صفحات ثقافية

غاب الموديل العاري عن الفن السوري وتحوّل الى تجارة

null
سها مصطفى
عندما طلب فاتح المدرس من طلابه رسم زرافة، لم يكن يتوقع أن يقدموا له مفاجأة، لكنه في اليوم التالي عندما عاد إليهم فوجىء أنهم جميعاً رسموا زرافة اقتطعت رقبتها وبقيت على الورق الأبيض دون رأس!
السبب، رده الطلاب إلى تهديد أو «موعظة» أستاذ الديانة الذي قال لهم «إذا رسمتم زرافة كاملة ستتحملون وزرها وستلاحقكم إلى يوم القيامة، لإنكم من خلقها وفي ذلك تقليد للخالق وتحد له»!
التشكيل شكل تحدياً للخالق في الموروث الشعبي، بدوره الجسد الإنساني العاري أضحى عورة في ثقافة «إسلاموية» متواترة تتنقل مشافهة، الغاليريات السورية بدورها ستسير وفق شروط السوق الذي يصدر معظم أعماله نحو الدول العربية النفطية، تقول إحدى صاحبة دار للعرض»اللوحات السورية أصبحت توضع في مخزن لبيعها للخليج بسعر مرتفع، ما غيّر من شروط الفن الذي يدخل في نسيج المجتمع بشكل يومي»، تضيف «حالياً مبيع اللوحات للخليج يتم ضمن شروط معينة، أبرزها منع اللوحات العارية التي يختصرها تحذير مسبق «لا نريد نساء».
فيما يرى إدوار الشاعر»غاليري تجليات» أن تراجع التعبيرية الواقعية ليس جديداً على الفن التشكيلي السوري، وسببه المنطلق «الديني» أولاً، وهو منطق التحريم غير المعلن والموجود من جهة، ومن جهة أخرى أصبح العري في سوريا شبه مرفوض منذ سنوات، علماً أنه لم يكن يوماً يشكل حالة عالية»، لذلك العري بشكل عام «طلبه قليل في السوق التشكيلي اليوم والناس تجرب الهروب منه، فقد يضع البعض التشخيص في منزله لكنه يرفض العري بسبب ذهنية عامة تستند لخلفيات دينية»!
أما عن دور الأسواق «المستوردة» في تحديد طبيعة التيار الفني الذي تستقطبه، يقول الشاعر»الأسواق الخليجية تحدد ما ترغب به، واليوم هناك موضة الخط العربي»، بتحديد أكثر يضيف «الخليج لا يشتري عرياً»، ويكشف الشاعر أن شروط العرض تمتد لتطال الدراما السورية فـ«لدى تصوير أي مسلسل درامي معد للتصدير للخليج يأتي المنتجين للغاليري لاستعارة لوحات لا تحمل أي تشخيص وانما طبيعة صامتة أو تجريد، وإلا سيرفض المسلسل في بعض الدول»، من دون أن ينسى التنويه إلى احترامه فكر هذه الدول وهذا بغض النظر عما يعني بالنسبة له.
التوجه نحو الخارج قابله حالة انحسار لفن العري في سوريا، مع قرارات شفهية رسمية وفقاً لأحد النقاد «حرّم العري في المعرض السنوي لوزارة الثقافة، الذي يقتصر على المنجزات القومية والتجريد أيضاً».
غير أن الناقد ينوه بإمكانية تحايل الفنان التشكيلي على الممنوعات أكثر من الكتب، فهو يستطيع اضمار موضوع لوحته، كأن يرسم رمزاً للموروث من دون أن يتمكن أحد من التكهن بماهية اللوحة وأن يمنعه، لافتاً إلى مفارقة تحريم التماثل دينياً واعتبارها صنماً، رغم أن «تماثيل الزعماء السياسيين التي تملأ الوطن العربي مثلاً هي بالنتيجة وبالمنطق ذاته أصنام، لكن الموروث الديني ممثلاً برجاله لا يجرؤ على مقاربتها» في تماه بين السطوة الدينية والسياسية!
صلاة الغائب
في كلية الفنون الجميلة غاب الموديل العاري وغابت معه سيدة مصرية عملت وابنتها كموديل عار، عميد الكلية لا يملك وقتاً للحديث في موضوع شائك كهذا، لكن أحد الأساتذة يفضل إجمال أسباب غياب الموديل بأسباب مادية تتمثل بعدم وجود بند واضح في الكلية للثمن الذي يفترض بالكلية أن تدفعه للموديل العاري، رغم الحاجة الماسة له في بعض الأقسام!
يقول الاستاذ (يتحفظ عن ذكر اسمه)عندما «تخرجت في عام 1984 كان فعلياً الموديل العاري في أيامه الأخيرة واندثر بشكل نهائي فيما بعد، لأسباب شتى أبرزها البيئة والذهنية الاجتماعية التي هي غير مهيئة لمشاهدته»، يدلل على ذلك بحادثة حصلت منذ ثلاث سنوات عندما طلب أستاذ مادة التشريح الفني في الكلية تأمين موديل عار، وتم الاتفاق مع فتاتين على ارتداء «الشورت» والجلوس أمام الطلبة كموديل، قام الطلاب بتصويرهما بأجهزتهم الخلوية!
يضيف»الموروث يرفض النحت، لذلك في التشخيص غالباً مايتم خدش التمثال أوقص رأسه كي لا يحمل جسداً كاملا،ً بهذا تختفي فكرة التحريم، ويصبح النحت مباحاً، للسبب نفسه تراجع التيارالتعبيري الواقعي لان بعض الفنانين الملتزمين بالموروث تصوفوا، وابتعدوا عن التشخيص متوجهين نحو التجريد بسبب فكرة التحليل والتحريم التي تسقط الجانب الجمالي عن الفن، وهو سبب تأخير الفن التشكيلي في سوريا وتطور الزخرفة والفن العربي بالمقابل».
النحات مصطفى علي يرفض ربط فكرة التحريم بالدين وانما برجال الدين، ويقول «هناك تيار أصولي مسيس وممول يضطلع بتوجيه الناس بطريقة خاطئة، كي تسير في طريق أحادي مغلق، يضيف»رجل الدين الصالح يعلم أن القطعة الفنية هدفها تزيين المكان وليس العبادة».
في ظل ما سبق يبدو أن للتبشير بتيار فني محافظ في الفن التشكيلي السوري حديث طويل، خاصة مع رفض التشخيص والعري الذي يستبق أي عمل تشكيلي سواء كان معداً أو غير معد للتصدير، تحت ضغط «شروط السوق والعرض والطلب» التي تسقط عن الفن صفته الجمالية الابداعية وهذا بإملاء من رأس المال السوري للمفارقة والعربي في آن!
القراصنة… الأحرار!
ليسوا كقراصنة الصومال وغيرها من المناطق المنكوبة، إنهم قراصنة من نوع آخر، كل مايقع تحت يديهم هو مشروع قابل للسطو، خاصة في ظل انعدام حماية الملكية الفكرية، رغم أن سوريا أصدرت مرسوم حماية الملكية الفكرية في عام 2001… وأنشأت مديرية حماية الملكية الفكرية في 2002، وانضمت إلى اتفاقية بيل لحماية الملكية الفكرية في 2004.
لم تنفع الجوائز التي حصدها شادي نصير في حماية مؤلفاته في القصة القصيرة من سرقة كتبه وطبعها وتوزيعها في لبنان، لا يملك شادي إجابة عن كيفية انتقال كتابه «رياح الضياع» إلى معرض الكتاب اللبناني، لكن الأمر بالنسبة له لا يشكل مفاجأة أمام «الانتهاكات التي تمارسها دور الطباعة والنشر والمكتبات في سوريا، من خلال تصوير ونشر أي كتاب دون مراجعة المؤلف أو الحصول على توكيل أو ترخيص سواء من المؤلف أو من دور النشر»، لذلك لم يفكر بتقديم شكوى في وزارة الثقافة السورية لأنها غير مجدية برأيه.
على الأرصفة وفي الشوارع السورية ينتشر العديد من الروايات العربية الشهيرة، بنسخ مصورة يمكن تمييزها بسهولة لدى تصفحها عن النسخة الاصلية، كرواية عزازيل التي انتشرت بنسخ مصورة في المكتبات السورية بعد أسبوع واحد من فوز مؤلفها بجائزة «البوكر العربية» للعام الماضي، لكن بالنسبة للكاتب خليل صويلح لا تقتصر القرصنة على دور النشر والمكتبات الصغيرة، وانما سترتدي وجه ما بعد الحداثة، وتتشظى في مختلف الاتجاهات… بما فيها الصحافة، ويلعب الدور الأبرز في ذلك «محرك البحث «google» الذي جعل من الصحافة ابداعاً في مهب الريح وساحة مفتوحة للسرقة، خاصة لدى مشاهدة الزاوية الصحفية للكاتب نفسه مستنسخة في أكثر من صحيفة عربية أو منشورة عليها، ماجعل الصحافة تبدو كأنها مرجعية واحدة، والمقالات متشابهة في ظل فقد للجهد الشخصي».
يضيف «هذه الحوادث ليست بالفردية وانما هي جزء من فكر جمعي، فالمناهج الجامعية مسروقة بدورها في معظم الأحيان أو مستنسخة عن مرجعيات أجنبية، وكذلك رسائل الماجستير التي يشتريها الطلاب جاهزة من أمناء مستودعات الجامعة وهو ماذكرته الصحافة السورية المحلية».
بدورها مكتبات الأقراص الليزرية والبرمجيات تمتلأ بالأقراص والبرامج المزورة، القرص الليزري المقرصن يباع بأسعار زهيدة لا تتجاوز 150 ل س«حوالى 3 دولار»، متضمناً أحدث البرامج في مجال تطبيقات التصميم والإعلان والهندسة وغيره، محمد.م سبق له التعامل مع قراصنة البرامج الالكترونية في متجره الواقع في منطقة البحصة في قلب العاصمة دمشق، والمعروفة على أنها نقطة تجمع للمكاتب التي تعنى بالبرامج الالكترونية ومستلزمات الحواسيب وغيرها، ييبين كيفية فك تشفير البرامج وتزويرها، يقول» يتم تنزيل البرامج عن الشبكة العنكبوتية كنسخ أصلية، ثم تنتقل لأيدي القراصنة، الذين يقومون بفك برامج الحماية، ومن ثم انتقاء الشيفرة، ووضع مولد أرقام تسلسلية بحيث يتوافق وشيفرة البرنامج»، لكن «في حال تطلب البرنامج وضع اسم ورقم تسلسلي يضع «الهاكر» اسمه كمستخدم بالإنكليزية وينسخ البرنامج عن النت، ليضعه على المنتديات أو على موقعه الالكتروني».
تعتبر مدينة حلب الأولى في مجال القرصنة الالكترونية بين المحافظات السورية وتعد المركز الأم، محمد «موزع للبرامج» يوضح ذلك بالإشارة إلى أن معظم الأقراص الليزرية المقرصنة تحمل عنوان «حلب حي الجميلية» كمصدر رئيس معلن للتوزيع، فيما تعتبر البحصة في دمشق بدورها مصدر البيع للزبون مباشرة!
قرصنة علنية
المكتبات الجامعية المنتشرة حول الكليات تساهم في ذلك من خلال عملية تجارية يتوزع أبطالها ما بين «الهاكر والموزع والمكتبات نفسها، فالـ«هاكرز» لا يعملون بالمجان، وانما يتم الاتفاق معهم على فك تشفير برنامج محدد مقابل ثمن محدد من الموزع، بدوره الموزع يأخذ سعر معين من المكتبات سواء كان الاقبال على شراء البرنامج عال أو ضعيف، فيما تعتمد المكتبات على سعر المبيع الذي تفرضه بالنهاية على الطلاب بحسب حداثة البرنامج… التي تتنافس والـ«هاكرز» على فك تشفيرها.
هذه السوق السوداء المفتوحة علناً، تجعل سعر برنامج مزور مثل «سي بيلدر» الخاص بالهندسة وتطبيقاتها يبلغ 500 ل س، حوالى «10 دولار»، ويباع بهذا السعر في مختلف مكتبات منطقة البرامكة المجاورة لكليات الهندسة في العاصمة، في حين لا يتجاوز سعر تكلفة نسخ البرنامج على القرص الليزري الواحد 25 ل س «حوالى نصف دولار»، ليقوم المشتري بتوزيعها مجدداً على زملائه من طلاب وأصدقاء ما يجعل الأمر يبدو وكأنه فينيقيا أزلية.
لكن في برامج التصفح الآمن، يصبح السوق ساحة أخرى تنتهك من قبل مختلف المتاجر والوكالات المتخصصة بالأجهزة والبرامج الالكترونية، بالاعتماد على بيع برامج الحماية على أنها أصلية بأسعار مرتفعة رغم كونها مزورة، منى .آ اشترت برنامج حماية من الفيروسات بسعر 1200 ل س«حوالى 24 دولارا» على أنه برنامج أصلي من إحدى الوكالات، لكنه عندما لم يستجب لدى محاولتها تحديثه عبرالشبكة العنكبوتية، ولدى مراجعة «الوكالة» رفض صاحب الوكالة تعويضها أو إعادة البرنامج قائلاً «أكيد لم تشتره من متجري»!
في بناء ضخم في منطقة المزة في العاصمة تقع مديرية حماية الملكية الفكرية التي تحتل غرفتين فقط من البناء بأكمله، علماً أن المديرية التي تتبع لوزارة الثقافة هي الوحيدة في سوريا التي يتم فيها ايداع المصنفات الفكرية لحمايتها، وليس لها أي فروع أخرى في المحافظات… ويبلغ عديد موظفيها 8 فقط، إضافة إلى ضابطة عدلية تضبط الانتهاكات في مجال الحماية، لا يتجاوز تعداد عناصرها الثمانية وهؤلاء وفقاً ليحيى نداف «المدير» غير مفرغين للعمل مع المديرية فقط.
رغم الواقع السابق، نظمت المديرية منذ إنشائها «مايزيد عن ألف ضبط في حالات انتهاك لحقوق الملكية الفكرية وفي مختلف المجالات وتم تحويل الإحالات للقضاء للبت بها»، نداف يتحفظ عن سلسلة الإجراءات الطويلة التي تقتضيها الإحالات والضبوط، لافتاً إلى أن مهمة المديرية هي شق تنفيذي» أما القضائي فهو مهمة المحاكم»، من دون أن ينسى الإشارة إلى ضرورة التنسيق مع القضاء، إلا أنه وعلى الرغم من ذلك، «لم يرسل القضاء أياً من قراراته للمديرية بخصوص الإحالات والمخالفات التي توافيه المديرية بها».
وتتوزع الضبوط ما بين الشكاوى من سرقة البرمجيات وهي حديثة العهد بالمديرية، ومابين ضبوط قرصنة المصنفات الغنائية وهي الغالبة، وغالباً يكون المدعين وكلاء شركات الانتاج الفني مثل شركة روتانا التي تعود ملكيتها للوليد بن طلال، والتي تتم بشكل دوري قرصنة مصنفاتها الفنية بكل ما تحتويه من أسماء فنانين عرب.
من جهته، نداف لا يبدو متفاءلا جداً في تغيير واقع حماية الملكية الفكرية سواء على الصعيد الفكري الابداعي أو البرمجي، بسبب ضعف امكانات المديرية وفقد كادرها لخبرات التدريب والامكانيات والأجهزة الحديثة التي تساعدها في الكشف على المصنفات، ويقيم الجهود السورية بالـ«متواضعة جداً بالقياس لحداثة هذه المفاهيم وأداوتها وكيفية الحد منها»، معمماً ذلك على باقي الدول العربية بسبب انعدام التنسيق فيما بينها، وعدم تفعيل اتفاقية حماية الملكية الفكرية العربية التي لا تزال قيد الدراسة من قبل المجالس المختصة في جامعة الدول العربية.
غير أنه «نداف» لا يرى أن إيداع مصنف ما «بغض النظر عن محتواه» هو بالضرورة قادر على حمايته من القرصنة، مستنداً في ذلك إلى مقولة «الحماية بمجرد الابداع وليس الايداع»، لكن بالعودة لصويلح لا تبدو المقولة السابقة صحيحة بالضرورة، وذلك بالـ«نظر لطبيعة سوريا كبلد اشتراكي يعتمد سياسة التعليم المجاني»، مايعني أنه «وعلى المستوى العلمي في حال تطبيق حماية الملكية الفكرية لن يتمكن الطالب من شراء الكتاب الجامعي بسبب ارتفاع ثمنه»، ويربط تطبيق الاتفاقية بـ«رفع دخل المواطن السوري لتحفيز البحث العملي وحماية الملكية الفكرية بكافة أوجهها»من جهة.
من جهة أخرى، يضيف» بالتالي هذا جزء من مشهد عام، تنشر فيه دور النشر والمطابع بما فيه مطابع وزارة الثقافة السورية «المفترض أنها مسؤولة عن حماية الملكية الفكرية» مختلف الكتب المترجمة من دون دفع ثمن حقوق النشر للناشر الأصلي»!
ثقافة السوق تجتاح الفن التشكيلي السوري
«تسونامي اقتصادي… ولج سوق الفن التشكيلي السوري»، تقول شكران الإمام زوجة فاتح المدرس التي تمتلك غاليري المدرس قرب ساحة النجمة في دمشق، تضيف»حدثت طفرة سرطانية في أسعار الأعمال التشكيلية، لكنها طفرة لم تحفظ كرامة للفنان كما في وقت سابق، كانت اللوحة فيه رخيصة لكنه كان العصر الذهبي للفن… كان للفنان كرامة».
كلام الإمام الأخير الذي يحمل شيئاً من النوستالجيا، يأتي خلال فترة شكلت العصر الذهبي لدور الفن التشكيلي السورية، التي رغم حداثتها البالغة 4 أعوام من الوجود على الساحة الفنية، إلا أنها تمكنت من تغيير معطيات التقييم للأعمال التشكيلية السورية، وذلك على الرغم من توصيف المعطيات الأخيرة بعدم الوضوح من قبل التشكيليين أنفسهم، الإمام ترى أن الغاليريات لعبت لعبة ذكية، مع انتقاء الفنانين الأكثر مبيعاً لتوقيع عقود احتكار معهم، لكن والكلام للامام «فيما بعد تم انتقاء مجموعة من الفنانين الشباب الذين وقعوا عقود احتكار تشمل مختلف أعمالهم بغض النظر عن نوعيتها، لتباع بسعر مرتفع… وهنا حدثت الطفرة».
نتائج الطفرة قسمت المشهد التشكيلي السوري إلى نصفين وفقاً للإمام، ففي الوقت الذي رفع فيه بعض الفنانين أسعار أعمالهم كرد على ذلك وخشية اتهامهم بالـ«ابتذال»، بقي الشق الآخر من «المستوى الوسط معلقاً»، فلم يتمكن هؤلاء من رفع سعر أعمالهم كزملائهم لإنها لن تباع لذا خرجوا من التجربة.
المعايير الفنية في تقييم الأعمال تبدو شبه مغيبة، مع انطلاقة الغاليريات السورية بتجربة فريدة، لم تبدأ بمراكمة الأعمال الفنية كما هو الحال لدى نظيراتها في الغرب، لتنطلق بسرعة ووقت قياسي وأيضاً أسعار فلكية، مصداقية الأسعار هذه سيضعها ناقد فني على المحك مع التلميح إلى أن «بعض الغاليريات شاركت ببعض اللوحات في مزاد في الخليج، لتشتري اللوحات مرة أخرى بهدف فرض سعر معين لها في السوق، والملمح السوري لا يبتعد كثيراً عن هذه التجربة مع تحول بعض الفنانين إلى بيع لوحاتهم وشرائها لفرض سعر وهمي شكل ورطة لهم فيما بعد»، الواقع الأخير يدفع أصحاب أحد الغاليريات للقول»أصبح البرواظ (الإطار) أغلى من اللوحة ذاتها»!!
غير أن المشاركة في المزادات العالمية استطاعت رفع سعر لوحات الفنانين الحقيقيين الذين للمفارقة معظمهم توفي، مثل فاتح المدرس ولؤي كيالي ومحمود حماد، بحيث اتضحت القيمة الفنية للوحة في الأسواق العالمية، على النقيض من لوحات الفنانين المغتربين مثل منير الشعراني ويوسف عبد لكي الذين تباع لوحاتهم بسعر مرتفع في المغترب سلفاً.
الفنان التشكيلي نبيل السمان ينطلق من وجود أربعة أجيال تشكل الفن التشكيلي السوري اليوم، كمعطى رئيس للتقييم، لكن المعطى الأخير «لا يؤخذ في عين الاعتبار مع وجود تجاوزات حدثت في أكثر من معرض»، السمان يجمل الوضع بالقول «لا أعرف ماهية اختيار اللوحات وانتقائيتها، لكن هناك أموال دخلت السوق وتم انتقاء مجموعة من الفنانين بشكل غير دقيق ليمثل هؤلاء الصف الأول والآخرون الصف الثاني، ودخل وافد جديد للفن التشكيلي تمثل بآليات دعائية تصنع الفنانين من خلال الملصقات والانترنت والدعوات والمعارض»!
إلا أن ذلك لم يتم بالمجان، قابله تدخل في عمل الفنان من قبل الغاليري بهدف تسويق العمل، وهو الجزء المتعلق بالـ«جانب القذر» أي المال، المزاج السائد هنا هو ذوق السوق وتوجه صاحب دار العرض بناء على ذلك، فقد تفرض عناوين معينة من مالكي الغاليري على الفنانين كما حدث في غاليري سوري شهير، بالنسبة للإمام موافقة الفنان على التدخل في عمله تعني «تحوله إلى تاجر وتخليه عن الطفولة التي يتمتع بها»، فيما سيتصدى فنانون آخرون لذلك بالرفض على اعتبار أن»الفنان الحقيقي لا يبازر أو يهادن».
لكن ما يحدث أحياناً يفوق حد المبازرة أوالمهادنة، ففي أروقة أحد المعارض كانت الجدران جداً متشابهة، لولا فروق بسيطة في مساحة العرض التي تحمل نسخاً من لوحة واحدة تناثرت في أرجاء الغاليري، تقول الإمام عن ذلك «في ذلك المعرض عرضت النسخة للبيع بسبعة آلاف دولار وهو سعر يفوق سعر اللوحة الأصلية، يمكنك شراء لوحة أصلية لفاتح المدرس بهذا الثمن»، تستطرد»هذه وقاحة»!
على النقيض مما سبق، الفنان التشكيلي منير الشعراني يجد في تجربة الغاليريات حضوراً ايجابياً، ويعود في فلاش سريع لقراءة وضع الفن السوري خلال سنوات طويلة سابقة اتسمت بالكبت والانغلاق قبل وجود الغاليريات، يقول «نجم ذلك عن ترشيح أشخاص لا يمثلون الفن السوري من قبل وزارة الثقافة للمشاركة في المعارض العالمية، يدلل على ذلك بالسؤال «لماذا الفن المصري والعراقي أكثر شهرة من الفن السوري؟ لتوفرهما في الخارج على النقيض من الفن السوري»، الشعراني يربط عدم وضوح الأسعار بـ«مسألة الاقتناء الشخصية التي لا تتوفر بشكلها الأفقي الافتراضي في سوريا، لذلك سنرى أن الفن التشكيلي الإيراني سعره مرتفع قياساً الى نظيره السوري، بسبب توفر مسألة الاقتناء الشخصية بين الإيرانيين».
بيت القصيد
الاقتناء الموصوف بالـ«قليل اجمالا» في الوسط السوري حدد شريحة الاقتناء بأشخاص يصنفهم الفنانون إلى عدة شرائح، شريحة تتمتع بذوق فني وإمكانية مادية وهؤلاء «نادرون جداً»، وشريحة أخرى «متنفذة تمتلك المال لكنها تفتقد الذوق والثقافة»، والاقتناء هنا يسير في طريقة تركيبية تلعب بعض دور العرض دورا بها نظراً لما تتيحه لها من صلات مع المجتمع المخملي، للمفارقة تستثنى من أطر هذه اللعبة المتضمنة اجتماعات وعشاءات مغلقة مع المقتنين الفنان نفسه الذي رسم العمل التشكيلي!
التشكيلي إدوار شهدا يصف آلية انتقاء بـ«إنتقاء من باب التفاخر من قبل طبقة متنفذة استطاعت شراء كل شيء»، يضيف»أي أن المقتني يكون محركه نحو الشراء هو التفاخر ليس إلا، بأنه يمتلك لوحة لفلان وغيره، وبعضهم لا يحضر بشكل شخصي وانما يرسل أحداً يثق به»، ويرد شهدا ذلك إلى «اعتراف المقتني ضمنياً بجهله الفني»، الحالة الأخيرة تركت آثارها على الفن بانتقاء عشوائي يجمع بين لوحات متفاوتة المستوى على جدار واحد.
ويعتبر تحول الفئات المتنفذة نحو الفن التشكيلي بكل الأسعار الباهظة التي يتطلبها، جزءاً من التحول الذي شهده المجتمع السوري، بين الأمس، عندما كان جمهور الفن التشكيلي من الطبقة البورجوازية والوسطى في المجتمع، واليوم عندما تشاهد لوحة لفاتح المدرس محملة ببطاقة تعرف باسم مالكها الجديد من الطبقة المخملية المُحدِثة تحت وطأة التحولات الاقتصادية في المجتمع السوري.
(كاتبة سورية)

السفير الثقافي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى