صفحات مختارةميشيل كيلو

أصولية تتحدى !

ميشيل كيلو
تختلف أصولية أيامنا عن السلفية التقليدية في جانبين: فهي لا تكتفي بأن تكون دفاعية تحشد المسلمين في مواجهة خطر خارجي، فتحول دون سقوطهم تحت نفوذ أو احتلال أجنبي، ولا تعتبر كافة المسلمين مؤمنين أو ينتمون إلى أمة محمد، بل تسقط صفة المسلم عن كل من لا ينتمي إليها. أخيرا، إنها ترفض أي شيء من خارج النص مهما كان مصدره وحامله.
وكانت السلفية قد تخلقت في الدفاع عن نقاء الدين باعتباره حرفية ما نزل به النص القرآني، ورفض الاجتهادات التي اعتبرتها مغايرة له أو خارجة عنه، وخاصة اجتهادات المعتزلة ومن أسمتهم الرافضة، فبرز في نشوئها عاملان: داخلي عبر الخلاف فيه حول حقيقة الدين ومصدره عن خلاف أعمق، طاول دوره في وحدة جماعة سياسية متباينة الأصول والانتماءات، مهددة بعامل خارجي مثلته غزوات متنوعة استهدفت دار الإسلام. هكذا، اكتسبت السلفية صفتين هما: الحفاظ على وحدة الدين بالتمسك بالنص ورفض أو إهمال ما عداه (اجتهاد، رأي، تفسير … الخ ) وتعبئة طاقات المسلمين في مواجهة الخارج. بالمقابل، ليست الأصولية دفاعية فقط، بل هي هجومية تتبنى تصورا يقوم على الإيمان – الذي يعد جزءا تكوينيا وجوهريا من الدين – بوجود معركة أبدية وشاملة بين الإسلام وغيره من الأديان، وبين المسلمين وغيرهم، تدور على مستوى، ليس مقيدا بأزمنة أو أمكنة محددة، فلا إيمان لمسلم لا ينخرط في معاركه، لأنه يخالف عندئذ دينه ويخرج عليه ويكون من الضروري محاربته هو نفسه، لرده إلى الإيمان.
إلى هذا، لم تنشأ الأصولية في سياق نقاش فقهي أو كلامي مع الإسلامي الآخر أو المختلف، وإنما تكونت في حاضنة رفض لا يحتمل أي نقاش أو حوار مع أي رأي لا ينتمي إلى الدين باعتباره النص المنزل. أخيرا، هي لم تنشأ في سياق تفاعل طبيعي عرفه المسلمون في حقب ازدهارهم، بل تكونت كرد فعل على فشل السلفية في صد الاجتياح الاستعماري الغربي لدار الإسلام، وتراجع قوة المسلمين ووحدتهم السياسية داخل مجالهم الخاص وعلى المستوى العالمي، لذلك نجدها أخذت شكل مقاومة دينية ومسلحة في آن معا، لعب الآخر بتحدياته العنيفة دورا رئيسا في تبلورها، فحملت منذ ظهورها سمة جهادية أملاها الشعور بالخوف على الذات من جهة، والعجز عن تحقيق انضواء يتسم بالندية أو العدالة في العالم المعادي، واعتبار الانكفاء على النفس ضمانة دينية للنجاة من الخطر المحدق، من جهة أخرى.
فشلت السلفية في صد الهجوم الاستعماري على العالمين العربي والإسلامي، فلعب فشلها دورا كبيرا في ظهور تيارات ومدارس فكرية حديثة، برزت بعد احتلال البلدان العربية عامة والمشرقية منها خاصة، أهمها التيارات الاشتراكية والقومية والليبرالية، التي خرجت بهذا القدر أو ذاك من عباءة الدين، وقالت بحداثة من نموذج غربي، رأسمالي أو اشتراكي، وسعت إلى أهداف متنوعة كالتوفيق بين الحرية الفردية والعدالة الاجتماعية وتأسيس دولة للأمة تتحقق بقيامها وحدتها القومية.
بهذه القطيعة المزدوجة، الفكرية والسياسية، مع السلفية، التي وعدت تيارات التحديث بإنجازها كقطيعة مع واقع التأخر والعزلة عن العالم، بدت هذه التيارات وكأنها تضع العرب عند بداية تاريخ مختلف، وتقدم إجابات ملائمة على أسئلة كانت السلفية قد فرت منها إلى النص والتراث. وتعزز هذا الاعتقاد عندما أخذت القطيعة تضرب بجذورها في واقع بدأت الرأسمالية الخارجية تفك عقده وتخرجه من الماضي والتقليد، وتخترقه انطلاقا من الصورة التي كانت قد حققتها في بلدانها وقسمت المجتمع إلى فئات وطبقات ذات مصالح ورؤى مختلفة متناقضة، مما مثل لأول مرة تحديا داخليا للسلفية، التي رأت في التحديث تمزيقا لمجتمع المسلمين وشحنه بتناقضات تهدد وحدته الدينية والإيمانية وقدرته على استعادة حالته الطبيعية، وتهميشا لسلطانها على الأنفس، ولنفوذها على الفكر، الديني وغير الديني. في مواجهة هذا التحدي، بدأت سلفية جديدة سعت إلى التعامل مع العصر بانفتاح أكبر، فتراجعت عن الفهم النصي الصرف وشرعت تقدم قراءة دينية تريد صد مخاطر الواقع الجديد، هنا وفي العالم، بالتأقلم مع ضروراته، عبر بلورة رؤية تجمع بين الدين كمعيارية ملزمة على الصعيد الروحي والأخلاقي، وتنظيمات الحداثة الأوروبية السياسية والاقتصادية كضرورة تفرض نفسها، يجب أن يفيد المسلمون منها في الرد على تحدي الاستعمار وحضارته، وفي الحفاظ على دينهم ووحدتهم.
هكذا، تبنى الفكر السلفي الجديد أفكارا جعلته قادرا على خوض منازلة ناجحة ضد مدارس وتيارات الفكر الحديثة، وتوطين كلمات ومفاهيم الحداثة كالحرية والفرد والمواطن والتقدم والعدالة والمساواة والسيادة الشعبية والديموقراطية في منظومته الخاصة، بعد إيجاد معادلاتها في الإسلام، وإن استمرت في رفض القومية والاشتراكية والليبرالية باعتبارها مستوردة ودخيلة ولا لزوم لها، ما دمنا نملك بديلا أفضل منها، لا يثير لدينا انقسامات ولا يسبب مشكلات.
كانت السلفية التقليدية تعيد الدنيا إلى حاضنة الدين. أما الآن، فقد أخذت السلفية الجديدة أو المحدثة تأتي بالدين إلى الدنيا: باحثة في معانيها الجديدة ومتفاعلة معها ومستعدة لقبول بعض الجديد فيها، كي لا تنجح المدارس والتيارات الحديثة في إخراجها من واقع تريد فرض نمط التطور الأوروبي عليه، بما سيعنيه ذلك من انفصال عن الدنيا، لأول مرة في تاريخه. هذا الرد المزدوج، الحديث والسلفي الجديد، على فشل السلفية التقليدية، كان رفضا مشتركا للانكفاء على الذات هربا من التحدي الخارجي، ودعوة إلى قراءة الجديد باعتباره تعبيرا عن الانفتاح على واقع الدنيا، ذهب في اتجاهين مختلفين: قومي واشتراكي وليبرالي من جهة، وسلفي جديد من جهة مقابلة، تصارعا بضراوة منذ بداية تشكلهما، إذ بينما أراد السلفيون الجدد إعادة إنتاج قدرة الدين على احتواء الدنيا وإن من خلال التكيف معها، وضعت تيارات الحداثة نصب أعينها إخراجه من الحقل السياسي وفصله عنه، وإعادته إلى الحيز الشخصي والفردي، واعتبرت ذلك من مستلزمات نجاح مشروعها التحديثي ومجتمعها الجديد.
كان ظهور القومية والاشتراكية والليبرالية ردا من طبيعة أخرى على الاحتلال الاستعماري/ الغربي. وقد اعتقد أصحاب هذه التيارات أن توطينها عندنا سيتيح لبلدانهم وشعوبهم إمكانية اللحاق المؤكد بالعالم المتقدم، وسيجعلها جزءا تكوينيا من بنية سيكسر قيامها قيود مجتمعاتهم وسيفتح أمامها دروب تقدم لا عوائق فيه، ستأخذها إلى واقع تستطيع معه التحكم بعالمها وتغييره. إلى هذا، آمن هؤلاء أيضا أن في فكرهم الحديث، مخططات تحرر مجتمعاتهم من قيود تاريخية دينية تكبلها، ومن الاستعمار الخارجي، الذي سيعجز من التحرر فصاعدا عن كبح اندفاع مجتمعاتهم ودولهم نحو أوضاع سبقتهم بلدانه إليها، وستمكنهم من محاربته والانتصار عليه بأسلحته، فلا مبالغة في اعتقادهم أن حريتهم وتحررهم لم يعودا غير مسألة وقت، ما داموا قد اهتدوا، أخيرا، إلى خيار صائب، تتوفر له جميع مقومات النجاح، وسيردمون بفضله الهوة التي أبعدتهم عن التقدم العالمي وفصلتهم عن عصرهم. يفسر هذا الموقف المتفائل والتبسيطي فهم الحداثة باعتبارها إعادة إنتاج للنماذج الأوروبية واستنساخا لتجاربها في بلداننا ومحاكاة لأفكارها واقتداء بزعمائها وتبنيا لرموزها، ويوضح لماذا وجد القوميون في وحدتي إيطاليا وألمانيا سابقة تاريخية ستتكرر حتما في الوطن العربي، ورأى الاشتراكيون في الثورة الروسية نموذجا سيعيدون إنتاجه حرفيا في بلدانهم، بينما قال الليبراليون بضرورة اقتباس النموذجين البريطاني والأميركي وتطبيقهما في مجتمعاتهم، دون تبديل أو تعديل. في هذه الحالات الثلاث، المختلفة كثيرا فيما بينها، ساد اتفاق غير معلن على أن للتقدم طريقا إجبارية هي سد ثغرات ونواقص الواقع المحلي من خلال مطابقته العملية مع النموذج المثالي المحتذى (القومي أو الاشتراكي أو الليبرالي) في الغرب. لهذا السبب، تبنى أنصار هذه التيارات منظرين ومفكرين أوروبيين دافعوا عن منظوراتهم ورؤاهم، بل إن بعض المناضلين في هذا المعسكر أو ذاك توهم أنه بسمارك أو لينين أو جيفرسون: فكرا وممارسة.
لم تحقق الثورة في مختلف تجلياتها تحديثا مجتمعيا حقيقيا، رغم أنها عدلت بل وغيرت في بعض الأحيان علاقات طبقات وفئات المجتمع بعضها مع بعض، وأتت بالمحرومين من الشرائح الدنيا إلى عالم العلم والعمل، وحدّت من طابع بلدانها الزراعي الغالب وطعمته بطابع صناعي متزايد الحجم والأهمية، وبدلت جوانب مهمة من العلاقات الزراعية وكهربت الريف وبنت مدنا جديدة ورسملت بدرجة محدودة الواقع الاجتماعي والاقتصادي. واليوم، وبعد قرابة ستة عقود على ثورة جمال عبد الناصر وما صحبها من تغير في طبيعة الحياة العربية، يبدو إخفاق عملية التحديث من فوق، بقوة السلطة، كاسحا، وتذكر علاقات الشعوب والسلطات بما كان سائدا قبل الثورة، وبضرورة بداية جديدة ليست أقل من مشروع نهوض شامل، ينطلق من مرتكزات تحول دون تكرار فشل تجربة التحديث، ما دامت السلفية الجديدة تتراجع أمام أصولية كاسحة تطرح نفسها كبديل عرف كيف يتحاشى أخطاءها، يستطيع طي صفحتها والصفحة التحديثية، التي أغلقت مع تهاوي التيارات القومية والاشتراكية والليبرالية.
نحن اليوم على أعتاب زمن مفصلي سيأخذنا إما إلى نهاية فاجعة تضع مصيرنا بين أيدي أصولية متطرفة وعنيفة تركز جهدها على الداخل لتقوض سبل خروجنا من فشل مضاعف: سلفي وتحديثي تتابع خلال قرن ونيف، أو أن نسقط تحت أقدام أعدائنا الخارجيين والصهاينة، إذا لم ننجح في إعادة إنتاج مشروع للتقدم المجتمعي الشامل، هو مشروع أمة مهزومة تريد مبارحة وضعها بقوة فاعل جديد هو المواطن الحر، المنتسب بوعي إلى شعب مفكر وعامل، ومجتمع مدني هو حامل السياسة الرئيس، ودولة مؤسسية وديموقراطية عازمة على مقاومة مخاطر تتدفق علينا من جميع الجهات !.
تبدو الأصولية اليوم بديلا تاريخيا يحظى بتأييد شعبي واسع، على العكس اصلاحية التنويرية، التي تعاني من صعوبات أربع: أولها الاضطهاد المديد على يد سلطوية استبدادية انتمت حتى البارحة إلى مسعى إصلاحي فيه الكثير من وعود التنوير والتغيير، وثانيها التحدي الأصولي، الذي يسد فراغا تاريخيا خطيرا ويبدو اليوم وكأنه الجهة الوحيدة التي تدافع بقوة عن الأمة المهددة من الداخل والخارج، وثالثها نمط الوعي التقليدي السائد شعبيا ورسميا بمستوياته المعرفية والفكرية الشديدة التدني. وأخيرا القصور الذاتي لقوى التنوير والإصلاح، الناجم عن ضعفها الشديد واقتصارها غالبا على نخب محدودة من المثقفين.
ويزيد من فرص الأصولية استئثار السلطوية بالحقل السياسي، ورفضها توسيعه أو قبول أي نوع من المشاركة فيه، أو ملاقاة اليد الممدودة من قوى الإصلاح التنويري، التي تطالب ببناء واقع يتيح فرصا أخرى، غير الانجرار وراء أصولية دينية، طريقها هو أقصر الطرق نحو حرب أهلية عامة، يرجح أن لا ينجو أحد من مذابحها. لكن المواطن العادي، الناقم على أوضاع تسد سائر المنافذ في وجهه وتضطهده وتفقره وتحتقره، لا يجد سبيلا إلى الخلاص غير سياسة «عليّ وعلى أعدائي»، المتجلببة برداء يقال له إنه الدين القويم !.
ثمة هنا خيارات: تحالف قوى السلطوية مع السلفية الجديدة والإصلاحية العلمانية، أو مع الأصولية، التي لعب الاستبداد دورا مهما في إنجابها، ويبني سياساته على الإفادة منها، من خلال قهر مجتمعه بذريعة ضبطها أمنيا من جانب، وتخويف الغرب بها إلى حد يجعل منه نصيرا له في مواجهتها من جانب آخر، أو تحالف يجمع السلفية الجديدة والقوى الإصلاحية، وهو يشق طريقه، كما يبدو، نحو التحقق في أماكن عديدة، على صعيد الفكر والممارسة، فأي هذه الخيارات ستكون له اليد العليا، وإلى أين يتجه العرب في ظل سلطوية مفلسة وعاجزة ومجتمعات ضعيفة طال صبرها على ما لحقها من ظلم وعانته من تمييز وإقصاء ؟
السفير

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى