صبحي حديديصفحات ثقافية

لا عتب على الألمان

null
صبحي حديدي
يُشكر لمهرجان برلين الدولي للآداب، الذي تبدأ فعاليات دورته التاسعة بعد أيام، أنه خصّص للأدب العربي قسطاً وافراً من الأنشطة، على أصعدة أدبية وفنّية مختلفة، بينها أيضاً لقاءات ذات طابع فكري وسياسي، وهذه الأخيرة مطلوبة وضرورية أياً كان موقف المرء من أجنداتها الإستشراقية الضمنية. ومن جانبي كمواطن سوري، أسعدني أنّ المهرجان يستضيف أربعة من خيرة الأسماء في المشهد الثقافي السوري الشابّ، داخل الوطن تحديداً: الشاعر والناقد عابد إسماعيل، والروائي خالد خليفة، والشاعرة والسينمائية هالا محمد، والروائية والقاصة سمر يزبك.
هنالك، إلى هذا، عدد ملحوظ من الأسماء العربية الشابة، التي أخال أنها تشارك للمرّة الأولى في مهرجان دولي جامع من هذا الطراز، وهو أمر حميد بالتأكيد، لا يحجب في الآن ذاته حقّ المرء في التفكير بأسماء أخرى لا تقلّ جدارة، وكان حضورها سيسبغ على الحدث طابعاً أكثر تعددية وغنى. أفكّر، من جانبي، في اقتصار التمثيل الأردني على الصديق الشاعر أمجد ناصر؛ أو الاكتفاء من السودان بتكريم الطيب صالح، وندوة عن دارفور؛ أو غلبة الأدباء المقيمين في الخارج على التمثيل العراقي…
لكنّ واحدة من أكبر عثرات المهرجان جاءت من الترجمة العربية الرسمية لبرنامج الفعاليات، حيث وقع المترجم أو المترجمون في سلسلة أخطاء تتجاوز طرافة إساءة قراءة الاسم، بين الأصل العربي والكتابة اللاتينية، إلى الجهل الفاضح بعناوين المؤلفات ذاتها. عابد اسماعيل يصبح ‘عبد’، والشاعر التونسي منصف مزغني يصبح ‘مزغاني’، وصموئيل شمعون يصبح ‘شيمون’، وفاضل العزاوي يصبح ‘فضيل الغزاوي’ تارة و’فضيل العزاوي’ طوراً، وهالا محمد هي ‘هلا محمود’، ورشيد بوجدرة يصير ‘بودجدرا’، وعادل قره شولي ينقلب إلى ‘كرشولي’… في العناوين، رواية ‘تاكسي ـ حواديت المشاوير’، للمصري خالد الخميسي، تصبح ‘سيارة أجرة في القاهرة’؛ و’تغريد البجعة’، لمواطنه مكاوي سعيد، تنقلب إلى ‘القاهرة أغنية البجعة’…!
هذه ليست مسائل شكلية فحسب، في يقيني، إذْ من غير المعقول، ولا المقبول، أن يرتكب المترجمون كلّ هذه الأخطاء الفادحة ـ التي تبرهن، من جديد، على جهلهم التامّ بما تشغله الأسماء على خريطة الأدب العربي المعاصر ـ وأن لا يتنبّه إليها مستشارو المهرجان العرب، ممّن كانوا وراء توجيه معظم الدعوات كما للمرء أن يتخيّل. لا عتب على أهل المهرجان من الألمان، إذاً؛ أو لا عتب يمكن أن يوازي ذاك الذي يؤخذ على مستشاريهم العرب، اسوة بأولئك الألمان الذين يزعمون معرفة الأدب العربي، والاختصاص فيه، وترجمته. فكيف يمكن أن يجهلوا هوية الشاعر العراقي فاضل العزاوي، وهو واحد من أهمّ صنّاع ومطوّري القصيدة العراقية طيلة أربعة عقود ونيف؟ ومن أين أتوا بمجموعة قصصية للروائي السوداني الراحل الطيب صالح، عنوانها ‘حفنة من البلح’؟ وإذا جاز أن تكون للترجمات عناوين أخرى غير تلك التي نُشرت بها في اللغة الأصل، فهل يجوز أن نُعلي تلك العناوين على أصولها، حين نتحدّث عنها في برنامج مكتوب بلغتها الأمّ؟
هي حال تذكّرني (مع حفظ الفوارق، لا ريب!) بما أقدم عليه، قبل سنوات، الملحق الثقافي لصحيفة ‘الثورة’ السورية الحكومية، حين نقل محمود درويش من العربية إلى… العربية! وكان أنيس مهنا قد ترجم قصيدة ‘طباق’، مرثية الراحل الكبير إدوارد سعيد، بتصدير يقــــول: ‘هنا ترجمة لقصيدة لمحمود درويش يودّع فيها ادوار سعيد بعد مرور عام على غيابه… نشرت له في Al-Ahram Weekly باللغة الإنكليزية’. بيد أنّ القصيدة كُتبت بالعربية الفصحى، وبهذه اللغة قرأها درويش مراراً، ونُشرت بعد ذلك في صحف عربية عديدة، وفي عشرات المواقع على شبكة الإنترنت. ويبدو أنّ أياً من عباقرة ملحق ‘الثورة’ لم يسمع بهذه القصيدة، حتى اكتشفها المهنا في مطبوعة مصرية تصدر بالإنكليزية، فترجمها ـ دون أن يكترث، البتة، بالتذييل الذي يشير إلى أنها ترجمة عن العربية ـ ونشرها الملحق مزهوّاً فخوراً!
كانت النتيجة كارثية بالطبع، ومبكية أكثر ممّا هي مضحكة، حتى بعد أن يضع المرء جانباً تلك ‘الخيانات’ المعتادة في الترجمة عموماً، والشعر خصوصا. خذوا هذه، حين يقول درويش: ‘ولكن سمعت هنوداً قدامي ينادوننا: لا تثقْ/ بالحصان، ولا بالحداثة’؛ فيقول المترجم: ‘مازلت أسمع حكمة قديمة للهنود:/ الثقة، لا حصان ولا حداثة’. أو هذه: ‘أدافع عن شجر ترتديه الطيور’، عند درويش؛ و: ‘أدافع عن البلاد والمنفى/ في طيور شجرة مكتظة الأوراق’، عند المترجم. أو هذه العجيبة، التي حوّلت الخصية إلى رصاصة: ‘وأمّا أنا فحنيني صراع على/ حاضر يمسك الغد من خصيتيه’، في قصيدة درويش؛ و: ‘حنيني كفاح من أجل حاضر/ سنملكه غداً بالرصاص’، في ترجمة صاحبنا!
وفي العودة إلى مهرجان برلين، تجدر الإشارة إلى أنّ الفعاليات تنطوي على عدد كبير من اللقاءات الهامة، حول مشكلات الكتابة الأدبية العربية المعاصرة، وشؤون الأشكال والأساليب والموضوعات، ومسائل الثقافة والسلطة، وعلاقة الذات بالآخر، واستذكار راحلين من أمثال سركون بولص والطيب صالح ومحمود درويش. وبذلك فإنّ عثرات الشكل، أياً كانت دروسها ودلالاتها، ينبغي أن لا تمسّ الجوهر في أهمية المهرجان.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى