قضية فلسطين

2009 “عـام الحـسـم” في إســرائـيـل

سيتذكر التاريخ عام 2008 بأنه العام الذي شنت خلاله اسرائيل حربها على غزة. وبالفعل فإن أي استعادة لأحداث العام المنصرم لا تأخذ دلالتها الواضحة الا في ظل ما يدور اليوم في غزة. فالجيش الاسرائيلي الذي أنهى أهم عملية لإعادة تنظيمه واعداده العسكري في ضوء الانتقادات الشديدة التي وجهتها له لجنة فينوغراد بعد اخفاقات حرب تموز على لبنان، يخوض اليوم الإختبار الأول له في حربه على حركة “حماس” في مواجهة غير متوازنة بين جيش منظم يملك تفوقاً جوياً وقدرة على التحرك بحراً وبراً ضد مقاتلين يخوضون حرب عصابات ويقاتلون في أحياء سكنية هي الأكثر اكتظاظاً في العالم، سلاحهم صواريخ محلية الصنع يبلغ مداها الأقصى 45 كيلومتراً.
لقد كان عام 2008 في اسرائيل عام الخطر الايراني بامتياز، فكل الكلام السياسي والتحليلات العسكرية والاستراتيجية ركزت على الأهمية القصوى بالنسبة لإسرائيل للتصدي لأكبر تهديد على وجودها، أي احتمال حصول ايران على السلاح النووي والضرورة الملحة بالنسبة لإسرائيل لإحباط هذا المسعى قبل فوات الأوان، لاسيما بعدما اتضح لها عقم العقوبات الاقتصادية وتلكؤ الدول الغربية في اتخاذ مواقف صارمة من النظام في ايران واستبعاد الولايات المتحدة أي تحرك عسكري ضدها.
وهكذا استنتجت اسرائيل على مضض بانها باتت وحدها في مواجهة الخطر الايراني فتزايد الحديث خلال العام الماضي عن الإعداد لعملية عسكرية اسرائيلية خاطفة موجهة ضد المنشآت النووية الايرانية، الا أن هذه التسريبات جوبهت برفض حاد من جانب الادراة الأميركية للرئيس بوش التي اعلنت رفضها اقدام اسرائيل على مغامرة عسكرية جديدة في الشرق الأوسط.
ثمة اجماع في اسرائيل على أن حصول ايران على السلاح النووي يشكل وحده خطراً وجودياً عليها نتيجة التقاء ما يسميه بعض المسؤولين الأمنيين “الإيديولوجيا المتطرفة مع الصواريخ المتطرفة” وهذا أمر لا يمكن اسرائيل التهاون فيه.
ولكن في ظل عجز اسرائيل في الوقت الراهن عن مواجهة هذا الخطر كان عليها معالجة خطر آخر لا يشكل تهديداً لوجودها ولكنه على صلة وثيقة بالخطر الإيراني والمقصود خطر القوة الصاروخية لحركة “حماس” في غزة. من هنا يمكن القول ان الحرب التي تشنها اسرائيل اليوم على حركة “حماس” تشكل جزءاً من الخطة الإسرائيلية للتصدي للنفوذ العسكري المتصاعد لإيران في المنطقة. تنظر اسرائيل الى “حماس” بصفتها ممثلاً للمحور الرايكالي المتطرف الذي يجمع بين ايران وسوريا و”حزب الله” في لبنان؛ فتدمير القوة العسكرية والسياسية للحركة واخضاعها معناه من وجهة النظر الاسرائيلية توجيه ضربة قاسية الى هذا المحور الذي عزز مكانته في المنطقة سياسياً وعسكرياً منذ انتهاء حرب تموز في لبنان.
كان من المفترض أن يشهد عام 2008 تحقق رؤية قيام الدولة الفلسطينية المستقلة الى جانب دولة اسرائيل ولكن ما جرى هو العكس تماماً. فسرعان ما تبين أن مقررات مؤتمر أنابوليس الذي انعقد في الأشهر الأخيرة من عام 2007 غير قابلة للتحقيق رغم الدفع الذي أراد أن يعطيه لها الرئيس الأميركي جورج بوش في الزيارة التي قام بها لاسرائيل في الشهر الأول من العام الماضي.
لقد شهد العام الماضي الاحتضار التدريجي لمحاولات التسوية السياسية بين السلطة الفلسطينية والحكومة الاسرائيلية. فعلى الرغم من جرعات التفاؤل التي كان يضخها الطرفان حول تقدم المفاوضات بينهما والاقتراب من بلورة خطوط الحل الدائم؛ فإن الضعف الكبير الذي تعانيه سلطة محمود عباس وظروف الانقسام الفلسطيني مضافة الى الشكوك الكبيرة التي ظللت عمل رئيس الحكومة الاسرائيلية ايهود أولمرت واحالته الى التحقيق في تهم رشى وفساد ومعارضة اليمين الاسرائيلي تقديم اي تنازلات للفلسطينين في مسألة مدينة القدس، كل ذلك أدى الى وصول المفاوضات الى حائط مسدود، لاسيما بعد تنحي أولمرت عن منصبه والدعوة الى انتخابات مبكرة في اسرائيل.
في رأي اللواء عاموس يالدين رئيس المخابرات العسكرية كان عام 2008 عام الإنتظارات: انتظار السياسة الجديدة لإدارة الرئيس الأميركي الجديد باراك أوباما، وانتظار للإنعكاسات البعيدة المدى على المنطقة للأزمة العالمية للأسواق المالية، وانتظار لما ستسفر عنه الانتخابات النيابية التي ستجري في اسرائيل ولبنان وايران، وانتظار للقرارات التي ستتخذ بشأن المشروع النووي الايراني. والسؤال الذي يطرحه الاسرائيليون على أنفسهم هل 2009 هو عام الحسم؟ من وجهة نظر يالدين هناك فرصة حقيقية للإستفادة من هذه الفترة الانتقالية لتغيير التوجهات السلبية التي طرأت على الشرق الأوسط لمصلحة اسرائيل في حال جرى تطبيق العقيدة العسكرية المثلثة الطرف المعروفة منذ أيام موشيه دايان والقائمة على: الردع والانذار والحسم. من هنا فالنتيجة النهائية للمواجهة في غزة هي التي ستبلور وجهة المرحلة المقبلة في مسار النزاع الاسرائيلي – الفلسطيني.
من بين التطورات الأساسية التي طبعت عام 2008 الاعلان عن معاودة المفاوضات غير المباشرة بين سوريا واسرائيل برعاية تركية. ورغم تحفظ اليمين الاسرائيلي على هذه المفاوضات فهي تدخل في الحسابات الاستراتيجية الاسرائيلية ضمن الجهود المبذولة لتغيير الواقع السياسي القائم في المنطقة. فإسرائيل اليوم مقتنعة أكثر من اي وقت سابق، وذلك بالاستناد الى كلام وتقديرات لمسؤولين كثر، أن الرئيس السوري راغب فعلاً في التوصل الى تسوية سياسية، لكن النقاش اليوم يدور حول الثمن الذي ستدفعه اسرائيل لهذه التسوية. لم يعد المسؤولون الاسرائيلون يقولون ان الأسد “يناور”، وانما يريدون ان يتأكدوا على ماذا سيحصلون مقابل انسحابهم من الجولان. والمشكلة ليست في حدود الانسحاب ومستقبل المستوطنات ومحطات الانذار وتطبيع العلاقات والجدول الزمني، بقدر ما هي في التأكد من صورة الوضع السياسي الذي سينشأ بعد التسوية والى أي حد سيلبي مصالح اسرائيل القريبة والبعيدة المدى.
كان عام 2008 عام أزمة القيادة والزعامة في اسرائيل. فقلما شهدت الحياة السياسية في اسرائيل هذا الكم من الأزمات التي عصفت بشخصيات الصف الأول. لقد اظهرت أحداث العام المنصرف حجم الفساد في الحياة السياسية الاسرائيلية وما التحقيق الذي يخضع له ايهود اولمرت منذ أشهر سوى دليل على ذلك. لكن الأزمة لم تقتصر على حزب “كاديما” الحاكم وانما شملت ايضاً حزب العمل التاريخي الذي أظهرت استطلاعات الرأي تراجعاً مخيفاً في شعبيته نتيجة عدد من العوامل منها: الأداء الضعيف لزعيم الحزب ووزير الدفاع ايهود باراك حزبياً وحكومياً؛ وغياب الفوراق السياسية بين حزب العمل الأقرب الى اليسار وحزب الوسط “كاديما” في المسائل السياسية الأساسية لا سيما التسوية لسياسية مع الفلسطينيين.
ولكن من مفارقات الحرب الاسرائيلية على غزة أنها أعادت شيئاً من الصدقية الى وزير الدفاع ايهود باراك الذي استطاع منذ بدء الحملة على غزة تحسين صورته لدى الجمهور واستعادة بعض الشعبية التي أضاعها خلال الأشهر الماضية. وهكذا يتضح لنا مرة أخرى مدى التأثير العميق الذي سيكون للنتائج التي ستسفر عنها الحملة على غزة على الانتخابات الاسرائيلية المقبلة. ولا مفر من القول أن أي انجاز عسكري سيسجله الجيش الاسرائيلي على “حماس” سيوظف في الصناديق الانتخابية لمصلحة حزب العمل وحزب “كاديما” في مواجهتهما لليمين بزعامة بنيامين نتنياهو.
ورغم الأزمة العالمية للأسواق المالية استطاع الاقتصاد الاسرائيلي مواجهة الكارثة بفضل اصلاحات وتغييرات أدخلها بنيامين نتنياهو عندما تولى حقيبة وزراة المال. وهكذا استطاعت الأسواق المالية الإسرائيلية تقليص خسائرها ولكن كان واضحاً ان الاقتصاد الاسرائيلي دخل في مرحلة ركود. والغريب ان أسواق بورصة تل أبيب شهدت منذ بدء الحملة على غزة ارتفاعاً في الأسهم يقدر بـ12,3 في المئة الأمر الذي كان مفاجأة في اسرائيل. ولكن من جهة أخرى بدأت تظهر أرقام كلفة الحرب على غزة. فهي باهظة وستتسبب بزيادة العجز في الموازنة الذي سيرتفع من 1,6 في المئة عام 2008 اي ما يعادل خمسة مليارات شيقل الى 6 في المئة عام 2009 ما يوازي 44 مليار شيقل وهو أكبر عجز شهدته الموازنة الاسرائيلية منذ الثمانينات وقبل اقرار خطة الاصلاحات الاقتصادية. ومن المنتظر ان يتراجع حجم النمو من 1,5 في المئة ليوازي الصفر هذا العام.
ستشكل نتائج الحرب الإسرائيلية على غزة مؤشراً الى ما ستكون عليه ملامح التوجهات الاسرائيلية للعام المقبل “عام الحسم” على حد وصف رئيس المخابرات العسكرية عاموس يادلين بعد عامين من التخبط واعادة الحسابات والانتظار.

إعداد رنده حيدر

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى