صفحات العالم

حتى لا يكون التعاطف مع مسيحيي العراق… مضلِّلاً

جهاد الزين
تخطى وضع مسيحيي العراق مرحلة الاضطهاد، ليدخل في مرحلة الابادة او الادق “سياق الابادة” النافد منها في المدى الابعد هو فقط المهاجر او اللاجئ. فهم ليسوا حالة سياسية بنيوية في الدولة، بل مؤسِّسة لها كما في لبنان، ولا حالة اجتماعية مزدهرة كما هو الحال في سوريا، ولا كتلة سكانية ضخمة مشاركة بتقاليد تاريخية متأصلة كما هو الحال في مصر… فمسيحيو العراق حالة اقلاوية مكشوفة بالمطلق بلا أية قدرة على حماية ذاتية. ولا يقارن وضعهم الحالي حتى بمسيحيي فلسطين او الاردن رغم تشابه النسبة العددية الراهنة فمسيحيو فلسطين جزء فخور وفاعل من حركة النضال الوطني الفلسطيني ضد الاحتلال الاسرائيلي ومسيحيو الاردن تحميهم صيغة سياسية للكوتا الثابتة وتشابك اجتماعي عميق.
لكن هذا التوصيف يبقى قاصراً ان لم يكن مضللاً اذا بني عليه وحده اي تعاطف، او “برنامج تعاطفي” مع مسيحيي العراق خصوصاً في بلد كلبنان.
وقصور هذا التوصيف، توصيف وضع مسيحيي العراق، على فداحة معنى الانتقال من الاضطهاد الى “سياق الابادة” هو قصور مضموني. (الفرنسيون يحبون استعمال كلمة “منطق” Logique بدل “سياق” لا سيما جملة فرنسوا ميتران الشهيرة قبل حرب “تحرير الكويت” حين وصف الوضع بأنه “منطق حرب”).
قصور التوصيف على صعيد المضمون يتطلب تحديد المستوى السوسيولوجي – السياسي الذي يتم فيه الانتقال – العملي – الى “منطق الابادة”.
فأيضاً – وأساساً – خلافاً للبنان الحرب الاهلية عام 1975، لا يتم ضرب مسيحيي العراق في ظل خلاف اسلامي – مسيحي شامل على الصيغة الوطنية برمتها… كذلك خلافاً لوضع اقباط مصر حيث بعض الصدامات المسلمة – المسيحية، وحتى بعض التعديات على المسيحيين تتم في سياق فتنة اسلامية – مسيحية.
باختصار لا فتنة مسيحية – اسلامية في العراق، ولكن هناك نمط من “سياق ابادة” للمسيحيين يحصل ضمن فتنة سنية شيعية، حرب اهلية سنية – شيعية لا سابق لها في العصور الحديثة بل ولا في القرون الاخيرة سواء في العراق او في المشرق العربي.
بهذا التأكيد على الفتنة السنية – الشيعية يكتمل توصيف حالة مسيحيي العراق الراهنة، وبدون التأكيد على هذه الفتنة سيكون اي وصف ناقصاً بل مضللاً من الناحية السياسية.
اول من هم معنيون بدقة تحديد المشكلة هذه هم مسيحيو لبنان، وبصورة ادق نخبهم السياسية والاجتماعية والدينية والاقتصادية. كل نخبهم.
جميعنا معنيون طبعاً بالتعاطف والتضامن ضد المجازر القائمة او المحتملة بل الآتية. غير اني ازعم ان لنوع توصيف وضع مسيحيي العراق اهمية خاصة في بناء لا فقط الوعي العميق بل ايضاً ببناء وسائل مواجهة الأزمة المطروحة المتعلقة بأوضاع مسيحيي الشرق في هذا “العالم العربي التركي الايراني” المسلم كما حددته وثيقة السينودس الشهيرة التي شكلت نواة لقاءات الفاتيكان الاخيرة.
هذا يعني بالنتيجة – بل بالاساس – امرين:
الاول هو ان النمط الحالي العنفي الذي دخل “سياق الابادة” لمسيحيي العراق (وغيرهم من الاقليات الاصغر عدداً في العراق كالصابئة واليزيدية) هو نمط مرتبط مباشرة بنوع جديد من العنف لم تختبره مجتمعاتنا الحديثة: عنف الحرب الاهلية السنية – الشيعية. واتكلم هنا عن آليات العنف الاكثر عنفاً على المستوى الاجتماعي كائناً ما كانت المحركات الجيوبوليتيكية، اي مصالح الدول الاقليمية والدول الكبرى صاحبة المصلحة في تفجيره.
الامر الثاني هو ان المنطقة في هذا المناخ لا تشهد فقط “مسألة شيعية” كما ذهب مؤخراً بعض النخبة المسيحية في لبنان المرتبط ببعض قوى “14 آذار”، ولا سيما “القوات اللبنانية” وعدد من السياسيين والمثقفين، بل هناك ايضاً “مسألة سنية” في كل مناطق التوتر. وسيكون طبعاً من اضاعة الوقت ان نحاول اقناع بعض هؤلاء “الناشطين” اللبنانيين بوجود “مسألة سنية” في زمن ينشغل فيه العالم بالمتطرفين البن لادنيين ومنظمة القاعدة وغيرها من منظمات التطرّف، فإذا كانت “المسألة الشيعية” الموجودة فعلاً وبقوة هي حصيلة تطوّر “المشروع الايراني” العسكري في المواجهة السياسية مع الغرب ولا سيما في لبنان حيث يتحوّل المشروع الى مغامرة صراعية كبرى في جنوب لبنان – اياً تكن اسبابها – لا يعلم احد ولا يستطيع احد ان يعلم الى اين من الممكن ان تصل نتائجها على الطائفة الشيعية وكل الطوائف اللبنانية… اذا كانت هذه “المسألة الشيعية” باتت مرتبطة بصعود الدور الايراني وتلقفه بل استخدامه للديناميات الاجتماعية والثقافية والاقتصادية للبيئات الشيعية في العالم العربي، فإن “المسألة السنية” بحكم كونها نتاج تأزم الاكثرية الكبرى في العالم المسلم تبدو حيناً متصلة مباشرة بتوظيفات واستخدامات دول اقليمية مهمة كالمملكة العربية السعودية كذلك فإن مساحات “استقلالها” عن سياسات الدول اوسع بما لا يقاس من تلك التي للمسألة الشيعية”.
المشترك الرئيسي – ايديولوجياً – بين “المسألتين” السنية والشيعية هو كونهما ظهرتا وتفاعلتا وهما الآن تتصارعان مع صعود الحركات الاصولية، ولا سيما منذ نجاح الثورة الايرانية في السيطرة على السلطة في ايران.
لقد استنفدت حيوية بل حيويات الجيل الاصولي الاول في صراعات الثمانينات ضد الاتحاد السوفياتي في افغانستان وكانت تبدو حركات متحالفة الى أن ظهر الجيل الثاني من الاصولية السنية في التسعينات مع “طالبان” ثم “القاعدة” وهو الجيل الذي افتتح المواجهة الاعنف ضد مجتمعات الغرب لا سيما مجزرة 11 ايلول وبالتوازي مع ذلك ايضا أنهى “وحدة الاصوليات” الشيعية والسنية ليفتتح مرحلة قيادة الفتن السنية – الشيعية والتي تطورت مع العقد الاول من القرن الحالي، لا سيما بعد التغيير العراقي عام 2003 الى حروب أهلية سنية شيعية في بعض الدول.
في هذا المناخ المضاعف من العداء للغرب والعداء للمسيحية المحلية تتم عمليات التعدي الاستئصالي على المسيحيين في العراق. إنه العنف الذي “لا يرى” المسيحيين في طريق زحفه ضد العدو المذهبي الآخر. وكذلك يصبح العنف أكثر عمى لانه هنا أقل حسابا للجماعة المستهدَفة (بالفتحة على الدال).
هذا هو إطار “المسألتين” السنية والشيعية لا المسألة الواحدة الشيعية، واذا كانت السمة الخاصة للصراع في لبنان تجعل سياسيا فريق 14 آذار تحت اطار الادارة السعودية – الاميركية وفريق 8 آذار تحت اطار الادارة الايرانية – السورية فهذا لا يجب ان يحول خصوصا لدى المكوّن المسيحي في 14 آذار دون الاعتراف – بل درس وتحليل – “المسألة السنية” بتأثيراتها على وضع المسيحيين كمنتجة للتطرف القاتل. مثلما ينبغي بالمقابل ايضا على المكوّن المسيحي في 8 آذار ان لا يتجاهل اثر افراز “المسألة الشيعية” لقيادة ذات فكر أصولي على العلاقة مع المسيحيين وعلى نظرة المسيحيين الى “التطرف الشيعي”.
الانقسام السياسي العريض بين المسيحيين اللبنانيين يضعهم تحت وطأة الاستهلاك اليومي لشعارات الصراع السياسي السعودي – الايراني ويفرض على كل منهما تجاهل وجهات نظر او مقاربات تتعلق بالمسيحيين يمكن ان يراها كل فريق تخدم الفريق الآخر. فالاعتراف بـ”المسألة السنية” في زمن التطرف الاصولي لا سيما ضد المسيحيين كما ظهر في تفجير كنيسة بغداد (ولا مهنية قوات الامن المقتحمة) هذا الاعتراف لا يلائم مسيحيي 14 آذار والاعتراف بـ”المسألة الشيعية” وما تعكسه من مغامرة ايرانية هائلة في لبنان لا يلائم مسيحيي 8 آذار.
القدرة على تشخيص موضوعي “مستقل” للمخاطر على المسيحيين لا سيما في العراق تتجاوز كل القوى اللبنانية. لكن هذا العجز يصبح أكثر خطورة في الحديث عن مسيحيين يائسين في عراق بائس حين يصدر عن بعض النخب المسيحية اللبنانية.
اذا كان شيخ الازهر نفسه، شيخ المؤسسة الاعرق في العالم السني يعترف ويدين الفكر التكفيري السني، واذا كان المرجع الشيعي الاعلى في النجف يدين الفكر المتطرف الشيعي… هل يعقل ان يتحفظ أصحاب العلاقة الاكثر قربا وتحسسا من الاعتداءات على مسيحيي العراق، من تسمية الاشياء بأسمائها… “المسائل” بأسمائها… “المسألتين” باسميهما؟
البعض يعتقد بحسابات مبسطة بل سطحية – ولا يصرّح مباشرة بذلك – ان فتنة سنية – شيعية تخدم “الموقع المسيحي” في النظام السياسي اللبناني.
التحولات في المنطقة والعالم، اجتماعيا وسياسيا وديموغرافيا، باتت تجعل هذا النوع من الحسابات وهماً قاتلاً، فالعراق يظهر ان “سنابك خيل” الفتنة لن توفر أحدا… والأهم انها لن تترك أحدا ينتظر “نتائج” المواجهة… بل ستحرقه في الطريق أيا يكن الرابح أو الخاسر في هذا التفكك الذي لا ينحصر بالدول… كما ينبئنا “الزلزال” السوداني الآتي… بل بالمجتمعات نفسها في عالم التخلف التنموي والفقر الملاييني..
النهار

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى