صفحات العالم

المتوسط بين أوهام الإمبراطورية ودواعي التكتل

null
نزار الفراوي
بعد مخاض دام شهورا، توج الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي مجهوده الدبلوماسي بإطلاق الاتحاد من أجل المتوسط الذي يجمع الاتحاد الأوروبي ودول جنوب المتوسط.
تم تقديم المشروع كإطار بديل يقطع مع إخفاقات مسلسل برشلونة الذي لم يوفق في تحقيق أي من الأهداف المعلنة، فلا شبكات التعاون الأمني أوقفت جحافل مرشحي الهجرة السرية الراغبين في بلوغ الإلدورادو الأوروبي، ولا برامج تمويل وتأهيل الأنسجة الاقتصادية قلصت من حجم البطالة، ولا المشروطية الحقوقية التي تبنتها أوروبا ساهمت في تحسين مناخ الحريات والديمقراطية بدول جنوب الحوض.
هذه المعطيات الموضوعية تضافرت مع رؤية ساركوزي للسياسة الخارجية الفرنسية لتفرز مشروعا تحتدم حوله الشكوك.
ولا ينصرف الشك حصرا إلى مدى جدية الاتحاد الأوروبي في إرساء فضاء للسلم والاستقرار داخل محيطه الجنوبي، بل أيضا لحدود استعداد بلدان جنوب المتوسط للانخراط في مسار يفرض عمليا إعادة النظر في طبيعة العلاقات البينية المتراوحة بين التفكك والتوتر.
وعود الميلاد.. وواقع الإخفاق
مهد الرموز الحضارية ونقطة تقاطع الكتل الدينية الكبرى، قاعدة جيوإستراتيجية تفضي إلى مصادر الثروة العالمية من جهة وبؤر تهديدات ما بعد الحرب الباردة من جهة ثانية، خريطة مصغرة للإشكاليات التي تؤقت العلاقات المعقدة بين دول الشمال والجنوب في النظام العالمي الراهن.
ذلك هو المتوسط بجغرافيته الاقتصادية والسياسية التي تفور بالتوترات والاختلالات الهيكلية.
كان المفعول الاستقطابي للحرب الباردة الذي رهن الحركة على صعيد مختلف الوحدات الجهوية قد انحسر وبشائر السلام الآتي قد لاحت على خط الصراع بين العرب والإسرائيليين ومشاعر التوجس من الظاهرة الإسلامية وتدفقات الهجرة قد تصاعدت.
فحينما التأم قادة الدول الأورومتوسطية في برشلونة أواخر نوفمبر/ تشرين الثاني 1995 من أجل خريطة طريق تسطر لهذا الحوض أطرا للحوار السياسي والتعاون الأمني والعمل الحقوقي، وتشبك فرقاء الضفتين في حركة للتبادل الحر والمساعدة من أجل التنمية وتؤسس لقاعدة من المبادلات الإنسانية والثقافية بين شعوب منطقة مشبعة بفصول طويلة من الذاكرة المشتركة.
وكما لو أن التاريخ ساق قادة المنطقة إلى محاكمة ذاتية، فإن قمة 27 و28 نوفمبر/ تشرين الثاني 2005، التي خلدت لمرور عقد من إطلاق الشراكة الأورومتوسطية، جاءت إعلانا عمليا عن انهيار المسلسل الذي عكسه الغياب الاحتجاجي لزعماء دول الجنوب وفشل القمة حتى في التوصل إلى وثيقة نهائية.
والواقع أنه لا دول الرخاء الأوروبية حققت تطلعها إلى التحكم في التحديات الأمنية الوافدة من الجنوب، من هجرة سرية وإرهاب وغيرهما، ولا بلدان الضفة الفقيرة لبت انتظاراتها على صعيد الاستفادة من الدعم الاقتصادي والتكنولوجي الذي كانت تعول عليه لمعالجة مشاكلها التنموية المتراكمة.
أما المتوسط عموما فوجد نفسه بعيدا عن أن يصبح الفضاء النموذجي للاستقرار السياسي والرخاء الاقتصادي والتعايش الحضاري، بل لا يزال حتى الآن المجال الأكثر تخلفا على المستوى الاندماجي مقارنة مع الوحدات الجهوية الأخرى، من قبيل تجمع أميركا الشمالية والوسطى (النافتا) وتجمع آسيان.
المقاربة الأمنية والبنيان الأعرج
يرى كثير من المراقبين أن مسلسل الشراكة الأورومتوسطية فشل بسبب التركيز على الجانب السياسي الأمني على حساب الاقتصادي التنموي، لكن المفارقة أن مظاهر الإخفاق أكثر بروزا على الصعيد السياسي نفسه.
وأمثل تجسيد لذلك نكث التعهد بإقرار ميثاق للأمن والاستقرار بالحوض المتوسطي يكون إطارا معياريا ناظما للعلاقات بين الوحدات المكونة للفضاء، كما نصت على ذلك اتفاقية برشلونة.
والسبب بالضبط هو أنه لم ينضج وعي حقيقي لدى النخب الأورومتوسطية، وخصوصا في أوروبا، مفاده أن تحقيق الإنجاز السياسي الأمني متعذر عمليا دون معالجة المدخلات الاقتصادية والاجتماعية للمشاكل التي تنفجر في شكل تدفقات للهجرة السرية وحركات متطرفة واضطرابات اجتماعية. ودون التصدي من جهة ثانية إلى عمق الصراع العربي الإسرائيلي، وخصوصا الإسرائيلي الفلسطيني الذي عاد إلى نقطة الصفر بعد اغتيال إسحاق رابين.
غلو المقاربة الأمنية للعلاقة مع الضفة الجنوبية وسيطرة فوبيا “البرابرة الجدد” المرشحين لغزو قارة الرفاهية على السياسات الأوروبية، جعل المسلسل بنيانا أعرج يفتقر إلى الأداة التمويلية والاقتصادية الكفيلة بتحقيق الوعود التنموية، علما بأن برنامج “ميدا” للمساعدة المالية لم يتجاوز 9 مليارات يورو.
ومما كرس حالة الإخفاق على هذا الصعيد الطابع العمودي الأحادي الجانب للاشتراطات السياسية الأمنية وكذا الخيارات التمويلية الاقتصادية، التي أنزلتها الجهات المانحة على وقائع البلدان الجنوبية بعيدا عن منهج تشاركي يمكن هذه الأخيرة من تصريف إمكانيات المبادرة الذاتية ومقدرات الاقتراح.
وإن كان مسلسل برشلونة قد فشل في تحقيق الأمن فإن فاعليته كانت غير ذات أثر على المستوى السوسيواقتصادي.
فمتوسط الدخل السنوي الفردي بالجنوب المتوسطي (باستثناء تركيا وإسرائيل) لا يمثل حاليا سوى 15% من نظيره في الاتحاد الأوروبي.
ويتجاوز فارق الدخل بين بعض دول الشمال والجنوب نسبة 1 إلى 20% (1186 يورو في مصر سنة 2006 مقابل 26500 في فرنسا على سبيل المثال).
هذه الاختلالات مرشحة لمزيد من التفاقم في ظل التوجهات الديمغرافية الحالية. فالنمو السكاني يبلغ في الجنوب 2% سنويا مقابل 0.4% في الشمال.
وقد دخل الجنوب آخر مرحلة من الانتقال الديمغرافي ستفرز 60 مليون فرد إضافي في 15 عاما القادمة، الأمر الذي يعني مزيدا من الضغوط من جانب القاعدة الشابة على الخدمات الاجتماعية ومستوى الإنفاق العام.
وبات على حكومات الجنوب توفير 40 مليون منصب شغل في ظرف العقد القادم من أجل كبح مؤشرات البطالة في مستويات معقولة.
كثير من السياسة
كان ينبغي انتظار أزيد من سنتين على آخر تشخيص رسمي لفشل مسلسل برشلونة قبل أن يعلن الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي عن إطلاق الاتحاد من أجل المتوسط في خطاب تولون في السابع من فبراير/ شباط 2007.
وحدد أهم أهداف المشروع في التحكم في الهجرة عبر مفهوم الهجرة الانتقائية، ومكافحة التلوث ومشاكل المناخ والتنمية المشتركة عبر التبادل الحر ونقل التكنولوجيا.
كان مشروع برشلونة وليد رؤية جماعية، أما والاتحاد مبادرة فرنسية صرفة فإن ذلك يطبعها ببعد سياسي مكثف يرتبط بتوجهات السياسة الخارجية لسيد الإليزيه.
ساركوزي كان يبحث عن فراغ ليبني مشروعا يسم به مشواره الرئاسي ووجده في أطلال البيت الأورومتوسطي المنهار.
ودون إغفال الدواعي الموضوعية من الاختلالات الكثيرة المشار إليها سلفا في المشهد المتوسطي، فإن الغائية السياسية والإستراتيجية لها حضور حاسم في مشروع الرئيس.
الخطاب السياسي لساركوزي حتى قبل توليه الرئاسة طافح بالطموح لدور إقليمي ودولي ريادي لفرنسا خصوصا في مناطق نفوذها التقليدية. وقد مضت صحيفة “ليبراسيون” الفرنسية إلى التساؤل عما إذا كان ساركوزي يريد استعادة ذاكرة الإمبراطورية الفرنسية في فضاء التماس العظيم بين الإسلام والغرب أم لا.
والواقع أن الفضاء المتوسطي كان قد فتح أبوابه أمام قوى أخرى في مقدمتها الولايات المتحدة التي أطلقت سنة 1998 مبادرة إيزنستات للشراكة مع المغرب العربي، وكذا المارد الصيني الذي اجتاح الأسواق المتوسطية خصوصا في قطاع النسيج والإلكترونيات وبات يرسخ وجوده الاقتصادي بخطى ثابتة.
وفي هذا السياق كان على فرنسا أن تنتبه إلى حديث المؤشرات، فقد تراجعت صادراتها لتونس إلى 22% مقابل 25% سنة 2003، بينما استقرت حصتها من السوق المغربية في 16.5% سنة 2006 مقابل 24% سنة 2000.
ولا ينصرف العامل التنافسي لدى ساركوزي إلى القوى الخارجية فقط، بل يهم أيضا القطب الألماني الذي بسط هيمنته على أسواق أوروبا الشرقية والوسطى في غمار مسلسل توسيع الاتحاد.
على هذا الصعيد، وعلى خلاف ما قال به بعض المراقبين، فإن الأمر لن يتعلق بتقاسم نفوذ بين ألمانيا على الجناح الشرقي لأوروبا وفرنسا في الامتداد الجنوبي.
فألمانيا لم تنضم –ولم تجر الدول الأوروبية للانضمام- إلى المشروع إلا بعد أن حملت ساركوزي على جعله مشروع مجموع دول الاتحاد وليس بلدان جنوب أوروبا فقط.
وهذا ما يسمح بالقول إن الوهم الإمبراطوري لساركوزي عصي على التحقق في زمن العولمة والسباق المفتوح على الأسواق.
من ناحية أخرى، وجد الرئيس الفرنسي في الاتحاد إطارا لامتصاص المطالبة التركية بالانضمام إلى اتحاد يريده أعضاؤه أن يظل ناديا مسيحيا، وهو ما استبقته أنقرة بتحفظ بدعم موقف القوى المناهضة للمشروع وخصوصا ليبيا التي اعتبرته التفافا على مشاريع الوحدة العربية والأفريقية.
التوتر البيني والمشروع الجديد
الفشل الذي يتنبأ به البعض للاتحاد من أجل المتوسط، إن صدق، لن يكون فقط بسبب المرامي السياسية الضيقة لساركوزي وطموحاته الإقليمية وإستراتيجياته الظرفية، بل أيضا بسبب الحالة البينية في جنوب الحوض المتوسطي.
ولعل أبلغ مثال على سوء الوضع على هذا المحور أن باريس وبرلين تمكنتا من جسر الخلافات بينهما حول صيغ وآليات المشروع، في حين احتدم الاستقطاب بين عواصم شمال أفريقيا ولا يزال حول الفوز باحتضان هياكل الاتحاد وتشكيلتها.
ناهيك عن الخلافات الجوهرية المستحكمة والطابع العمودي للعلاقات عبر الضفتين، فمجموع المبادلات البينية الجنوبية لا يتجاوز 5% من التجارة الخارجية لهذه الدول بينما تتمركز جل مبادلاتها مع المركز الأوروبي. وهذا الوضع يجعل التفاوض مع الشمال عملية عبثية وغير متكافئة.
والمفارقة في المشهد الأورومتوسطي أن مقولة مسعى الشمال لتكريس فوضى دول الجنوب وتفرقهم من أجل الحصول على أكبر المكاسب، لا تصمد أمام تحولات الواقع. ومن النادر في العلاقات الدولية أن تجتمع مصالح فريقين في نقطة واحدة.
لقد بات تكتل الجنوب المتوسطي مطمحا أوروبيا أيضا، بحيث يسمح لها وجود مخاطب جهوي منسجم بصياغة سياسة موحدة تتجاوز المقاربات الانفرادية المشوشة التي عرفها مسلسل برشلونة.
وتكتل جنوبي من هذا القبيل قادر حينئذ على المشاركة الندية في صياغة الإجابات عن الأسئلة والإشكاليات المعقدة التي تواجهها المنطقة، في إطار الانتقال من فلسفة المساعدة من أجل التنمية إلى فلسفة التنمية التشاركية.
صحيح أن وجود إسرائيل عائق أمام تفعيل هذه الرؤية البينية الجنوبية غير أن العلاقات بين الضفتين يمكن أن تتحمل عبء هذا الاستثناء.
كما أن أوروبا تراهن على حصول اختراق في مسار العملية السلمية، وهو أمل أنعشته التطورات الأخيرة على المسار الإسرائيلي السوري بوساطة تركية وكذا الانعطافة الإيجابية للعلاقات الفرنسية السورية.
وإن كانت الحالة الصحية لمسار التسوية تؤقت الحركة الأورومتوسطية في شرق الحوض، فإنه يصعب تصور نجاحات وازنة للمشروع في غياب حدود دنيا للتنسيق والتكامل بين دول المغرب العربي تسمح ببلورة علاقات تبادلية ندية.
فالمغرب العربي المندمج، الحلم المؤجل، ربح لأوروبا إذ يفتح أمامها سوقا كبيرة بإمكانيات واعدة للاستثمار ومخزون هام للعمالة البسيطة والمؤهلة، وهو ربح أكبر لدول المنطقة نفسها بحيث يجعل منها قوة تفاوضية في موقع مناسب للدفاع عن حق ولوج السوق الأوروبية والاستفادة من استثمارات ضخمة عابرة للحدود وإنماء ميزاتها النسبية تجاه الشريك القوي.
والواقع أن منسوب الحركة الدبلوماسية والسياسية في المنطقة المغاربية لا يبرر التفاؤل بدفعة معتبرة للعمل الاندماجي الذي يتجاوز أو يحيد الخلافات السياسية ويتقدم نحو توحيد الأنظمة والمعايير الإدارية والاقتصادية وغيرها.
في المتوسط تحديدا أوضحت التجربة أن مقولة الحافزية الاقتصادية والتنموية لتحقيق الاستقرار السياسي والأمني ليست من البديهيات.
ففي غياب الاستعداد للانخراط في مشروع تغيير عميق لجوهر آلية تدبير السلطة، ودون قطع خطوات عملية لا رجعة فيها على درب تصفية ملفات حقوق الشعوب ومعطيات الجغرافيا وذاكرة التاريخ، لن يكون مصير الاتحاد الوليد أفضل من اتفاقية برشلونة الموؤودة.
___________
كاتب مغربي
الجزيرة نت

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى