صفحات الناس

عفواً نحنا كمان سوريين

null
رستم محمود
سيكون جميلاً دونما شك أن يتعرف أطفالنا على الثقافة الشعبية في دمشق وحلب، من خلال ما يتابعونه من دراما رمضانية. فلمعرفة تاريخ هذا البلد (سورية) لا بد من معرفة تاريخ مجتمعات مدنها الرئيسية كحلب ودمشق، كما لابد من معرفة ما يجري في راهنها من تفاعلات وتبدلات، وهذا ما تقوم به الدراما السورية إلى حد بعيد. فمفيد لو تعرف أطفالنا ـ نحن الأكراد السوريين في أقصى الشمال الشرقي من البلاد ـ على مفهوم “زعيم الحارة أبو شهاب” المفتقد في ثقافتهم الشعبية هم، مثلاً. فلا وجود لفكرة الحارة أصلا في تاريخنا الاجتماعي البعيد والحاضر. ولا ضير لو عرفوا أنواع المأكولات الشعبية الحلبية من أحد المسلسلات، وعرفوا نضالات أهل الشام في الثورة التي قامت في الغوطة الدمشقية في وجه الاحتلال الفرنسي في عشرينات القرن المنصرم. ولا مشكلة لو عرفنا التناقضات الاجتماعية والثقافية والسياسية والاقتصادية التي تغلي بها مجتمعات حلب ودمشق. فلو حصل وأن عرفنا كل ذلك وأكثر، عن الثقافة المكونة واليومية لأقراننا من السوريين، فهذا مدعاة تبريك بكل حق، لأنها تساعد على توحيد الذاكرة الجمعية لمواطني الدولة الواحدة، هذا الذي ـ توحيد الذاكرة الجمعية ـ يكون بدوره من أقوى الأدوات في إرساء السلم الاجتماعي في كل المجتمعات على طول عمرها. فما بالك ببلد متنوع ومتخالف وغير متعارف على مكوناته تاريخيا كدولتنا السورية.
لكن المعضلة أن تبقى تلكم المعرفة عوراء، ومستلبة لطرف واحد . فكيف لطفل يعيش في دمشق أن يتعرف على ما يعانيه أطفالنا، وحتى أن يتعرف على ما لا يعانونه أصلاً، على ثقافته اليومية. كيف لذلك الطفل أن يعرف أن عشرات الآلاف من الأطفال الكرد الذين جُرّد آباؤهم من الجنسية منذ ما يقارب النصف قرن، يقضون حياة مدرسية بالغة الكآبة، لأنهم لا يستطيعون دخول الجامعات فيما بعد، ولا يستطيعون حتى السفر من هذه البلاد. وكيف لذلك الطفل الدمشقي أن يعرف ما يعانيه أطفال الجزيرة السورية من فاقة في العيش بعد شحّ السماء في السنوات الأخيرة، وفي ظل غياب الاستثمارات وفرص العمل غير الزراعية. وكيف له أن يعرف نضالات أهل الجزيرة في مقارعة الاستعمار الفرنسي، فمعركة “بياندور” وحدها تستحق أكثر من مسلسل، حيث لبى الأكراد في تركيا مناشدات أخوتهم العرب والكرد جنوب الخط الحدودي الفاصل بين سوريا وتركيا وقتئذ وقارعوا المستعمر الفرنسي، تحت يافطة الأخوة والدين وعشرة المكان الواحد. وكيف لذلك الطفل الدمشقي أو الحلبي أن يتعرف على التناقضات الحديثة في مجتمع الجزيرة بين العرب والأكراد والسريان وكيف … الخ. كيف له كل ذلك في ظل حرمان مطلق لهذه الجماعة بالظهور والتعبير في وسائل التعبير الثقافية العامة، التي ترعاها الدولة بشكل شبه تام.
الحرمان من المشاركة في الشأن الثقافي العام ليس حكراً على الأعلام والدراما فحسب، التي ربما تكون في حالتها أحسن نصعاً. فأهم مؤتمر للرواية العربية عقد في دمشق خلال الشهر الفائت لم يُدع إليه واحد من أهم الروائيين في العالم العربي هو سليم بركات، وذلك بشهادة الراحل محمود درويش، كما أن احتفالية دمشق كعاصمة للثقافة العربية بخلت حتى بدعوة لعازف البزق الكردي الشهير سعيد يوسف لعزف بعض معزوفاته المجردة من الغناء باللغة الكردية… وكما أن…. الخ.
ليست قضية الحرمان من المشاركة في الفضاء الثقافي مجرد مظلمة يمكن نقاشها في مقهى ما. لأن الثقافة وفلكها سلطة لا تقل عن غيرها من السلطات تأثيراً ودوراً في تكوين الشخصية الوطنية السورية. فقياساً على أن عبارة “المساواة أمام القانون” لا تعني شيئا البتة في دساتير البلاد، ما تلحق بعبارة مكملة “مساواة المواطنين في صناعة القانون نفسه” سيكون خبثاً لو تمت دعوة جماعة وطنية ما للانتماء إلى “الشخصية الوطنية” ما لم تتهيّأ الظروف المناسبة لتلك الجماعة بان يكون لها دور في تشكيل تلك “الشخصية الوطنية”. وهي معضلة معمقة في كل الكيانات الناتجة عن عقد اجتماعي غير عميق وغير صحي، ككيان دولتنا السورية المعاصرة. حيث كان للعقود السياسية المبرمة بين الدول المركزية بعد الحرب العالمية الأولى، دور بارز في تكوين الكيان السوري، بما لا يقاس بدور التفاعلات الجمعية بين المكونات الإنسانية من السوريين.
يتوجب على الكردي السوري كل الذي يتوجب على قرينه السوري من غير الأكراد، ومع ذلك ما زال الطرح وما زالت الدعوة إلى حيز خاص بالثقافة الكردية في سورية، وبراعية مالية وقانونية من الدولة السورية، مازال من التابوهات السياسية والثقافية، التي يخشى طرحها حتى من قبل بعض المثقفين العرب خارج السلطة. لذا فالمطالبة بحق باقي السوريين بالتعرف على شخصية شركائهم في الوطن من الأكراد السوريين، حق في أضعف الأيمان، لكل السوريين وليس لأكرادهم فقط.
المستقبل

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى