إياد العبداللهذاكرة الصفحات

من ذاكرة الصفحات: سورية الوطنية..سورية الديمقراطية

null
إياد العبدالله
لا يشير تاريخ سورية الحديث والمعاصر إلى أن تناغماً من نوع ما قد حصل بين الوطنية والديمقراطية إلا في ما ندر. ورغم أن هذا لا يبدو خاصية سورية محضة تشذ في وقائعها عن محيطها العربي، المشرقي منه خصوصاً؛ فإنه لا ينفي خصوصية سورية ـ أو بعضها ـ من نوع معين.
وإذا كانت بعضاً من جذور هذا الانفصال تعود إلى بدايات القرن العشرين، إلا أن ملامحه المعاصرة تعود تحديداً إلى الدولة الوطنية الاستقلالية، وخصوصاً ما بعد هزيمة العرب أمام إسرائيل عام 1948، التي سترسم إلى حد بعيد تاريخ المنطقة المعاصر على العموم. إذ أن الشعارات التي سيرفعها الفكر العربي، أقله حتى 1967، سوف تدور أغلبها حول ضرورة الوحدة وتحرير فلسطين وإزالة إسرائيل من الوجود، ومن ناحية أخرى أبرزت دور العسكر الذين سرعان ما استولوا على الدولة تحت شعار انجاز ما فشلت الدولة السابقة عن انجازه، من تحرير ووحدة وتنمية…إلخ. وجدير بالذكر أن هذه الأهداف المبتغاة لم تخرج، أيديولوجياً ومفاهيمياً، عن الإطار الذي رسمته حركات التحرر الوطني، وهو إطار تتحدد فيه الذات بالسلب، أي بالضد من طرف آخر، وهو في حالتنا هذه الاستعمار. ولم يشذ مفهوم التنمية عن هذه المعادلة، حيث تمت صياغته عبر مفردات الصراع التي سادت في حركات التحرر الوطني بحيث يظهر الاستعمار و” أتباعه في الداخل ” العائق الرئيس أمام انجاز هذه التنمية. وبما أن الاستعمار الأوروبي كان قد خرج، فإن إسرائيل هي التي ستملأ الفراغ، وسيتم التعامل معها على أنها أحد استطالاته. وهو ما أخذ ينعكس على الدولة التي برزت بوصفها القائدة لمشاريع التحديث والتقدم والتنمية، بأنها من حيث الوظيفة والأسس أخذت تشهد انزياحات قاسية تجعل من مفردات الذاتية والصراع والحرب أسساً ثابتة من ثوابتها. وهو ما سيظهر بشكل جلي بعد وصول حزب البعث إلى سدة السلطة في آذار 1963، حيث تم اعتماد الايديولوجيا البعثية وما تتضمنه من مطالب وشعارات قومية بوصفها البرنامج التحديثي للدولة. وعلى الرغم من اصطفاف العديد من المفاهيم التي ترسم اللوحة الأيديولوجية لحزب البعث، كالحرية والاشتراكية والديمقراطية الشعبية..إلخ، إلا أن هذه العناصر تم حشدها وتحديد وظائفها فقط بما يخدم الهوية القومية التي ظهرت هوية سلبية تعرف بنقائضها؛ فهي هوية عربية ضد كل ما هو أجنبي ودخيل، وهي ذات مضمون رسالي روحاني وضد كل ما هو مادي (الشيوعية)، وهي أيضاً وحدوية وتقدمية ضد كل ما يثير التفرقة والتعددية وكل ما هو رجعي…إلخ. وهو ما سيلقي بظلاله على شكل الوطنية التي سيعتمدها حزب البعث الحاكم ويعمل على تعميمها، وهي وطنية في مواجهة إسرائيل ومن ورائها الاستعمار والامبريالية من ناحية، وفي مواجهة ” امتداداتهم ” في الداخل من جهة أخرى. إن اقتصار الدولة على صفتها الصراعية تلك، شكل القاعدة الأيديولوجية لدولة الطوارئ التي لن تستقيم دون شيطنة الآخر داخلياً كان أم خارجياً، من أجل تحقيق التماسك والتلاحم. وهو ما أسس لحالة من التخارج بين قيم الدولة وقيم المجتمع، إذ إن استئثار الأولى بالقيم الوطنية جعلها تطلب من المجتمع أن يترفع عن قيمه ومصالحه والالتحاق بها، حتى يغدو وطنياً، وهذا ما قلب مفهوم الشرعية، فالمجتمع يأخذ شرعيته من الدولة، لا العكس. وبسبب أيديولوجيا الحرب التي غدت أصلاً من أصول الدولة، أخذت تغلب على النظام مظاهر العسكرة، دافعاً بهويته الحزبية إلى الوراء من غير أن يتخل عنها، فلم يكتف بعسكرة الراهن بكل تعبيراته من خلال نزعة “التثكين” التي طالت مجمل قطاعاته، بل قام بعسكرة الماضي وقراءته عبر مفردات الصمود والانتصار والمؤامرة. ومن ثم قام بقراءة كلاً من الماضي والمستقبل قراءة وحدوية معربة ( الماضي العربي، المستقبل العربي ).
ورغم أن المواجهة مع الآخرـ الغريب الذي ستتسع دلالاته بعد هزيمة 1967 لتشمل الغرب عموماً، وهو ما أخذت تشارك في صياغته قطاعات اجتماعية وثقافية واسعة، إلا أن هذا الأمر سيأخذ بالاستفحال على إثر أزمة الثمانينات في القرن المنصرم، من خلال التسويق لمصطلح “الغزو الثقافي” والتأكيد من ثمّ على الذاتية العربيةـ الإسلامية، وهو أمر لم يكن النظام السياسي السوري ببعيد عنه وخصوصاً أنه أخذ يستقدم المرموز الإسلامي في خطابه بقوة، وهو ما وجد إحدى تموضعاته في مقولة “العروبة والإسلام” التي ظهرت للاستهلاك السوري بحدة خصوصاً في التسعينيات بعد انهيار المعسكر الاشتراكي عبر إعلام النظام السياسي السوري ومنابره الثقافية. وما زالت هذه المقولة حاضرة بقوة حتى الآن في الخطاب الرسمي السوري، وخصوصاً بعد أحداث الحادي عشر من أيلول عموماً، وبعد اغتيال الرئيس رفيق الحريري خصوصاً، وانعكاساتها على المنطقة وعلى النظام السوري تحديداً، حيث غدت هذه المقولة بمثابة العدة الإيديولوجية لخطاب القطيعة “الوطني” مع الغرب عموماً؛ وهو ما ساعد على إحياء تقاليد التخوين والعمالة بشكل لافت اتجاه أي حالة نقدية للنظام السوري من قبل التعبيرات السياسية المعارضة لسياساته والتي برزت إلى الوجود، حديثاً، على إثر رحيل الرئيس السوري حافظ الأسد.
إن هذه “الوطنية” التي نذرت نفسها لمنافحة المستعمر والأجنبي، لم تنجح إلا في استقدامه من جديد، وهذا يعكس الإفلاس الذي أخذ يحيق بها وبخطابها القومي، فلا هي نمّت ولا حررت وهاهي السيادة والاستقلال في خطر. إن هذا النموذج من الأنظمة أضعف الاعتقاد بالفكر القومي وبنجاعته، فأخذت تسري إعلانات موته من قبل البعض. وهو ما بدا واضحاً على إثر انهيار السوفييت وحرب الخليج الثانية اللذان سوف يشكلان نقطة تحول كبرى، في المنطقة ككل، على صعيد الأيديولوجيات والسياسات، إذ ستبدأ الدعوات العروبية التوحيدية بالخفوت لصالح بروز نزعة تروم الاكتفاء بالعناصر المحلية القطرية ورفعها إلى مصاف القومية الكاملة. وإن كان هذا الأمر أخذ بالظهور عند بعض الأنظمة إلى هذا الحد أو ذاك، إلا أنه عند بعض النخب السياسية والثقافية تحول إلى برنامج وخيار. والملاحظ في هذه النخب أنها تعتمد الديمقراطية المطلقة هوية وانتماءاً في مواجهة جميع الأيديولوجيات التي كانت سائدة والتي وسمت بالاستبداد والانحطاط. وسينتظر هذا المزاج الطارئ الذي سيدعي الليبرالية، حتى قيام أحداث الحادي عشر من أيلول حتى تكتمل عناصر كفاحيته التي ستظهر أنها في اتجاه نقيض لما سارت، وما زالت، عليه الوطنيات السلطوية المحاربة، مع من يعضدها أيديولوجياً على الأقل. فإذا كانت هذه الأخيرة حشدية تستعين بما يتيحه “الداخل” من عناصر يمكن تعريبها أو أسلمتها ( تراث وبنى ومؤسسات وجماهير..) في مواجهة “الخارج”، فإن الديمقراطية المكافحة المستجدة هي حشدية أيضاً تستلهم “الخارج” في مواجهة “الداخل” الذي تستوي فيه كل العناصر ( نظم الحكم والمجتمع والتاريخ والثقافة…) بعد وسمها بالتخلف والاستبداد والإرهاب، وهي لذلك متحررة من كل ما هو عربي ومسالمة اتجاه الخارج ومقرعة للداخل. وإذا غدا في خطاب الوطنية السلطوية، ومن يصطف معها أيديولوجياً، ثمة حضوراً كثيفاً لحماس وحزب الله وإيران ( والبعض يضيف صدام حسين والزرقاوي!!) كمحطات لابد من المرور بها للوصول إلى بر الوطنية الخالصة، فإن خطاب الديمقراطية المطلقة سيحرص على تسجيل مدى نفوره من هذه المحطات من حيث أنها تنتصب علماً على أيديولوجيات ( إسلامية وقومية) مستبدة وفاسدة.
لا ينطوي ما تقدم من حديث عن خطاب الليبراليين الجدد على أي حكم قيمة وهولا ينوي تخويناً ولا مزايدة، كما يطيب لأهل النظام الذي جعل من الولاء له بارومتر الوطنية، وإنما يهدف إلى نقد آليات هذا الخطاب وخياراته. وفي هذا السياق هل يصح القول أن هذا الخطاب إنما يستمد محدداته وخياراته بل وشرعيته من العناصر التي استمد منها الخطاب “الوطني” السلطوي وجوده، وذلك من حيث أن كليهما خطاب مواجهة، ويستمد وجوده من هذه المواجهة، لا خطاب بناء؟ أليست، وبعيداً عن التلفيق والابتذال السياسيين، سورية الديمقراطية هي سورية الوطنية كما أن سوريا الوطنية هي سورية الديمقراطية، كما تذهب العديد من النخب السياسية والثقافية الوطنية الديمقراطية في سوريا؟ أسئلة ما زال الاستبداد والسياسات الغربية والإسرائيلية الشرق أوسطية، تمنعها عن التبلور واقعياً.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى