صفحات العالمعبدالله تركماني

في الحاجة العربية إلى التغيير .. قمع وتهميش واستبداد (..)

الدكتور عبدالله تركماني
منذ الحرب العالمية الثانية شهد العالم ثلاث موجات تغيير ودمقرطة دون أن تؤثر بعمق في واقع التأخر العربي، وربما كان أكثر من عبَّر عن حالنا هو التقارير الخمسة للتنمية الإنسانية العربية التي صدرت بين عامي 2002 و 2009.  
وإدراكاً للأهمية الاستثنائية التي تمثلها المعرفة، لكل زمان ومكان، في تنمية الشعوب وتقدمها عبر العصور، ونظراً إلى اتساع ” الفجوة المعرفية ” بين العرب وسواهم من أمم العالم، حتى في الدول النامية، أتى التقرير الثاني، وعنوانه ” نحو إقامة مجتمع المعرفة في البلدان العربية “، بمثابة علامة فارقة في عالم عربي يستشري فيه الجهل والأمية ويستبد فيه الطغاة والمتعصبون وتُنتهك فيه أبسط حقوق الإنسان وتنتشر فيه الأمية.
ففي مجال استكشاف حال المعرفة في البلدان العربية، خلص التقرير إلى أنه ” تعتري عمليات نشر المعرفة في البلدان العربية في مجالاتها المختلفة (التنشئة والتعليم والإعلام والترجمة) صعوبات عديدة أهمها: شح الإمكانات المتاحة للأفراد والأسر والمؤسسات، والتضييق على نشاطاتها “. وكان من نتائج ذلك قصور فاعلية هذه المجالات عن تهيئة المناخ المعرفي والمجتمعي اللازمين لإنتاج المعرفة.
وتدل المعلومات المقدمة في التقرير على ركود في عدد من مجالات إنتاج المعرفة وبخاصة في مجال نشاط البحث العلمي، إذ يعاني البحث العلمي في البلدان العربية انخفاض الإنفاق عليه (إنفاق العالم العربي في الوقت الراهن على البحث والتطوير لا يتجاوز 2 % من إجمالي الدخل المحلي، ويدفع غالبه كرواتب). كما يعاني غياب الدعم المؤسسي له، وعدم توافر البيئة المؤاتية لتنمية العلم وتشجيعه، إضافة إلى انخفاض أعداد المؤهلين للعمل فيه. فلا يزيد عدد العلماء والمهندسين العاملين بالبحث والتطوير في البلدان العربية على 371 لكل مليون نسمة، وهو أقل بكثير من المعدل العالمي البالغ 979 لكل مليون نسمة.
أما الكتب المنتجة في العالم العربي فلم يتجاوز عددها 1.1 % من الإنتاج العالمي، رغم أنّ العرب يشكلون نحو 5 % من سكان العالم. وبشكل عام، يتسم إنتاج الكتب في البلدان العربية بغزارة في المجال الديني، وشح نسبي في المجالات الأخرى. إذ تمثل الكتب الدينية نحو 17 % من عدد الكتب الصادرة في البلدان العربية، بينما لا تتجاوز هذه النسبة أكثر من 5 % من الكتب الصادرة في مناطق العالم الأخرى.
إنّ تجربة البلدان العربية في نقل الثقافة والمعرفة وتوطينهما، لم تحقق النهضة التقانية المرجوة، كما أنها لم تحقق عائداً استثمارياً مجزياً. فاستيراد الثقافة لم يؤدِ  إلى توطينها، ناهيك بتطويرها أو توليدها. إذ أنّ أغلب الاستثمارات لم تؤدِ إلى انتقال حقيقي للتقانة، لأنّ ما جرى نقله هو وسائل الإنتاج لا التقانة ذاتها، إضافة إلى غياب الجدوى الاقتصادية لكثير من تلك الاستثمارات.
وجاء في التقرير أيضاً أنّ البلدان العربية خضعت منذ عهود الاستقلال إلى أنظمة سياسية ” وطنية ” لم تستطع أن تتخلى عن نزعات الاستبداد المتحدرة من عصور التاريخ القديمة والمتأخرة، فظل هامش الحريات محدوداً في مواطن، أو غائباً تماماً في مواطن أخرى، مؤثراً بذلك في ” أخلاق ” الناس وقيمهم العملية. وساهم القمع والتهميش في قتل الرغبة في الإنجاز والسعادة والانتماء، ومن هنا ساد الشعور باللامبالاة والاكتئاب السياسي، ومن ثم ابتعاد المواطنين عن المساهمة في إحداث التغيير المنشود.
وفي السياق السياسي، تبدو المعوقات السياسية لاكتساب المعرفة اشد وطأة من معوقات البنية الاجتماعية والاقتصادية التي خلص التحليل إلى أنها كانت، بدورها، أبلغ تعويقاً من أي سمات ثقافية. فالسلطة السياسية في البلدان العربية تعمل على تدعيم النمط المعرفي الذي ينسجم مع توجهاتها وأهدافها، وهي بالضرورة تحارب الأنماط المعرفية النقدية والمعارضة. ويشكل عدم الاستقرار السياسي والتمييز بين المواطنين واحتدام الصراع والتنافس على المناصب بين أهل الولاء (أهل الكفاءة إما مهمّشون أو مهاجرون أو منفيون بسبب مواقفهم السياسية)، النابع من الافتقار إلى قاعدة ثابتة ومقبولة للتداول السلمي على السلطة، أي للديموقراطية، عائقاً أساسياً أمام نمو المعرفة وتوطنها النهائي وترسخها في التربة العربية.
أما التقرير الخامس الذي صدر في العام 2009 برعاية برنامج الأمم المتحدة الإنمائي ومساهمة نحو 100 خبير وأكاديمي (عرب وأجانب) متخصصين في شؤون العالم العربي، تحت عنوان ” تحديات أمن الإنسان في البلدان العربية “، فقد حدد عناصر سبعة رأى أنها سبب هشاشة البنى السياسية والاجتماعية والاقتصادية والبيئية في المنطقة العربية: أولها، الأمن الاقتصادي الذي يتهدده الفقر. وثانيها، الأمن الغذائي الذي يتهدده الجوع والمجاعة. وثالثها، الأمن الصحي الذي تتهدده أشكال الأذى والأمراض. ورابعها، الأمن البيئي الذي يتهدده التلوث واختلال التوازنات الأيكولوجية ونضوب الموارد. وخامسها، الأمن الشخصي الذي تتهدده الجريمة والعنف. وسادسها، الأمن السياسي الذي يتهدده القمع بكل أشكاله البدنية والمعنوية. وسابعها، الأمن الاجتماعي الذي تتهدده النزاعات الإثنية والطائفية وغيرها.
وأفاد التقرير بأنّ هناك 65 مليون عربي يعيشون في حالة فقر، وفي ما يتعلق بالبطالة فقد ” بلغت 14,4 % مقارنة بـ 6,3 % على الصعيد العالمي “، وأنّ اتجاهات البطالة ومعدلات نمو السكان تشير إلى أنّ الدول العربية ” ستحتاج بحلول العام 2020 إلى 51 مليون فرصة عمل جديدة “. ويعتبر التقرير أنّ من أبرز التحديات الضغوط السكانية، إذ أنّ عدد سكان الدول العربية سيرتفع ” بحلول عام 2015 إلى 395 مليون نسمة مقابل 317 مليونا عام 2007 “.
ولعل أبرز الدروس التي يجدر بنا استيعابها للتعاطي المجدي مع التحديات التي طرحها التقرير: التأكيد على أنّ التحديات الخارجية تفترض أصلاً إصلاح أنظمة الحكم ومحاربة الفساد، وإعلاء شأن المواطنين في دولة القانون، وإعادة صياغة توجهات ومسار التنمية العربية بما يساعدها على الاستفادة المتبادلة من الإمكانيات والموارد المتوفرة لديها ككتلة إقليمية قادرة على الاستمرار والتواصل، وتطوير التعليم التكنولوجي وتضييق الهوة ما بين مخرجات التعليم واحتياجات سوق العمل وفقاً للتطور العلمي، وهذا يتطلب توفير بيئة سياسية وأمنية مناسبة مستقرة، تحمي الطبقات الفقيرة وتحفظ حقوق الإنسان الأساسية وتلتزم بقيم العدل والمساواة، وتحفظ استقلال الوطن وأمنه وتؤمن مستقبله ومستقبل أجياله.
فهل تتوافر شروط حقيقية لصياغة مشاريع ديموقراطية للتغيير، تحول دون احتمال قيام مشاريع ظلامية أو حروب أهلية تغرق بلداننا في المزيد من التأخر والمزيد من الأزمات ؟ ومَن هي القوى المؤهلة لصياغة تلك المشاريع الديموقراطية، وما هي أدواتها وما هي قدراتها على جعل تلك المشاريع قادرة على جذب الجماهير إليها، بعد كل الخيبات التي أُصيبت بها مشاريع التغيير في الحقبة الماضية ؟ وما هي إمكانات بلداننا، حكومات وشعوباً وحركات سياسية وثقافية، للالتحاق بالحركة العالمية المناهضة للحرب وللعولمة المتوحشة، من أجل أن يكون لبلداننا مكان في صياغة مستقبل العالم ؟ وما فائدة الشعارات المضخمة إذا كنا لا نستطيع حمايتها، وما فائدة الأسلحة إذا كانت ستزول في أيام ؟ وهل تتعلم الحكومات العربية التي تمارس القمع بحق مجتمعاتها وشعوبها من تجربة العراق ؟  وهل تستطيع الدول التي لم تتعاطَ – بعد – مع متطلبات التغيير والإصلاح والديموقراطية بأن تبقى على حالها دون إصلاحات وتغييرات وتجديد ؟ وهل تقبل المجتمعات العربية بأن تُحكم بشعارات بينما تحرم من الخبز والحقوق وأسس الحرية والكرامة الإنسانية ؟
من المؤكد أنّ هناك طريقاً واحداً وسبيلاً واضحاً، وهو القيام بعملية مراجعة شاملة لجوانب حياتنا ومواجهة شجاعة مع مشاكلنا ومصارحة أمينة لشعوبنا التي لا تقتات بالشعارات ولا تعيش بالأحلام ولا تقودها الأوهام، إذ لا بد من وعي صادق ومكاشفة كاملة تطفو فيها الحقائق على السطح وتختفي منها الازدواجية التي نعيش فيها، وتتقدم الشفافية لتصنع مجتمعاً عربياً جديداً ذا مصداقية واحترام في عالم اليوم، يواجه مشكلاته بوضوح ويتعامل معها بشكل مباشر وينفتح على الغير وترتفع فيه قيم الإنسان وكرامته وتقل معه صلاحيات الحاكم الفرد. كما لا يجب أن يغيب عن الذهن أنّ تيار الإصلاح الذي نتحدث عنه والمراجعة الشاملة التي نرنو إليها هي أمور لن تتحقق بغير إرادة عامة تلتقي حولها كل قوى التغيير والديمقراطية والسلام،  وتجمع عليها الأمة ويتحقق لها قبول وطني وقومي شامل.
إنّ سنوات العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، بما أفرزته من شعور بالهوان وإحساس عميق بالثمن الباهظ والفاتورة الفادحة التي ندفعها نتيجة للأنظمة الشمولية ودوائر الحكم المغلقة، تدعونا اليوم إلى المضي نحو عملية إصلاح شامل لا تتجه إلى تغيير القيادات الفاسدة والمفسدة فحسب، بقدر ما تتجه إلى تغيير السياسات وأنماط التفكير وأساليب الإدارة. لقد آن الآوان لكي يتحرك العرب نحو التغيير الجاد والتفكير الشامل والابتعاد عن العشوائية السياسية مع القدرة على الموازنة بين المصالح الوطنية والقومية والضغوط الخارجية، إنه وقت للصحوة المطلوبة والرؤية الغائبة والرشد المنتظر.
لقد حان الوقت للتغيير، لبدء الطريق نحو التخلص من التبعية والتهميش وإعادة إنتاج الفقر والتأخر والتفاوت والجهل والتسلط، وذلك من خلال الاعتراف بانهيار عصر عربي بأنظمته وأحزابه ومؤتمراته وعقائده، وإجراء مراجعة شاملة للشعارات الكبيرة المعتمدة على أفكار تجاوزها الزمن، ونقد للذات، والبدء بقبول وفهم الوقائع العالمية الجديدة وتداعياتها المحلية، ووضع حلول للحاضر والمستقبل لا تُستحضر من مفاهيم الماضي إلا بمقدار ما تنطوي على جدوى للحاضر والمستقبل.

تونس في 3/1/2011                     الدكتور عبدالله تركماني
كاتب وباحث سوري مقيم في تونس
abdtourkmani@yahoo.it
(..) – نُشرت في صحيفة ” القدس العربي ” – لندن 10/1/2011.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى