برهان غليونصفحات مختارة

موت الوطنية أو الدولة العربية الغائبة!

د. برهان غليون
الوطنية وأفكارها، ومشاعر التضامن الوطني المرتبطة بها، في ما وراء الانتماءات والولاءات المذهبية والعشائرية، نبتة حية تحتاج كي تستمر إلى أن تسقى وتتغذى باستمرار. وإذا أهملت ماتت، وعاد للظهور من جديد نمط الولاءات والانتماءات القديم القائم على العصبية، خاصة في دولنا التي لا تزال الروح الوطنية فيها نبتة غضة طرية، ولم تعركها القرون والتجارب، كما هو الحال في البلدان الأوروبية أو حتى البلدان الأخرى.
والحال أن ما حصل لهذه النبتة الطرية للوطنية التي انبثقت في الكفاح ضد الاحتلال الأجنبي ومن أجل الاستقلال، الذي يشكل البيئة الحقيقية لنشوئها، جاء مناقضاً لما كانت تحتاج إليه حتى تنمو وتزدهر وتمد جذورها لتصبح قادرة على مقاومة العواصف والامتحانات الصعبة. ومنذ عقود طويلة وهي تتعرض لهزات قوية زعزعت فكرتها، قبل أن تأتي السياسات الاقتصادية والاجتماعية في عصر الانفتاح لتجعل من تربتها صحراء قاحلة.
فالولاء الوطني قيمة لا يكون لها معنى إلا بمقدار ما يتحقق وجودها في الحياة اليومية لأفراد المجتمع. ومعناها، أو ما يجعل من الولاء العام للأمة كجماعة مواطنين، أولوية على الانتماءات والولاءات ما قبل الوطنية، هو وجود التضامن والتكافل بين الأفراد المكونين لها بالفعل. والتضامن والتكافل في إطار الرابطة الوطنية لا يتحقق إلا من خلال الدولة التي تنظم هذا التكافل الذي ينبغي أن يتجاوز بالضرورة كل الأطر العشائرية والطائفية والعائلية. فوجود الوطنية لا ينفصل عن الخيارات السياسية والاقتصادية الهادفة إلى تحقيق الغايات الرئيسية لأي رابطة اجتماعية، ومنها بناء اقتصاد يضمن للجميع البقاء والارتقاء في شروط الحياة، وهذا يعني تبني سياسات تشجع على ازدهار الاقتصاد وتطوير الإنتاج وخلق فرص عمل للأجيال الجديدة وتحسين شروط توزيع الدخل ومكافحة كل ما يدفع إلى القطيعة بين النخبة والشعب، أو يسمح باستمرار تهميش فئات أو عزلها أو التمييز ضدها، بأي شكل كان. كما يعني وجود نظام سياسي يعمل على دمج الأفراد والفئات المعزولة أو التي استبعدت سابقاً عن الحياة العمومية ودوائر القرار، وتعزيز نصيبها من المشاركة. لذلك كانت عملية كسر الحواجز التي تركها الإرث الإقطاعي بين أهل الريف وأهل المدن، والقضاء على الأحكام السلبية المسبقة التي كان يخضع لها الفلاحون، وتحويلهم إلى مواطنين متساوين… شرطاً أساسياً لتكوين الوطنية أو الأمة في كل مكان.
وفي هذا المنطق ذاته يدخل نظام الديمقراطية بوصفه النظام الذي يطبق قانوناً واحداً على الجميع، ويعطي لكل فرد، مهما كان مذهبه أو دينه أو أصله الاجتماعي أو دخله المادي، صوتاً واحداً، مماثلاً لصوت غيره، ويؤسس للحراك الاجتماعي، ويفتح آفاق الارتقاء للجميع من خلال كسر الاحتكارات الطائفية وإتاحة الفرصة أمام الجميع لاحتلال المناصب السياسية وغير السياسية على أساس التنافس في الكفاءة. وهذا ما يعبر عنه مبدأ التنافس على المناصب بمعيار الكفاءة والمهارات الشخصية، وكذلك مبدأ التداول على مناصب المسؤولية، السياسية والإدارية العليا، حتى لا تصبح السلطة أو الثروة حكراً على طبقة أو طائفة لوحدها.
وهي تعني كذلك بناء روح المواطنة وثقافتها ومفهومها، أي احترام الإنسان لكونه مواطناً، ومهما كانت حالته المادية أو الثقافية، ووظيفته وعمله ودينه ومذهبه ومعتقده. فذلك ما يؤدي إلى نشوء فكرة القانون الذي يعني أن ضمان حقي مرتبط بضماني حق الآخرين على نفس المستوى وحسب نفس الشروط، بحيث لا أطبق على نفسي ما أرفض تطبيقه على الآخرين أو العكس. ومن هنا يشكل احترام القانون المتساوي، المؤسس للحق، بالمعنى الحديث للكلمة، الأساس الأول لقيام الدولة الوطنية. بل إن الفكرة القومية أو الوطنية لا تنشأ إلا بمقدار ما تترسخ فكرة القانون، أي القبول بالخضوع لقانون واحد وتطبيقه بطريقة مماثلة، ويصبح القانون هو المرجع في علاقات المواطنين في ما بينهم، وفي علاقتهم مع الدولة أو النخب الحاكمة، وليس شيئاً آخر.
فمن دون استبطان قانون واحد، وبناء ثقافة القانون التي تعني احترامي لحق الآخر كضمانة لحصولي على حقي، لا توجد رابطة سياسية أو وطنية. ولا يمكن استبطان القانون إلا عندما تتحول الممارسة الاجتماعية إلى ممارسة قانونية، أي عندما يظهر في الواقع اليومي أثر القانون وأثر احترامه وتحديده الفعلي لمواقع الأفراد ومكانتهم وتقديرهم، وعندما تعمل النخبة الاجتماعية على تحقيق قيم المساواة القانونية وتطوير وتبني سياسات اقتصادية واجتماعية وثقافية تساعد على تعميقها وتكريسها في الواقع العملي.
وطالما بقيت العصبية الدينية أو القبلية أكثر ضماناً للتضامن والتكافل بين الأفراد أو قسماً كبيراً منهم، فلن تكون هناك رابطة وطنية فعلية، أي نشطة وحية وفاعلة، حتى لو درج الحديث عنها على مستوى اللفظ والخطاب. فالهدف من أي رابطة هو تأمين المهام الأساسية لحياة الإنسان بوصفه اجتماعياً بالضرورة، وهي المعيشة والأمن والسعادة المرتبطة بإمكانية الترقي في الأفكار والسلوك والعوائد والقيم والمعاني والمشاعر.
ومن هذا التحليل يظهر أن الوطنية ليست أغنيةً وعلماً ونشيداً، ولا تستمر إذا بقيت على هذا المستوى. إنها برنامج عمل تاريخي، فهي إذن مشروع حي وغير ناجز تعمل النخب على تحقيقه بقدر ما تتبنى السياسات التي تقود إلى مزيد من دمج الأفراد المنتمين إلى مذاهب وأديان وقبائل مختلفة ومتعددة، في رابطة جديدة، هي رابطة التضامن الوطني التي تجعل منهم جماعة جديدة تتجاوز الجماعات الجزئية التي تكونت منها. وما لم يتحقق برنامج الدمج هذا، اقتصادياً وسياسياً وثقافياً، لن تنشأ عصبية وطنية قوية قادرة على تجاوز العصبيات التقليدية، وسيستمر الفرد في إعطاء ولائه للطائفة أو المذهب أو الدين أو القبيلة… على الولاء للرابطة السياسية أو الوطنية. ولن تتحول الدولة عندئذ إلى دولة أمة، أي دولة جميع مواطنيها.
الاتحاد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى