صفحات سوريةمنير شحود

محنة رياض سيف

null
منير شحود
في ربيع عام 2007 تلقيت اتصالاً عرَّف صاحبه عن نفسه بأنه رياض سيف، الاسم الذي ما كان لأي مهتم بالشأن العام السوري أن لا يعرفه. وقال أنه يمر على الطريق العام بين دمشق وحمص بالقرب من دير عطية، ويريد أن يتعرف عليّ.
التقينا على الطريق العام، وتحدثنا بسرعة، ثم اتفقنا على لقاء آخر. وقد شعرت من أول لقاء بيننا أن ثمة شخصية ديناميكية وعملية ملفتة. كنت حينئذٍ أدرِّس في جامعة القلمون بدير عطية، وتنتابني حالة من اليأس بعد أن فُصلت من الجامعات الحكومية، والعجز الجزئي التي كنت أعاني منه، والوضع الذي انتهت إليه بقايا ربيع دمشق، وكنت متشوقاً للقاء هذا الرجل الذي لم يكن معارضاً سورياً تقليدياً، وأثار حوله الكثير من اللغط.
كان لي طريقي الخاص في التعبير عن الرأي، ولم أكن في سوريا عندما حصلت أحداث ربيع دمشق، وتابعت الأخبار من مدينة دنقلا في صحراء النوبة بالسودان، حيث كنت معاراً للتدريس. كان الأمر يبدو وكأن سوريا بدأت تستيقظ من سباتها وتسأل عن حالها وأحوالها.
ومثل الكثير من العلاقات التي نسجت بين المثقفين والكتاب، فقد بدأت بصورة غير مباشرة، عن طريق الاطلاع، والنت. وخاصة بالنسبة لأولئك الذين لم ينخرطوا في صفوف المعارضة التقليدية، وكانوا قد ظهروا نتيجة للحراك العام، كإضافة جديدة، ويمكن القول، بتواضع، أنها نوعية، وقد “بقوا البحصة”، واجتازوا حاجز الخوف الأول!.
وبطبيعتي الانطوائية، فقد كنت أبتعد عن اللقاءات التي يتحدث فيها المثقفون، وأحب أن أتعامل معهم عن بعد، لأنني شخص عملي أيضاً، أبحث عن المصداقية وقرن القول بالفعل، ولا أطيق الجلوس في المقاهي، ووجدت ذلك كله في رياض سيف، بالملموس.
وبدا منذ الوهلة الأولى أن ثمة تشابه في الجوهر في حياة كل منا، رغم اختلاف ظروف العمل والحياة، فكلانا عصامي في مجاله، هو في الصناعة والإدارة، وأنا، وأعوذ بالله من هذه الأنا، في العلم والتعليم. وكلانا اعتاد أن يضع كل طاقته في العمل، ولا يوفر أي جهد، وكانت النتائج هي التي تتحدث. وهذا ما جعل علاقتنا تتوثق منذ اللقاء الأول، وكان رياض سيف هو النموذج الذي أبحث عنه في العمل الوطني.
كانت تجربته الصناعية الناجحة، وبشهادة أناس لا يعرفوه شخصياً، هي الأساس الذي يستند إليه. واعتقد رياض سيف أن الشعب السوري يحتاج لمعاملة تليق به حتى يبدع وتنطلق إمكانياته من مكامنها، وفي هذه الحالة النتيجة مضمونة بنسبة 90%. وكنت أعتقد ذلك انطلاقاً من تجربتي، فالعطاء بصدق يعود للجميع بالخير في نهاية المطاف، وينتشر بالعدوى، مثله مثل الفساد.
لم تنقطع لقاءاتنا بعد التعارف، وكنت أتابع باهتمام نشاطاته التي لا تهدأ، وهمه الوطني الذي يعيش معه لحظة بلحظة، حول الانتقال بسوريا إلى بر الأمان بتعاون الجميع، بما فيهم من في السلطة، فيما كان يدعوه بـ “الهبوط الآمن بالمظلة”، مخافة أن تسقط سوريا في المجهول. وكان الحديث يدور بيننا عن مصطلح جديد هو السياسة الأخلاقية، والشفافية في التعاطي مع الجميع.
كنا في بيت رياض سيف في زيارة عائلية، وكان أحد مدعي الاهتمام بالشأن العام يتبجح بأقوال لا تهم أحداً، وعندما قلت لرياض سيف الذي يجلس بجانبي كيف يمكنك تحُّمل مثل هؤلاء الأشخاص؟ فقال لي بدون تردد بأنه يمكن أن يتحمل أي شخص وأي شيء من أجل سوريا. وبالفعل كان رياض سيف مهووساً بسوريا ومستعداً للتضحية بكل ما يملك من المال والطاقة من أجل وطنه، وقد فعل. ولم أكن قد رأيت شخصاً مسكوناً بالهم الوطني لدرجة تستغرقه بالكامل، ومعذرة من الآخرين الذين لم أتعرف عليهم عن قرب، وهم كثر.
التقينا في إحدى المرات في الدريكيش، وبعد استراحة قصيرة، سافرنا إلى اللاذقية عبر طرق جبلية، وخلال الرحلة التي استمرت أقل من ساعتين، وبعد ما شاهده من جمال طبيعي خلاب، وإهمال فاضح في تنمية هذه الأماكن، وضع خطةً مدهشة لتنمية هذه المنطقة سياحياً، بما فيها مشروع للسياحة العلاجية، وشعرت أنه مستعد للنزول من السيارة، ووضع حجر الأساس لهذا المشروع، بسبب شدة اهتمامه وحماسه!
وكان نشاطه يتمحور، كما صار معروفاً، على تجديد دم المعارضة التي كانت تقتصر على أحزاب اليسار التقليدية والإخوان المسلمين، عن طريق ما دعي بالمجلس الوطني لإعلان دمشق، والذي سيضم الكثير من العناصر المستقلة والليبرالية. كان من غير المعقول بالفعل أن لا يكون ثمة إسلاميون ديمقراطيون يؤمنون بالآخر المختلف، وكان من غير المعقول أيضاً أن لا تتمثل غير تلك الأحزاب التي حطمها القمع وعزلها لسنوات عديدة.
ومع كل الصعوبات التي واجهته، فقد حقق ما كان يريده بانعقاد المجلس الوطني لإعلان دمشق، رغم العصي التي وضعت في الدواليب، والبقية معروفة للجميع. وكان خوفه من يؤدي غياب السياسة والمعارضة القانونية لحدوث ما لا تحمد عقباه على المستوى الاجتماعي، وكان المثال العراقي حاضراً.
زرته قبل اعتقاله بأيام، وكانت كل قيادات المجلس الوطني قد سبقته إلى السجن، وكان كئيباً. راجعنا بعض نقاط اختلافنا، وما أحلى الخلاف معه، وكنت أعتقد بأن الأمل مبالغ فيه، وإن بعض الخيوط لم تكن مرئية في اللعبة. وكان يبدو أن “على الفارس أن يترجل” ليرتاح قليلاً، فقد صرف من الطاقات الكثير. ولعب وضعه الصحي دوراً في تفاقم إحباطه، فقد بدأت حالته المرضية تقلقه، وخاصة لجهة عدم السماح له بالسفر للعلاج في الخارج.
لم أزره في السجن، لأنني جبان، وقد خفت على عملي، ولم أزره بعد خروجه من السجن، لأنني علمت أنه يريد أن ينكفئ بعيداً في حاله، فاحترمت رغبته.
ربما هي المرة الأولى في تاريخ سوريا السياسي الحديث أن لا يُخوَّن من قرر التنحي بنفسه عن العمل العام، إنه تقدم ملموس فيما يخص النظرة الواقعية للإنسان في الحياة، كما في السياسة.
إنني أعتقد بأن رياض، سأسمح لنفسي بالحديث عنه بدون ألقاب أو تكلُّف، أنجز كشخص ما لم تنجزه أحزاب مجتمعة. ولا أنتقص هنا من تضحيات من دفعوا الأثمان الغالية في سبيل وطنهم، إنها محفوظة في الضمير السوري للأبد. وبصمت رياض سيف خسر الجميع، بدون استثناء، محاوراً ديمقراطياً، وشخصيةً جامعة.
فليسترح رياض سيف، وله منا الدعاء أن يشفى من مرضه بأسرع وقت، وليعش كما يحلو له. ففي السعي وراء التكيُّف في الظروف الصعبة المطبقة، يميل كل منا إلى سلوكيات تعويضية ليست هي ما يريده، وذلك انطلاقاً من غريزة البقاء البيولوجية، رغم ما تتركه من أثر مشوِّه لذات الإنسان، وانتقاص لكرامته، والحد من إبداعه.
هل كانت ثمة إمكانية لتغيير ديمقراطي في سوريا في العقد المنصرم؟ من الناحية النظرية أجزم بنعم، لو وعت كل الأطراف ذلك، وخاصة السلطة. وربما كان القيام بذلك بصورة تدريجية، وبعيداً عن الاضطرابات الاجتماعية الخطيرة، سيوفر على سوريا المزيد من الوقت الضائع؟ وهذا ما سنتركه للقادمة من الأيام.
لن تنجب دمشق كل يوم من أمثال خالد العظم ورياض سيف… إن محنة رياض سيف هي محنة سورية بامتياز.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى