صبحي حديديصفحات العالم

السودان بين شمال وجنوب: ارتداد الولادات القيصرية

null
صبحي حديدي
تشير معظم التقديرات، وكذلك المنطق السياسي البسيط، إلى أنّ أهل جنوب السودان سوف يصوّتون لصالح الإنفصال عن الشمال، أو ‘السودان الأمّ’ عند البعض، وذلك في الاستفتاء الشعبي الذي يجري يوم التاسع من هذا الشهر. والعالم، إذا صحّت التقديرات، سوف يشهد بالتالي ولادة الدولة الـ 193 في لائحة الدول الأعضاء في الجمعية العامة للأمم المتحدة (ليست هذه حال السلطة الوطنية الفلسطينية، بالطبع، لأنها ما تزال في موقع الـ’كيان غير العضو’)؛ ورعايا هذه الدولة الوليدة سوف يشهدون ابتداء المدّ والجزر، بين آمال الإستقلال وآلامه، وبين مشروعية المطامح وحتمية الأخطار، وبين عقابيل اتحاد بدا زائفاً قسرياً معظم الوقت ومزايا انفصال هشّ أقرب إلى قفزة نحو مجهول، وربما سلسلة مجاهيل…
وليس للمرء إلا أن ينحني أمام القرار الذي سيتخده ابناء الجنوب، بمعزل عن بداهة الحديث الطبيعي عن فضائل أي اتحاد بالمقارنة مع أي انفصال، في عالمنا المعاصر المعولَم هذا تحديداً، الأمر الذي لا يختزن ـ بالضرورة المطلقة، وعلى نحو استنباطي ميكانيكي ـ نتائج إيجابية أو أخرى سلبية في حال توفّر أو انتفاء أيّ من الأقصيّيْن. لقد تكفلت السلطة المركزية في السودان، وليس دون هذا المقدار أو ذاك من مسؤولية الأحزاب والقوى في الجنوب، بإشعال حربَيْن أهليتين في البلد الأكبر على نطاق القارّة الأفريقية، بين أعوام 1955 إلى 1972 و1983 إلى 2005، سقط ضحيتها قرابة مليونَيْ قتيل، وشُرّد 4 ملايين آخرين عن بيوتهم وقراهم وبلداتهم.
وثمة، في الباطن الأعمق من هذه المعادلة، اعتبارات أشدّ تعقيداً من مسائل الثروة النفطية (الذي يحتضن الجنوب 70 بالمئة من احتياطيه السوداني، وهو تفصيل تنظمه اتفاقية السلام لسنة 2005، في كلّ حال)؛ أو الإنشطار الديني بين الإسلام والمسيحية (إذْ لا يدين بالمسيحية إلا 17 بالمئة من أهل الجنوب، مقابل 18 بالمئة من المسلمين، و65 بالمئة لأتباع عقائد وثنية شتى)؛ أو التوزّع الجغرافي (ثمة قرابة مليونَين من اهل الجنوب، يقطنون بصفة دائمة في الشمال)؛ أو الخريطة القبائلية (هنالك نحو 30 قبيلة في الجنوب وحده، بينها ثلاث قبائل كبرى تمسك بزمام السلطة عملياً، كما تحتكر الحقائب الوزارية والغالبية العظمى من مواقع القرار في الجنوب).
ذلك لأنّ السودان دولة ـ أمّة، وسكّانه (أكثر من 39 مليون نسمة، بينهم نحو ثمانية ملايين من أهل الجنوب) يتكلمون أكثر من مئة لغة، ويتوزعون في عشرات المجموعات الإثنية، وينشطرون وفقاً لخطوط ولاء قبلية وجغرافية ليس أقلها انقسام الشمال بثقافته العربية، والجنوب بثقافته الأفريقية أو الوثنية. وثمة مفتاح حاسم لفهم التاريخ السوداني، هو أنّ الفتح الإسلامي عرّب مصر بعد أقل من عقد على وفاة الرسول العربي، ولكنه توقّف عند حدود السودان، ويمّمت الجيوش شطر الغرب لنشر الإسلام في شمال أفريقيا، ونحو إسبانيا.
وسينتظر السودان، الوثني عموماً والمسيحيّ نسبياً، ألف عام أخرى على تخوم الإسلام قبل أن يصل العرب، لا على هيئة مجاهدين في سبيل إعلاء كلمة الله، بل كرجال دين وتجّار ذهب وعاج ورقيق، قدموا من مصر وبغداد وجزيرة العرب وشمال افريقيا، واستخدموا القرآن واللغة العربية والطرق الصوفية لتقويض النظام القبلي الناجز، وتفكيك العقائد الوثنية والمسيحية. وفي عام 1885 وضعت انتفاضة المهدي خاتمة دامية للوجود المصري على أرض السودان، فكانت تمهّد الأرض للوجود الإستعماري البريطاني.
هؤلاء هم ‘عرب الحدود’، التعبير الذي اعتاد استخدامه الشيخ حسن الترابي لوصف عواقب الفاصل الزمني الطويل الذي جعل ولادة الهوية العربية في السودان قيصرية بالمعاني السيكولوجية والسياسية والجغرافية، وسهّل لجوء الإدارة الإستعمارية إلى سياسة الباب المغلق، المعاكسة تماماً للسياسة التي اعتمدها الروّاد العرب. وفي معجم مفردات التاج الإمبراطوري كان إغلاق الباب على عرب الشمال المسلمين يعني فتحه على مصراعيه أمام قبائل الجنوب، عبر تقسيمه إلى ثلاثة أقاليم (ما تزال قائمة حتى اليوم، وإنْ شطرها الإستقلال إلى 10 ولايات!). الخطوة التالية كانت تأسيس وضع خاص بهذه الأقاليم، وإسناد الخدمات التربوية والاجتماعية إلى البعثات التبشيرية، وتكليف زعماء القبائل بالشؤون الإدارية المحلية، وإحياء اللغات الإثنية والثقافة القبلية على حساب الإسلام واللغة العربية.
لكن سياسة الباب المغلق كانت، أيضاً، نافذة تفتحها الضرورات الموضوعية على أيّ ريح، كأن تتفاوض بريطانيا مع الشمال وحده عند تحلّل الإمبراطورية وانسحاب بريطانيا من المنطقة في أعقاب الحرب العالمية الثانية. وحين أحرز السودان استقلاله عام 1956 كان الجنوب يسترجع، لتوّه، ذاكرة الرقّ وإرث الطريقتَيْن الصوفيتين ـ السياسيتين (‘الأنصار’ و’الختمية’)، ويستعد للأسوأ، عن حقّ أو عن باطل. ولم يطل الإنتظار، في الواقع، إذْ قاد الفريق إبراهيم عبود الإنقلاب العسكري الأوّل، في تشرين الثاني (نوفمبر) 1958، وسارع إلى تعطيل الدستور وحلّ البرلمان وحظر نشاط الأحزاب السياسية، بمباركة من زعماء الطريقتين، عبد الرحمن المهدي عن ‘الأنصار’، وعلي الميرغني عن ‘الختمية’.
كذلك لن يطول الزمن حتى يقود العقيد جعفر النميري الإنقلاب العسكري الثاني، في سنة 1969، بعد الإجهاز على انتفاضة 1964 التي أنهت دكتاتورية عبود. ومن المفارقات أنّ ‘الإستبداد العلماني’، كما يصف الكاتب الأمريكي ملتون فيورست أسلوب حكم النميري، حظي بدعم مبدئي من الشيوعيين، وبمعارضة من الشيخ الترابي الذي بقي رهن الإعتقال طيلة سبع سنوات. ثم انقلبت الأقدار سريعاً، فأعدم النميري عشرات القادة الشيوعيين، قبل أن يهتدي إلى فضائل الشريعة في قوانين أيلول (سبتمبر) 1983، فلا يكتفي بالإفراج عن الترابي بل ويعيّنه وزيراً للعدل! المفارقة الأخرى أنّ ظهور النفط في حياة السودان كان الكاشف الحاسم لاختبار سلسلة القوانين الإستبدادية، وطرح ورقة انفصال الجنوب. وذات يوم، حين كان حزقيال كوجوك، رئيس مجلس كنائس السودان، يرى أن سياسات الحكومة معادية للمسيحية في الشكل والمحتوى؛ كان غازي صلاح الدين (الذي شغل منصب مستشار الرئاسة السودانية لشؤون السلام، وظلّ طويلاً رجل الترابي في السلطة كما تهامس السودانيون) يرى أن القوانين تطبّق على المواطنين بالتساوي ودون النظر إلى الدين أو اللون أو العرق. كلّ ما في الأمر، يساجل صاحبنا، أنّ بعض أحكام الشريعة لا يطبّق في المناطق غير المسلمة، و’العرف القبلي’ يؤخذ بعين الاعتبار كمصدر للتشريع في المناطق القبلية، هذه التي يأخذ فيها العرف صفة المسلّمة القانونية شبه المقدّسة.
والحقّ أنّ المهندس الحقيقي وراء هذا الطور من نقل ‘عرب الحدود’ إلى صفة ‘عرب الإسلام’، رعايا ‘الحكم الإسلامي’، أو ‘الشريعة في تطبيقها الدنيوي المعتدل’، أو ما شاء المرء من تسميات تدخل في النطاق الدلالي ذاته، لم يكن سوى الشيخ الترابي نفسه. وكاتب هذه السطور يختلف مع تسعة أعشار آراء الترابي في الدين والدنيا، سواء أكان الشيخ في واحدة من الإشراقات المعدّة للإستهلاك الداخلي، أم انخرط في تلك ‘المستنيرة’ الخاصة بالتصدير إلى الخارج كما تقول النكتة الشعبية السودانية. ولكنّ الترابي، شاء المرء أم أبى، يظلّ المنظّر الأبرز لحركة الإحياء الاسلامي، أياً كان المعنى وراء المصطلح المراوغ أصلاً؛ والقدوة الحسنة لجيل (أوّل وثانٍ ربما) انخرط في تسييس تنظيمي وفكري لتلك الصحوة، ولعقائدها. صحيح أنه ليس حسن البنّا ولا آية الله الخميني، ويصعب أن يعيد إنتاج شخصية أبو الأعلى المودودي، ولكنه شديد البراعة في احتلال موقع توسطي بين نظرتَين أحاديتين: التقيّ النقيّ (كما يردّد الحالمون من أتباعه)، أو المنافق منظّر الإرهاب (كما يردد العصابيون من خصومه).
‘ما الذي يمكن أن يعنيه الحكم الإسلامي’؟ يسأل الترابي. ‘النموذج بالغ الوضوح، أمّا أفق الحكم فهو محدود، والقانون ليس توكيلاً للرقابة الاجتماعية لأنّ المعايير الأخلاقية والضمير الفردي شديدة الأهمية، وهي مستقلة بذاتها. لن نلجأ إلى ضبط المواقف الفكرية من الإسلام، أو قنونتها، ونحن نثمّن ونضمن حرية البشر والحرية الدينية ليس لغير المسلمين فحسب، بل للمسلمين أنفسهم حين يحملون قناعات مختلفة. إنني شخصياً أعتنق آراءً تسير على النقيض تماماً من المدارس السلفية في التشريع حول مسائل مثل وضع المرأة، وشهادة غير المسلم في المحاكم، وحكم الكافر. البعض يردّد أنني متأثر بالغرب إلى حدّ اقتراف الكفر. ولكني لا أقبل الحكم على سلمان رشدي بالموت، ولو استفاق مسلم ذات صباح وقال إنه كفّ عن الإيمان، فهذا شأنه وحده’.
ويمضي الشيخ أبعد، فيقول: ‘الحكم الإسلامي ليس شاملاً لأنّ الإسلام وحده هو الرؤية الشاملة للحياة، وإذا اختُزل في الحكم وحده فإن الحكومة ستكون عاجزة مشلولة، وهذا ليس من الإسلام في شيء. الحكم لا مصلحة له في التدخل في عبادة الفرد أو صلاته أو صيامه إلا في ما يتصّل بالتحدّي العلني للصيام. نحن لا نخلط بين ما هو أخلاقي وما هو شرعي. الرسول نفسه أغلظ في القول ضدّ الممتنعين عن الصلاة، ولكنه لم يتخذ أي إجراء بحقهم. وتوجد فروض اجتماعية حول كيفية اختيار الرجال والنساء للباسهم، ولكن المسألة ليست جزءاً من القانون’. ولا يكتمل المعمار التنظيري للشيخ الترابي دون التوقف عند الإسلام الراهن: ‘قد تكون النزعة القومية هي البديل عن الإسلام في بلدان أخرى. لكن الإسلام هو النزعة القومية الوحيدة المتوفرة أمامنا إذا شئنا تأكيد قيمنا الوطنية الأصلية، وأصالتنا، واستقلالنا عن الغرب. الإسلام هو حداثتنا الوحيدة. إنه العقيدة الوحيدة التي يمكن أن تقوم مقام العقيدة الوطنية في أيامنا هذه’. ولكنّ المرء، إلى هذا، لا يستطيع تجاوز حقيقتين أساسيتين تقفزان سريعاً إلى الصدارة: أنّ الشيخ كان حليف، ومهندس الكثير من سياسات، نظام عمر البشير، الحاكم منذ انقلاب 1989؛ وأنّ للشيخ موقعه المتميّز ومكانته الحيوية في قلب الحركات السياسية الإسلامية المعاصرة، في مشرق العالم العربي ومغربه، فضلاً عن جغرافيات واسعة متشعبة في آسيا وأفريقيا وأوروبا.
وذات يوم قيل إنّ الدول العربية تنزلق مرغمة في ‘حمأة الأصولية’، أمّا السودان فهو الدولة التي اختارت، طواعية، أن يكون الإسلام نظام الحكم فيها. تتمة هذه الحقيقة أنّ رجال الحكم، وبعد أن أوضحوا خيارهم ذاك، أعلنوا أنهم لا ينوون التراجع عنه، مهما كانت العراقيل والعواقب، بما في ذلك الحرب الأهلية. الأمور، بسبب من هذا على الأرجح، لم تتخذ مجراها المختلف على الصعيد العقائدي فحسب، بل اتخذت أيضاً صفة المأساة المفتوحة على الصعيد الوطني والإنساني.
وأغلب الظنّ أنّ اشتراك البشير والترابي في تأييد الانفصال ليس مردّه التعاطف مع آمال وحقوق أهل الجنوب، بقدر الابتهاج لأنّ ساحة تطبيق الشريعة الإسلامية صارت أضيق جغرافياً، وأوضح ديموغرافياً، و… أصفى عقيدة. أمّا ما بين الرجلين من خصومة سياسية، ونقاط اتفاق أو اختلاف حول محتوى نظام الحكم، وما يمكن أن يدلهم في سماء الشمال من مخاطر وطنية كبرى جرّاء انفصال الجنوب… فهذه، وسواها، اعتبارات نزاع مرجأة، إلى أجل غير مسمّى!
‘ كاتب وباحث سوري يقيم في باريس

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى