صفحات العالمميشيل كيلو

فضيحة النظام الدولي

ميشيل كيلو
لا شك في أن العالم سيبقى لفترة طويلة مشغولاً بوثائق “ويكليلكس”، التي تمثل فضيحة حقيقية للنظام الدولي، ليس فقط لأنها كشفت الكثير من خباياه وأسراره، أو لأنها ألقت أضواء على استراتيجيات أطرافه المختلفة وعلى حقيقة مواقفها من مشكلاته المتباينة، أو بينت وجوهه المتناقضة المختلفة كثيراً عن الصور الزاهية التي تقدمها دوله في دعاياتها، بل كذلك لأنها ألقت أضواء على أساليب اتخاذ القرار في الدول الكبرى وغيرها من دول، وعلى نوع الحكام الذين يديرون شؤون عالمنا، بينما أظهرت ذلك القدر الكبير من الجهل وعدم الاكتراث الذي يبدونه حيال مسائل بالغة الحساسية يكلف حلها بطريقتهم البشرية ملايين القتلى والجرحى والمشردين، وألمحت إلى الهوة بين أقوال وأفعال معظم قادة عالمنا، وخاصة المغلوبين منهم على أمرهم، الذي يمدون أيديهم من تحت الطاولة إلى خصومهم الخارجيين، في حين تطلق دعاياتهم صرخات تحد مدوية ضدهم، وتدّعي تبني مواقف تعاكس تماماً ما يفعله هؤلاء في الواقع، أو ما يريدون الوصول إليه من أهداف، فكأن السياسة ليست تلك التي يعلنون عنها ويتم إقناع البشر العاديين بحججها ومسوغاتها، بل تلك التي تتم بعيداً عن أعين الشعوب، في عتمة علاقات غير مرئية يقيمها الزعماء بعضهم مع بعض، ويحرصون على بقائها خارج دائرة الضوء، كي لا يفتضح أمر سياساتهم وتظهر على حقيقتها، أو تواجه بمقاومة ومعاندة مواطنيهم، الذين هم ضحايا لها . في هذه النقطة، أكدت الوثائق شكوك الناس العاديين في كل مكان حيال سياسات بلدانهم، وأوردت أدلة تبين الهوة بين ما يقال وما يفعل، ودور المراوغة في طمس الحقائق وتعمية الوقائع، وتظهر طابع تقسيم العمل العام بين المراكز صاحبة القرار، وخاصة منها الولايات المتحدة الأمريكية، التي تقيم حاضنة عامة يجب أن تعالج الأمور فيها قبل أن تحل، فاستراتيجيتها هي نقطة العلام التي يهتدي الجميع بمتطلباتها، وعليهم أن لا يحيدوا عنها لأنها ترسم الطريق التي عليهم سلوكها، وإلا خرجوا عن “الخط” المقرر، وفوتوا على أنفسهم فرصة الاعتراف بهامش المناورة الذي يساعدهم على ممارسة “سياساتهم الحقيقية”، في إطار السرية والمراوغة، وقول شيء وفعل شيء . هل هذا جديد؟ إنه ليس جديداً، لكن الوثائق تكشفه باعتباره الساحة التي تصنع فيها السياسة، وليس وجهها النقيض، كما كانت تروج دعايات النظم، التي يراد لنا تصديقها وقبولها .
إنها إذن العلاقات الدولية على حقيقتها: من دون قناع من كذب أو تزييف . وهي كذلك علاقات دول الدرجة الثانية والثالثة بعضها ببعض، التي تمكن القوى العظمى من التلاعب فيها واختراقها . ولعله من المهم أن يعرف الرجل العادي الآراء الحقيقية لساسته في زملائهم، أي في من يسمونهم غالباً “إخوتهم” من حكام البلدان المجاورة أو التي تنتمي إلى مجال وطني وقومي واحد كالبلدان العربية، حيث يبدو بجلاء أن من يديرون شؤونها ليسوا إخوة أو أصدقاء أو حتى زملاء، بل هم أعداء يتعاملون بأعلى قدر من الريبة والشكوك، فلا عجب إذا كانت أدوارهم تلحق ضرراً فادحاً ببلدانهم وبعلاقات المجتمعات العربية، وتخرب ما تركه التاريخ فيها من روابط طبيعية وموروثة وأدى استمرار سياساتهم إلى انهيار أمتهم انهياراً مضطرداً . كم هي مؤلمة معرفة نوايا ومواقف العرب الرسميين حيال بعضهم، وكم هي شديدة رغبتهم في تحقير وتقويض غيرهم، وكم تفصح زلات اللسان عن حقيقة الأفكار والمشاعر، والكلمات العابرة عمّا يكمن وراءها من عواطف ورغبات، وكم تحمل الألفاظ الواحدة مضامين متضاربة ومدمرة . هنا أيضاً، نجد أنفسنا في مواجهة عالمين متناقضين يتحدث أحدهما لغة كلامية خشبية عن الأخوة والرابطة العربية الجامعة والمصالح القومية المشتركة، بينما لا يجد الآخر شيئاً إيجابيا في الآخر، ويسعى عملياً للقضاء عليه، في أول فرصة وبأي ثمن .
تقول القيم التي يقال إن النظام الدولي قام عليها باحترام حقوق الإنسان وحق الشعوب في تقرير مصيرها وحل النزاعات الدولية سلمياً وعدم التدخل في شؤون الآخرين وتساوي الدول أمام القانون الدولي . . . الخ، ويفعل النظام العالمي القائم عكس هذا تماماً، فحقوق الإنسان ليست محترمة أو مصانة في أية سياسة، والشعوب لا تقرر مصيرها بنفسها لأنها ممنوعة من ذلك، والتدخل في شؤون الآخرين هو الوضع السائد، وليس هناك قانون دولي يستطيع جعل الدول متساوية أمامه . في هذا السياق، تمثل الوثائق كنزاً ثميناً لا ينضب له معين، وتقدم أدلة وقرائن ووقائع لا حصر لها تبين أن العالم غابة والنظام الدولي مجرد مسرح للإجرام والعنف والاستغلال والنهب والقوة والظلم، يبتلع الكبير فيها الصغير من دون تردد أو رحمة .
من هذا الجانب، تمثل الوثائق فضيحة للنظام الدولي، وتطرح ضرورة إقامة تطابق بينه وبين القيم التي يتشدق باعتناقها والعمل من أجلها، ويزعم أنها الدليل الهادي الذي يوجه سياسات الممسكين بأعنته، بينما يقول الواقع الذي أوردته الوثائق إنه عكس ذلك تماماً، فهو ليس ساحة تقيم الدول فيها علاقاتها وتوازن مصالحها على أرضية مشتركة، بل ميدان تسيطر عليه قوى قليلة تفرض معاييرها الخاصة على من تجرهم إليه من شعوب ودول، حيث تمسك بهم بقبضة حديدية وتعرّف مصالحهم وحدود إراداتهم والجوانب الرئيسة من أدوارهم، وتعتبر أن هذا هو “النظام الدولي”، الذي يفترض بالأمم المتحدة ومجلس الأمن الدولي السهر على استمراره، ولعل خير برهان على طبيعة هذا النظام ما قاله مؤسس الموقع نفسه حول طريقة نشر وثائقه في الصحافة الأمريكية والبريطانية، التي أبرزت ما قيل في الوثائق عن إيران وحجبت ما قيل عن “إسرائيل”، وحاولت الإيحاء بأن سياسات تل أبيب لم تفعل شيئاً يمكن مؤاخذتها عليه، وإلا لكانت الوثائق كشفته وعممته، وصمتت عن فضيحة حقيقية هي التفاهم الأمريكي/ “الإسرائيلي” عام 2009 على الاستيطان، تفاهم تم قبل خطاب أوباما في القاهرة وما قاله عن إصرار أمريكا على إقامة دولة فلسطينية خلال عام، ثم بينت الوثائق أنه ليس غير كذب في كذب، وأن أمريكا تحدثت كلامياً في اتجاه وذهبت عملياً في اتجاه آخر، مناقض له تماماً، بموافقتها على استمرار الاستيطان والاحتلال “الإسرائيليين” .
يبقى أخيراً التأكيد على أن ما تضمنته الوثائق يسهم في توضيح طابع عالمنا السياسي وعلاقات دوله وقياداته وشعوبه، وأن هذا ضروري جداً لاكتساب وعي جديد يساعدنا جميعاً على تحديد جديد لدورنا في عالم يضحك علينا نحن الضعفاء والمغلوبين على أمرنا، فلا مفر من أن نتعامل معه بكل جدية، إذا أردنا للنظام الدولي أن يكون لنا أيضاً، نظاماً ينشد خير الإنسانية، ويعمل لصالح شعوبها، وليس نظاماً يعيش من استغفالها والتلاعب بأقدارها .
الخليج

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى