صفحات العالممازن كم الماز

دعوة لإطلاق حرية الاعتقاد و الضمير و كف يد المؤسسات الدينية و الدولة عن قمع حرية الفكر

مازن كم الماز
حقيقة أن معظم ردود الفعل التي رافقت مجزرة كنيسة القديسين رددت و دعت إلى إجراءات قمعية في الأساس و انتقدت تقصير أجهزة أمن النظام أساسا دون انتقاد مجمل البنية القمعية التي يقوم عليها و كأن المطلوب هو الإبقاء عليها و لكن إعطاء الأوامر الصحيحة لها و تكليفها بقمع القوى الصحيحة هذه المرة , يفهم من هذا أن مناخ القمع الفكري , و السياسي و الاجتماعي , الذي كان قد بدأ يستعيد زخمه من جديد قبل المجزرة سيشهد دفعة قوية إلى الأمام , لقد مارست مشيخة الأزهر و الكنيسة القبطية و العديد من رجل الدين من مختلف الأديان دورا هاما في ملاحقة الفكر الحر و تجريم و تحريم أي نقد لهذه المؤسسات أو للأفكار الدينية التي تعتبر نفسها ممثلتها على الأرض , كما مارست كل هذه المؤسسات الدينية حصارا هائلا إن لم يكن شاملا على حرية الاعتقاد و الضمير و استخدمت وسائل قمعية صريحة في مواجهة أي مرتدين أو محاولات لتغيير العقيدة الموروثة عن الأبوين , هذا عزز في حقيقة الأمر استلاب المواطن العادي و فرض عليه , إلى جانب الاستبداد السياسي و الاستغلال الاجتماعي , تهميشا و قهرا عقليا و روحيا كرس وضعيته ككائن مستلب من كل تلك القوى التي تمارس قمعه و استلابه , إن إضافة ما يسمى بالوحدة الوطنية إلى قائمة طويلة من حجج و مبررات هذا القمع و الاستلاب و تكريس المفهوم الضيق الشمولي و القمعي للهوية و اعتبار أن المؤسسات الدينية هي الممثل الفعلي عن أعضاء طوائفها و زيادة الحصانة التي تتمتع بها ضد النقد أو محاولات التفكير المستقل يعني أن هذا القمع و الاستلاب مرشح للتضخم على حساب الإنسان أولا من أي طائفة أو دين و لصالح القراءة الشمولية القمعية و النافية ليس فقط للآخر في حقيقة الأمر بل و خاصة لأية محاولة للتفكير الحر و لانتزاع حرية الضمير و الاعتقاد من سطوة قمع و استلاب هذه المؤسسات …. طالما قامت المؤسسات الدينية على فرضية امتلاكها للحقيقة المطلقة و أن من لا يقبل بحقيقتها المطلقة هو جاحد للواقع و منكر للحق , ذكر أبو حيان التوحيدي عن معلمه أبي سليمان المنطقي في الإمتاع و المؤانسة أن الدين موضوع على القبول و التسليم و المبالغة في التعظيم و ليس فيه لم و لا كيف إلا بقدر ما يؤكد أصله لان ما زاد على ذلك يوهن الأصل بالشك و يقدح في الفرع بالتهمة , لذلك فإن المؤسسات الدينية تزعم بعدم وجود تناقض بين العقل و نصها المقدس لكنها في الواقع ترفض أساسا الاحتكام لسلطان العقل , إن سلاحها هو القمع الفكري و ليست حرية الفكر , و لو زعمت غير ذلك , أنا أعتقد أن حرية الاعتقاد في المجتمع البرجوازي ستبقى ناقصة كأي حرية أخرى , طالما استمر تقسيم البشر وفق امتيازات مزعومة و مصطنعة , لكني أعتقد أيضا أنه الوقت المناسب الآن لتحدي المؤسسات الدينية لكي تتنازل عن حقها في قمع العقل لصالح معتقداتها المغلقة , إنني أعتقد أن اليوم هو الوقت الصحيح لنطالب هذه المؤسسات و رجال الدين من كل الأديان بأن يتوقفوا عن تكفير من يغير دينه أو إصدار أحكام الردة ضده , أن يلجؤوا للإقناع بدلا من الهجمات الهوسية الطابع ضد أي نقد يطال معتقداتها المغلقة السكونية و التي تزعم أنها فوق العقل و الإنسان أساسا , لترفع هذه المؤسسات يدها عن حرية العقل الإنساني , ليكون من حق أي إنسان أن يغير دينه إن شاء أو أن ينتقد أية فكرة أو معتقد , مهما كان مقدسا لسدنته و كهنته , و ليحتفظ هؤلاء بحق الرد , النقاش الحر مع الآخر , إن كانوا صادقين ……
كلمة أخيرة فيما يتعلق بالنقاش عن مجزرة كنيسة القديسين , الأستاذ بشارة , أنت تتصرف على نحو مدرسي كما يفعل كل من يعلن امتلاكه الحقيقة المطلقة , تردد أنه علي و على أمثالي أن يراجعوا أنفسهم ليصلوا إلى نتيجة واحدة فقط أن يعترفوا بالحق الذي تدعونا إليه , هذا مدرسي تماما , الكتب المقدسة تعتبر أيضا الحقيقة المطلقة التي تدعو إليها واضحة لدرجة البداهة بحيث لا ينكرها إلا جاحد أو معاند , أنت تريد أن تجعل من قضية حرية الإنسان و حتى حياته قضية لاهوتية تعتمد على تفسير نصوص كتاب مقدس ما , و أنت تعدنا أن التفسيرات التي أدت في الماضي إلى قتل من فكر بحرية قد استبدلت بتفسيرات أخرى لا توافق على القتل بل و تزعم أنه لا توجد نصوص تبرر هذا القتل الذي جرى بالفعل ضد الآلاف , ربما الملايين , هل تريد لنا حقا أن تكون حريتنا و حياتنا متوقفة على تفسير عدد محدود من المهووسين برب ما أو بدوغما ما لنص ما فوق كل البشر , سواء أكان هذا النص من التوراة أو الإنجيل أو القرآن , أنت تفعل بالضبط ما يفعله الفقهاء المسلمون , الموقف النصوصي الأصولي المعادي للآخر أسميه تلفيقيا , أي يمكن لأي شخص يرفض الآخر و يكفره و يجرمه و يحرم الخروج على مقدساته المزعومة أن يدعي أن نصه المقدس هذا جاء فيه ما يشبه لا إكراه في الدين بينما يمارس هو الإكراه صباح مساء ضد الجميع , خاصة ضد حرية العقل الإنساني , أنت لا تستطيع أن تأخذ موقفا موضوعيا من قضية بسيطة جدا , نحن لا نعرف كيف نفذ الاعتداء على كنيسة القديسين حتى اليوم لكن من البديهي أن من يقوم بقتل نفسه هو في أضعف الأحوال ليس جبانا , هذه حقيقة موضوعية و لا علاقة لها بصحة الفعل من عدمه , إذا كنت ترفض الاعتراف بشيء على هذا المستوى فأي نقاش موضوعي تريد الخوض فيه , ألا ينتهي هذا النقاش
كما فعل أنبياء القرآن و العهد القديم عندما كانوا يلجؤون أخيرا إلى إلههم و يطالبونه بإنزال عقاب الاستئصال بحق من يجحد “الحق” الذي يدعونهم إليه , أخيرا فقط أريد أن أسألك ثانية , هل ترفض و تدين أي قتل للبشر , أيا كانوا , أليس أية جريمة قتل هي همجية مهما كانت طريقة قتل هؤلاء الناس أو “مبرراتها” , أيا كان دين هؤلاء البشر أو عرقهم أو جنسهم أو لون بشرتهم , و أيا كان دين القاتل و لون بشرته و عرقه , لم يتوقف قتل الناس في هذا العالم يا عزيزي حتى اليوم , أنا أعترف أن المسيحيين أقرب للحداثة الغربية لكنها كما وصفها مفكر سوري اسمه ياسين الحافظ حداثة مبتورة , لا تستطيع أن تلعب دورا تقدميا لأنها في الأساس تخشى الأكثرية السائدة و تريد أن تبرر تفوقا ما عليها أكثر من أن تلعب دورا تحرريا عاما , لم يكن المسلمون هم الذين أطلقوا أكبر مجزرتين في تاريخ العالم في القرن العشرين , إنها الحكومات الرأسمالية , و لم يكونوا أيضا وراء أكبر جرائم القتل الجماعي من معسكرات الاعتقال النازية و الستالينية و قصف هيروشيما و دريسدن , هذا لا يعني أن القوى المهيمنة على وعي الغالبية المسلمة ليست مستعدة لارتكاب أسوأ الجرائم في سبيل هيمنتها سواء ضد أتباعها أنفسهم أو ضد الآخر , تقول الحقيقة التاريخية أن المجرم هي تلك الأقليات المهووسة بالسيطرة على الآخرين و على مجتمعاتها هي بالذات و أفكارها المعادية للإنسان بالضرورة , المجرم هي الرأسمالية و بقايا النظام الاستغلالية السابقة عليها , المجرم ليسوا قوما بعينهم , إنهم النخبة الحاكمة و المالكة في أي شعب و مجموعة دينية , تقول أن الكنيسة تغيرت , و العالم المسيحي أيضا , لا شك أن للرأسمالية شكلا خارجيا أكثر بهرجة من الأنظمة الإنتاجية السابقة عليها , أكثر تهذيبا , لكنها خلقت و أنتجت أكثر الشناعات و الجرائم همجية في التاريخ , لا أريد أن اذكر مثلا كيف استقبل الكهنة الكاثوليك جنود هتلر في بولونيا أثناء غزوهم لها تشفيا من الشيوعية و لا بالارتباط بين صعود الريغانية كمقدمة لصعود المحافظين الجدد و الليبرالية الجديدة و بين اليمين المسيحي المحافظ المعادي للمثليين و للحق في الإجهاض و للليبرالية الكلاسيكية و لنظريات داروين في النشوء و الارتقاء انتهاء بظاهرة حزب الشاي الذي يمثل اليمين الشعبوي العنصري و المحافظ , بل بابن لادن و الظواهري نفسهما , إن ابن لادن و الظواهري هما نتاج مشترك لكل من ما هو قمعي في الرأسمالية و الدين الإسلامي في نفس الوقت , إنهما نتاج الموقف الرأسمالي و الديني معا ليس فقط من الشيوعية بل من الإنسان عموما , الصراع بينهما اليوم , و بين النخب الإكليروسية المسلمة و المسيحية , هو صراع تقليدي و ليس صراع جدلي يجري في سبيل إنتاج شيء ما متطور بل هما يمارسان صراعا على الحق في انتهاك حرية الإنسان , حرية عقله و ضميره و حريته في العيش دون استغلال , نقطة أخيرة , كل ما قيل اليوم هو في حقيقة الأمر دعم مباشر للأصولية و لسيطرتها على عقل و فعل الجماهير المسلمة , أعلنت الخطابات السائدة أن هذه الجماهير مسؤولة عن عدم تحقق و إنجاز إصلاح ديني و بالتالي عن إنجاز حداثة تتحدث النخبة عن ضرورتها و بالتالي تمحورت كل تلك الخطابات حول ضرورة وضع هذه الجماهير تحت وصاية ما , لنخبة محلية أو حتى للنظام الراسمالي العالمي , لا أدري كيف يمكن بعد ذلك إقناع هذه الجماهير و لو بضرورة الاستسلام لمثل هذه الوصاية , إن المعركة الحقيقية في مواجهة كل القوى التي تريد الهيمنة على الجماهير المسلمة هي معركة حرية هذه الجماهير و هي المعركة التي لم يتحدث أحد عنها , تقترح هذه الخطابات ديكتاتوريات متنورة أو حداثية ضرورية كما تدعي , من موقع المهمشين و المستعبدين لا فرق بين السادة عمليا و لا يمكن إقناع الناس بالخضوع لطغاة قدامى أو جدد بمثل هذه الحجة , إن تخيير الشارع المسلم بين هؤلاء الطغاة و اعتبار تخلفهم منتج طبيعي لوجودهم يعني ببساطة دفعهم أكثر تجاه القوى الأصولية التي ستكون بالضرورة البديل الوحيد عن هذه الديكتاتوريات التي يتحدث عنها النخبويون , في أي صراع طائفي , إذا صح أن هذا الصراع اليوم هو طائفي , فإن القوى الأكثر تطرفا هي التي تسيطر عادة على الشارع , لكن الصراع ليس طائفيا , إنه صراع مصطنع , صراع النخب على السلطة و الثروة , و إن اكتسب شكل الصراع على الحقيقة المطلقة , إذا كانوا يتنافسون على امتلاك الحقيقة المطلقة فقط و على الجنة فقط لما كانوا يتصارعون بدم الفقراء على كل متع هذه الدنيا التي يحرم منها الملايين لصالح تلك النخب
الأستاذ نقولا الزهر , تحياتي أولا , ثانيا أتفق معك تماما في أننا أمام معركة حريات , تحرير للعقل و للإنسان , و إن كنت لا أفضل تلك العبارات المأخوذة من الخطابات السائدة بما يشبه موضة فكرية و سياسية و التي أزعم أنها تعبر عن القوى السائدة أكثر مما تعبر عن القوى التقدمية في التاريخ و القوى المقهورة المهمشة بالضرورة , القضية في أنني أحاول أن أفكك هذه الدولة الحديثة , الذي افهمه من كلمة دولة هي تنظيم اجتماعي محدد و ليس مؤسسة قمعية فوق المجتمع , أفككها على ضوء علاقات الملكية و الإنتاج فيها , أنا أزعم أيضا أن الحداثة ظاهرة حية , من الصعب تعميم ما جرى في الغرب على أنه قانون يلزم كل البشر و المجتمعات الإنسانية , كما أعتقد أنه ليس فقط اللوثرية بل أيضا العودة إلى ما قبل المسيحية حتى قد لعب دورا هاما في تحرير العقل البشري و إطلاق الكمون البشري كما جرى في صعود الرومانتكية التي كانت وثنية ( في القرن 18 , شيلي و اللورد بيرون و غيرهم ) , و أزعم أن ما قاله أنطونيو نيغري و مايكل هاردت مؤلفي كتاب الإمبراطورية عن هذه الحداثة صحيح , من انها في الواقع حداثتين , حداثة ثورية أولية و حركة مضادة كانت تهدف لاحتواء الحركة الأولى و السيطرة عليها و أن الأزمة بينهما هي التي تشكل جوهر أزمة المجتمعات الغربية اليوم , أزعم أنه لا يوجد شيء اسمه دولة مدنية حديثة تقوم على حريات عامة , هنا يوجد تناقض جوهري و جذري , الحريات تعني مشاركة كل البشر في السلطة و الثروة و الدولة أيا تكن و ايا تكن النخبة الحاكمة فيها هي تركيز للسلطة و الثروة بيد أقلية , التنظيم الاجتماعي الوحيد الذي يمكنه أن ينتج حريات عامة و إصلاح ديني باتجاه تحرير العقل البشري هو تنظيم لا تستطيع فيه أقلية أن تستغل و تفرض على الأكثرية رأيها و إرادتها و مصالحها الضيقة … تحية مرة أخرى ….

مازن كم الماز
الحوار المتمدن

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى