الأزمة المالية العالمية

الأزمة المالية العالمية بعيون أوروبية

توفيق المديني
منذ اندلاع أزمة القروض العقارية في الولايات المتحدة الأميركية، والتي باتت تعرف بأزمة «السوبريم» في صيف العام 2007، يكاد لا يمر شهر واحد، ومن الآن فصاعدا،ً يكاد لا يمر يوم واحد من دون أن يتعرض الاقتصاد العالمي لهزات عنيفة من جراء تداعيات هذه الأزمة المالية الكونية، التي لم يقدر أي إنسان حجمها وتأثيرها.

فالأزمة المالية التي تضرب الأسواق المالية العالمية منذ أكثر من سنة تدور حول أزمة الهوية للرأسمالية الغربية التي فقدت بوصلتها. فكل إفلاس يصيب بنكا جديدا، وكل تأميم، وكل إعلان لمخطط إنقاذ تقدمة الخزانة الفيدرالية الأميركية، يقود إلى واقع الهواجس السوداء التي تقضّ مضاجع الأوروبيين الذين يحاولون دائما تجاهلها: فالرأسمالية الغربية مريضة.
يقول المحلل نيكولا بافيريز في مقاله: «إنقاذ اقتصاد السوق يدعو إلى التحرر من قواعده المتزمتة»، المنشور في مجلة «لوبوان» الفرنسية بتاريخ 25 سبتمبر 2008: «رغم أن الأزمة اندلعت في الولايات المتحدة الأميركية، فالاقتصاد الأوروبي هو الذي أصيب بالتباطؤ، فجفت مصادر التمويل إثر انفجار فقاعة الديون العقارية الأميركية، وتراجعت معدلات الاستهلاك في المملكة المتحدة، وفرنسا، وإيطاليا، وإسبانيا.. وانخفضت نسبة الصادرات الألمانية، من جراء تباطؤ عجلة النمو العالمي، من 5،2% إلى 3%. وتعهد الإفراط في تقدير سعر صرف اليورو 40% فوق قيمته الفعلية، تعهد استقرار الميزان التجاري الأميركي. فالسياسة المالية الأوروبية تجاري الانزلاق وراء الأزمة، وتعبّد الطريق أمام تقهقر قيمة الأسهم، والمداخيل، وتقلص العمالة».

وفي الواقع، كيف يمكن تفسير توزيع هذه القروض العقارية مع بداية سنة 2000 من قبل شركات قروض غير خاضعة لرقابة السلطات المالية؟! فهذه القروض المقسمة والتي أدخلت في المنتوجات المالية المعقدة التي ضاعفت المخاطر، تمت إعادة بيعها إلى بنوك واستثمارات في العالم كله. ولم يمر سوى بضعة أشهر حتى ظهرت مساوئ الدفع المتعلقة بهذه السوبريم التي نقلت عدواها إلى الكرة الأرضية.. واليوم تهدد هذه الأزمة بإحداث عدم الاستقرار في الاقتصاد العالمي.
في الولايات المتحدة الأميركية، تعاني قطاعات من الصناعة: مثل البنوك التي تصرفت بطريقة غير مدروسة، والعقارات، والبناء، من تباطؤ النمو، وزيادة البطالة، وتطور مستمر في التضخم.. والاقتصاد الأول في العالم مهدد بالدخول في مرحلة من الكساد وجرّ من خلال سقوطه شركاءه التجاريين، في كل من أوروبا وآسيا.
ويعتقد الخبراء الأوروبيون أن هناك أخطاء ثلاثة ارتكبتها الرأسمالية الغربية، الأول: ويتمثل في الضعف في مراقبة الأخطار، والاطلاع على المعلومات الدقيقة التي تخولها تقويم المخاطر التي تغامر بها الشركات المالية، في ظل وجود فاعليات مالية لا تسيطر على الابتكارات المُدخلة بوتيرة متسارعة من قبل الصناعة المالية.. الثاني: ضعف الحاكمية لنظام مالي غير شفاف زعم أنه يضبط نفسه ذاتيا، وأن بعض الضابطين أو المنظمين، ولاسيما الأنكلوسكسونيين لم يعرفوا كيف يلجمون تجاوزاته.. الثالث: الضعف الأخلاقي لنموذج مالي مُتهم بإغماض عينيه حول لا مسؤولية معممة وممارسات قادت إلى ارتكاب جريمة مالية حقيقية.
ويقدم خبراء الاقتصاد سيناريوهات قاتمة.. ففي فرنسا، يذهب المستشار السابق في قصر الإليزيه جاك أتالي للرئيس الراحل فرانسوا ميتران، إلى حد القيام بنوع من التماثلية بين هذه الأزمة العالمية الراهنة وأزمة 1929، وبالمناسبة ليس هو الوحيد هنا، إذ يؤكد الأستاذ في جامعة باريس 10 فيليب ديسيرتين «أن الولايات المتحدة الأميركية تعيد إحياء أسباب الغضب، ولايوجد أي سبب لكي لا تكون أوروبا متضررة».
ويتساءل العديد من الخبراء: كيف وصلنا إلى هذه الحالة؟ والجواب يجب البحث عنه في أزمة الأنموذج الاقتصادي الأميركي. هذا الذي «عمل» بشكل عام بالاعتماد على القروض. فمن أجل معالجة الأزمة التي نشأت عقب أحداث 11سبتمبر العام 2001، خفضت الخزانة الفيدرالية الأميركية بشكل كبير معدلاتها -التي تحدد تكلفة القرض- من %6 في العام 2001 إلى %1 في العام 2003 الطريقة فعالة، وسمحت للشركات بالاستثمار وللعائلات الأميركية بالاستهلاك.
الأزمة ليست، على الأرجح، سوى في بداياتها. ذلك أن العولمة التي تعولم الرأسمال المالي، ومعه البلاهة المالية، تعولم في الوقت عينه الأزمة المالية الأميركية.. فلا شيء من ذلك كله سيتوقف عند الحدود الأميركية، بل إن العدوى ستنتشر في أصقاع الأرض كلها.
ما الجواب الأوروبي عن هذه الأزمة؟
البنك المركزي الأوروبي تصرف منذ سنة من خلال ضخ سيولة نقدية في سوق ما بين البنوك. لكن الوقت حان للتصرف بسرعة.. فأمام انهيار النظام المالي العالمي، على أوروبا أن تعيد النظر في أنموذجها الاقتصادي والمكانة التي تريد منحها للدوائر المالية. فالأوروبيون مطالبون بإيجاد المبادئ التي هي في قلب مقاربتهم التاريخية للتنمية الاقتصادية والمالية. ذلك أن معظم الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي تشترك في هذه المبادئ، التي تحدد الهوية الاقتصادية الأوروبية الحقيقية. إنها الشفافية، والمسؤولية، والأخلاق، وإقامة علاقة ثقة بعيدة المدى بين المؤسسات المالية والمقاولين، والدور المركزي للسلطات العامة، سواء على المستوى الأوروبي أو على المستوى الوطني.. وبصورة أوضح، النظام المالي يجب أن يكون في خدمة التنمية الاقتصادية، والاقتصاد لايجوز أن يكون تابعا لغش المنتوجات والمضاربات المالية.
فضلا عن ذلك، فإن أوروبا مطالبة بالانتقال إلى مرحلة جديدة من الاندماج الاقتصادي والمالي، الذي من دونه لا يمكن أن ينبثق نظام مالي خاص في أوروبا قادر على تثبيت نفسه عالميا. وفي الواقع كان لغياب هذا الاندماج للأسواق البنكية والمالية تأثيره السلبي على وضع أوروبا التي ظلت عاجزة عن منافسة الولايات المتحدة الأميركية على جلب كميات كبيرة من الأموال المتدفقة من البلدان الناشئة.

تمتلك أوروبا أسلحة قوية، ولاسيما اليورو، الذي يحتل المرتبة الثانية كعملة احتياط، الأمر الذي يدفع الأوروبيين إلى تحرير عقودهم باليورو. ومن دون حاكمية اقتصادية ومالية قوية يصعب على الأوروبيين إدارة الأزمات.. فالأميركيون يمتلكون الشجاعة للقيام بعملية تطهير إنقاذية، عبر القيام بعملية «تأميم» حين يقتضي الأمر ذلك، تحت السيطرة الفعالة للسلطات الفيدرالية والبنك المركزي. وهذا ما بات يظهر الحدود الإيديولوجية والمالية لليبرالية الجديدة وضرورة تدخل الدولة البراغماتي.
فها هو الرئيس نيكولا ساركوزي يدعو في خطاب ألقاه في مدينة طولون جنوب فرنسا يوم 25 سبتمبر الماضي إلى تجميع الأمة حول الدولة، وإلى انتقاد الرأسمالية المالية.. ففي ظل الإفلاس الكبير للرأسمالية المالية، وجد الرئيس ساركوزي بواسطة مستشاره هنري غويانو الكلمات المعبرة التي تسمح باستمالة الطبقات الشعبية في فرنسا، حين قال:«إن الفكرة التي تقول دائما إن الأسواق لديها الحق هي فكرة مجنونة»، مندداً بفساد هذه الرأسمالية التي تنسى المقاول الشجاع لمصلحة المضارب غير المسؤول. ودافع ساركوزي عن ضرورة إقامة «توازن جديد» بين الدولة والسوق.
أوروبا باتت تنادي بضرورات تدخل الدولة، والمنظمات الدولية والإقليمية، إنها دعوة لكينزية جديدة تجسد القطيعة مع الايديولوجية الليبرالية الجديدة التي هيمنت على العالم منذ مجيء تاتشر وريغان إلى السلطة مع مطلع الثمانينيات من القرن الماضي. وقد نجم عن تعميم هذه الليبرالية الجديدة على مستوى كوني بعد نهاية الحرب الباردة وانهيار الاتحاد السوفياتي إسقاطات مدمرة تمثلت في تحطيم الجمعي، وتخصيص الخاص والفضاءات العامة والاجتماعية من قبل أصولية السوق. وتصرفت هذه الليبرالية الجديدة كآلية فرز دائمة تحت تأثير المنافسة المعممة: السوق ضد الدولة، الخاص ضد القطاع العام، والفرد ضد المجموعة، والأنانية ضد التضامن.. وبما أن رؤوس الأموال تتنقل بحرية، بينما الأشخاص هم أقل حرية في تنقلاتهم، فإن الرأسمال هو الذي يربح. ويمكن القول إن الرأسماليين أعلنوا الحرب الطبقية على العمال والموظفين والفئات الوسطى في ظل هذه النيوليبرالية المتطرفة، وأنهم قد فازوا بها أيضا. فقد أدخلت معظم حكومات العالم، سواء في المراكز الرأسمالية المتقدمة أم في المحيطات، تغييرات على قوانين العمل، بما يخدم مصلحة الرأسماليين المستثمرين، الأمر الذي مكن هؤلاء، إضافة إلى مديري الشركات، من أن يتبعوا سبلا متطرفة في علاقاتهم مع العمال والموظفين على نحو لا مثيل له منذ نهاية الحرب العالمية الثانية.

كاتب من تونس

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى