صفحات أخرى

تبسيط الحرب” شريط وثائقي يكشف التواطؤ بين الإعلام الأميركي وحكومته

null


ريما المسمار

على الرغم من ان تاريخ الافلام الدعائية بات شبه ميت على الأقل في شكله المباشر، الا انه من الصعب ان نصدق غياب صفقة غير متخيلة بين الادارة الاميركية والاعلام الاميركي لبيع اجتياح العراق للرأي العام. يعزز ذلك الاعتقاد بروز افلام كثيرة حول الحرب المستمرة على العراق
حبلى بالمعلومات المضللة والاكاذيب وتغذية الشعور بالرعب لدى الرأي العام كالتي تظهر في اشكال تعبيرية مختلفة على شاشات “سي.أن.أن” و”فوكس” منذ العام 2002 وحتى اليوم. يثير هذا النوع من التغطية الاعلامية جدلاً واسعاً ويستدعي دراسات وتحليلات آخرها الفيلم الوثائقي “تبسيط الحرب” War Made Easy المقتبس عن كتاب الناقد والصحافي والناشط ضد الحرب نورمن سولومن في عنوان

War Made Easy: How Presidents and Pundits

Keep Spinning Us to Death . والنتيجة فيلم وثائقي مكثف من اخراج لوريتا آلبر وجيريمي ايرب. ولكن قبل الخوض في الفيلم قد يكون من المفيد استعادة العلاقة بين الافلام والادارة الاميركية في ما يكشف حقائق مذهلة.

توسع النقاش خلال السنوات القليلة المنصرمة حول الافلام السياسية التي شهدت خروج عدد غير قليل من الأفلام الوثائقية ذات الميل الى موضوعات سياسية، بعضها خاص بالانتخابات الرئاسية الماضية وبعضها الآخر بالحرب المستمرة على العراق. غنيٌ عن القول ان مايكل مور أطلق الشرارة، شرارة النقاش، بفيلمه “فهرنهايت 11/9″، مطلقاً العنان لأفلام أخرى وثائقية لتجد فرصة عرضها على جمهور عريض، استفاق فجأة على حقيقة ان للسياسة دهاليز خافية وان الظاهر لا يعكس بالضرورة الباطن. كان من الطبيعي ان تفرز تلك الموجة من الافلام، او الأصح جماهيريتها الواسعة ـ إذ ان التاريخ السينمائي حفل دائماً بأعمال من هذا النوع خلا انها لم تكن في دائرة الضوء كما حدث مع الافلام الاخيرة بسبب تضافر اسباب عدة ابرزها الحرب على العراق وفيلم مايكل مور واتساع النقاش حول الاعلام ودوره خلال الحرب ـ نظريات وتوقعات من نوع ان المرحلة القادمة ستشهد عودة الافلام السياسية ليس على الصعيد الوثائقي فقط بل الروائي ايضاً. تسلحت تلك النظريات بحقائق عملية، إذ رافقت موجة الافلام الوثائقية السياسية أخرى روائية، ربما لم تصل ارهاصاتها بالقوة الكافية الى الجمهور العالمي. افلام مثل South Park وTeam America سخرت من حرب اميركا على الارهاب عبر فريق ممثلين من الدمى. على ان تلك الافلام تشكل جبهة مضادة لا تنضوي تحت لواء العلاقة الحميمة بين هوليوود وواشنطن ولعل هذا ما يستدعي نقاشاً من نوع آخر. فبعد نحو نيف وست سنوات من وقوع أحداث 11 ايلول وإعلان اميركا الحرب على الإرهاب، يبدو ان التزام هوليوود بواجبها ازاء واشنطن، تخترقه اعمال ليست عرضية بل هي التي تشكل الاساس. بمعنى آخر، لم تشهد العلاقة بين الافلام (سينمائية ووثائقية وتلفزيونية) وواشنطن تمرداً بقدر الحاصل اليوم او ما يبدو انه حاصل كما لم تشهد الافلام تأثيراً مباشراً لواشنطن كما هي الحالة اليوم.

تعود دينامية تلك العلاقة بين الافلام والادارة الاميركية الى العام 1915عندما سُلبت الافلام حقها في التعبير الحر ، بموجب قرار من المحكمة العليا، في وقت كانت الاستديوات فيه تحت سيطرة اليهود. وخلال العشرينات والثلاثينات من القرن الماضي مع صعود الثورة الشيوعية في العالم وبالتزامن مع الأزمة الاقتصادية داخلياً، تبنت هوليوود موقفاً “وطنياً” مصدرة بياناً عام 1921 بحذف اية مشاهد او حوارات تسيء الى الجيش او البحرية او اي شخصية ذات صفة رسمية. حتى اواخر الثلاثينات، لم يكن مألوفاً او مستحباً ان تظهر شخصية رئيس الجمهورية في الافلام خوفاً من الاساءة الى صورة الدولة. مع وصول فرانكلين روزفيلت الى سدة الرئاسة اواخر الثلاثينات وقراره خوض الحرب ضد اليابان والمانيا، بدا ان الحاجة الى هوليوود ماسة اكثر من اي وقت مضى لاقناع الناس بضرورة التسلح واعلان الحرب. هكذا يمكن ان نحصي نحواً من اربعين فيلماً حول الجيش وفخر الخدمة العسكرية في الفترة التابعة لبيرل هاربر. وفي عهد روزفيلت كذلك، سُجل انشاء “مكتب الصور المتحركة” Bureau of Motion Pictures لمهمة قراءة السيناريوات وابداء الرأي والاقتراحات. وكان من بين الاسئلة الاساسية التي يُواجه بها اي سيناريو جديد وقتذاك: “هل سيساعد هذا الفيلم على الفوز بالحرب؟” هكذا حفلت تلك المرحلة بأفلام تكرس الديمقراطية الاميركية والتنوع الثقافي واهمية العمل الجماعي وضرورة التضحية من اجل القضية من نوع Wake Island وDestination Tokyo وBataan. كما ظهرت افلام أكثر مباشرة، حولت العدو شيطاناً كسلسلة فرانك كابرا Why We Fight . بالطبع لم يكن هدف هوليوود ان تكون خاضعة لسياسة الحكم بقدر ما كانت ترى في مجاراتها لها تجارة مربحة جاذبة لأكبر عدد ممكن من الجمهور الذي وصل عدده الى تسعين مليون متفرج في الاسبوع!

ما ان انتهت الحرب العالمية الثانية حتى بدأت الحرب الباردة ومن جديد كانت هوليوود مطالَبة بالتأكيد على وطنيتها. ولكن الثمن كان باهظاً هذه المرة حيث أُدرجت اسماء نحو من خمسمئة كاتب وممثل ومنتج على لائحة سوداء بتهمة نشاطهم الشيوعي. في تلك الآونة، شهدت هوليوود اكثر سنواتها فقراً ووهناً فكان من الطبيعي ان تبحث الصناعة عن مصادر تمويل فوجدت ضالتها في الجيش. ومع هذا التحالف الجديد، أصبحت المؤسسة العسكرية فاعلة في هوليوود وكان على الأخيرة الالتزام بمواقف البنتاغون في الخمسينات للحصول على التسهيلات بما حول هوليوود مرة ثانية “جزءاً من الماكينة الدعائية” بحسب الكاتب والصحافي دايفيد روب. حكايات البطولة الاميركية سادت افلام تلك المرحلة من دون تلميح الى العنصرية او العنف في افلام مجدت القوات المسلحة وشددت على خطر الشيوعية: Command (1955) وA Gathering of Eagles (1963) وسواهما. بالنسبة الى الجيش، لم تكن تلك الافلام تبرير لنفقات المؤسسة العسكرية فحسب، بل ايضاً دعوة مستمرة الى التطوع. على الرغم من ان السبعينات شهدت صعود مخرجين مستقلين وافلاماً ضد التيار صُنعت بدون مساعدات عسكرية، الا ان قبضة السياسة على هوليوود لم تلن. افلام مثل Pearl Harbor وWindtalkers وBlack Hawk Down أمثلة معاصرة. كما شهدت المرحلة اللاحقة لأحداث 11 ايلول ظهور افلام أُنتجت بأموال “وكالة المخابرات المركزية” CIA مثل The Sum of All Fears وThe Recruit في خطوة ليست الاولى ـ سبق لهما التعاون في ما مضى ـ ولكنها الأكثر مباشرة وتركيزاً حتماً. ومن ذلك ما قام به الرئيس جورج بوش في 11 تشرين الثاني/نوفمبر 2001 اي بعد مرور شهرين على أحداث 11 ايلول حيث دعا رؤساء الشركات الهوليوودية الى اجتماع مثّله فيه كارل روف المسمى بـ”رأس بوش المدبر”. على الرغم من ان وقائع الاجتماع ظلت غامضة، الا ان ما تسرب منها أكد انها محاولة توظيف هوليوود في خدمة الخطة السياسية المقبلة. هل لبت هوليوود النداء؟

لا شك في ان الإجابة عن ذلك السؤال لم تعد بالسهولة التي كانت عليها من قبل. فالافلام اليوم باتت تحتاج الى وقت أطول لتتحول من فكرة الى فيلم بما هو وقت كفيل بتتغير الأحداث والمواقف. كما ان طبيعة الحرب اليوم اختلفت و”العدو” لم يعد واحداً ولا واضحاً على غرار ما اعتُبرت الشيوعية في الخمسينات مثلاً. فضلاً عن ان انتشار الاعلام المتلفز يحتكر الخبر ويستهلكه في غضون دقائق ويلعب الدور الذي لعبته هوليوود في حقبات سابقة. أضف الى ذلك ان طبيعة الصناعة السينمائية المعاصرة القائمة على التنافس الشديد والانفاق الهائل تجعل مستحيلاً المجازفة بأفلام فقط لخدمة واشنطن. واذا كان مازال بمقدورنا العثور على افلام كثيرة تندرج ضمن قائمة الاعمال المروجة للادارة الاميركية وسياساتها وبطولاتها ـ فيلما بروس ويليس tears of the Sun وجون ترافولتا Ladder 49 يحضران كمثالين ـ الا ان ادراج تلك الافلام بشكل مباشر تحت خانة خدمة هوليوود لواشنطن ليس بالبساطة عينها التي يمكن ان نصنف بها مثلاً فيلماً كـ The Green Berets الذي أخرجه جون واين العام 1968. ولكن قبل اي شيء، ساد وقتذاك مناخ من “البراءة” في النظرة الى السياسة ومعاني البطولة، اصبح اليوم مفقوداً بفعل الاعلام الذي، على علاته، حول تلك المنطقة من السياسة والصفقات السرية مشاعاً لمن يربد ان يبحث ويرى ابعد. لا يعني ذلك ان التاريخ السابق لهوليوود لم يشهد محاولات سينمائية متمردة ومستقلة. ففي كل مرحلة برزت محاولات عكس التيار: Apocalypse Now وForrest Gump وPlatoon كلها افلام سبحت عكس التيار في تناولها حرب فييتنام ورُفضت بشكل قاطع من قبل البنتاغون.

انه اذاً عصر البراءة المفقودة في العلاقة بالصورة. هذا ما قامت عليه موجة الافلام السياسية الاخيرة انطلاقاً من “فهرنهايت 11/9” التي ازاحت القشة عن حقيقة ساطعة، لعب الاعلام دوماً على تمويهها، وهي ان الصورة ليست أُحادية التحليل او المضمون. وشكلت الحرب على العراق مادة غنية للخوض مجدداً في دهاليز السياسة ولكن هذه المرة كان التلفزيون هو حليف الدولة منذ اللحظة التي سمحت فيها الاخيرة لصحافيين بمرافقة الجنود في دباباتهم عند الدخول الاول الى العراق. لقد كان التلفزيون الشريك الفعلي في الحرب والناقل الرسمي والمباشر لأحداثها واستعراضاتها. أما الافلام الوثائقية التي رافقت الحدث فانقسمت بين تمجيدية او على الاقل ملتزمة جانب وجهة النظر الاميركية أو مستقلة تحاول أن تسائل وتحقق لاسيما بعد فضيحة سجن “أبو غريب” وامتداد فصول الحرب وارتفاع عدد القتلى في صفوف الجيش الاميركي. ومن تلك الافلام Iraq In Fragments وNo End in Sight وGunner Palace. وبموازاتها ظهر عدد من الافلام الروائية أحدثها In the Valley of Elah لبول هاغيز وRedacted لبراين دو بالما وGrace is Gone لجايمس سي. ستراوس وBattle for Haditha لنيك برومفيلد. غير ان شريط آلبر وايرب المأخوذ من دراسة سولومون يحتل موقعاً آخر. فقد خرج الفيلم من رغبة معلنة في “تثقيف الجمهور العريض” بما يفسر انتاجه من قبل مؤسسات مثل “معهد دقة الرأي العام” و”مؤسسة التثقيف الاعلامي”. يقتفي الوثائقي أثر الافلام الوثائقية الكلاسيكية حيث يتكئ بشكل أساسي على المحاورات. ولكن بعض القراءات الذي تناوله بشكل نقدي لم ينفِ عنه الصفة السينمائية لجهة تكثيف المواضع وبنائه التصاعدي وطبعاً صوت الممثل والمخرج شون بن الذي يؤدي التعليق الصوتي المرافق.

ينطلق الفيلم من أطروحة سولومون حول المغامرات العسكرية للولايات المتحدة الاميركية بعد فييتنام ومحاولة بيعها للرأي العام في هيئة معارك لإرساء الطبائع الحسنة (الديموقراطية)، بحسب سولومون، ضد الشر الاجنبي (الشيوعية، الارهاب…). ثم يعرض الفيلم لمقتطفات من الخطابات السياسية التي تقتات على خوف الرأي العام لتبرير التدخل العسكري الاميركي ويسوق الأمثلة على الحجج الواهية كأسلحة الدمار الشامل وربط القاعدة بالعراق وسواهما. كل ذلك ليس بجديد ربما ولكنه يخلص الى التالي: “الاعلام الحربي في أميركا اليوم بات ممسوكاً تماماً ولكنه شديد التعقيد والاخطر من ذلك كله انه بات جزءاً من الترسانة الاعلامية.” ما يتبع ذلك، سلة من البراهين البصرية التي تقتبس تصريحات سياسية متناقضة حد الارباك لأمثال كولن باول وتشير الى تناغم الخطاب الاعلامي مع خطاب البنتاغون من خلال الاستعانة بآراء جنرالات متقاعدين كمحللين والابتعاد من محللين مستقلين واسكات الاصوات المناهضة للحرب. ويشير الفيلم في سياق تحليلاته الى أن الخطر الاكبر الذي يتهدد الاعلام الحر هو اسقاط الجدل على حساب الشعور الوطني. كما يستشهد بتقارير اخبارية تلفزيونية تغطي الحرب كانتاج هوليوودي ضخم او حدث رياضي.

لا يتوقف “تبسيط الحرب” War Made Easy عند مساجلة الاعلام الاميركي وفضح تواطئه مع الحكومة بل يذهب أبعد برسم خط بياني للتغطية المغلوطة للحروب منذ نصف قرن. وفي حين يعتبر الاعلام الاميركي أن تغطية حرب فييتنام هي الاساس المتين والصحيح لتغطية الحرب، يجد صناع الفيلم انها اي التغطية تعبير عن الفشل الاعلامي في نقل صورة حدث وقرار أمة.

المستقبل – الخميس 13 آذار 2008

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى