالما أننا قوم “طيبون” محبون للخير، فلم لا؟

إسرائيل ترسم استراتيجياتها وتعمل على تنفيذها. فبعد أميركا ها هي تحقق الاختراق تلو الآخر في أوروبا. وهذه الأخيرة (وفيها أكبر دولتين نافذتين هما فرنسا وألمانيا) تهرول باتجاه الأرض المقدسة (وهي تعني بالنسبة إليها إسرائيل حصرًا) لكي لا تسبقها أميركا.

هل فكرنا يوماً في دراسة آلية الفعل الإسرائيلي وطبيعة حركته؟ أبداً كل ما فعلناه هو الاسترسال في الخطاب الإنشائي وضيق الأفق. في زمن الحرب الباردة، أُنشِئت عشرات مراكز الأبحاث، في كل من الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي. وكان هدفها المُضمر، تغذية مواقع القرار والاستخبارات بمزيد من استبطان العدو.

ثمة من يريد الآن إدارة ظهره للماضي القريب وكل ما ارتبط ويرتبط به، بزعم بات يجد له مؤيديه من الليبراليين الجدد وغيرهم، وهو أننا في زمن الوفاق والحوار … لكن وكما يقول المثل الشعبي “رضينا بالهم والهم لم يَرضَ بنا” . فالدولة العبرية لا تريد إلا ما تمليه مصالحها. وهي محصنة. وحصانتها ليست محل نقاش، لأن القارتين العجوز والشابة على حد سواء، تحميانها، بل وتعتبران أن كل اعتداء يستهدف وجودها، اعتداء عليهما، -كما قالت المستشارة الألمانية- التي أعيتها وسائل الاعتذار من اليهود الذين أتت عليهم المحرقة!

نحن الذين لم نحسن يوماً إدارة شؤوننا، ولم نعرف كيف نوظف “بعض” اقتصادنا، أو بعبارة أخرى الحدود الدنيا لاقتصادنا، للوصول إلى الحدود الدنيا، من الأمن والسلام. الإدانات كلها، والاتهامات كلها، واللعنات كلها، تنصب على بضعة صواريخ تنطلق من غزة. ولا أحد منهم يظهر قليلاً من الأسف على عشرات الأطفال الذين يسقطون تحت الأنقاض، أو في العراء.

وإذا كان الشقاق العربي قد استفحل وغدا مرضاً عُضالاً يستحيل علاجه، فلنبحث عن قواسم مشتركة، نعيد عبرها اكتشاف أنفسنا ونعلمها لأبنائنا، لعلهم يكونون أكثر عقلانية منا. فيضعون حجر الأساس لمشروع “خرافي” قد يتحقق ، وقد لا يتحقق . ولعل الممانعة التي تقابل بها المشاريع العربية، تسقط ولو بفعل عوامل التعرية! بين الثقافة والسياسة والعسكرة علاقة جدلية. وربما تتبادل المواقع لكنها لا تغيب عن فضاء الفعل.

إسرائيل ضيفة شرف. إذن فهي نظيفة. إنهم يُبّيضون حاضرها وماضيها.

كاتب من سورية

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى