صفحات ثقافية

جديد شيموس هيني: المرض والشيخوخة والتجدد في ‘رابطة انسانية’

null
ابراهيم درويش
منذ ان تعرض الشاعر الايرلندي الكبير شيموس هيني لجلطة دماغية عام 2006 لم يكتب الكثير من الشعر منذئذ، وصدور مجموعته الشعرية هذا العام في الصيف الماضي كانت اشارة لعودة الشاعر ولتعافيه من الأزمة الصحية، لكن مجموعته الشعرية وان حملت بعض القصائد الجديدة الا ان معظمها كتب في فترات سابقة ونشر في مجلات ادبية.
واهم ما يميزها والتي تحمل عنوان ‘رابطة انسانية’ كثافتها وتعقيد مفرداتها اللغوية، وتنوع قاموسه الشعري الذي يأخذ من الاشعار الرعوية الشعبية الايرلندية ويغوص في التاريخ مستحضرا بعضا من حس الانياذة، ومعتمدا على الكثير من الكلمات والمصطلحات المحملة بمحمولات دلالية بالغة الكثافة. وفي هذا الديوان يتخلى الشاعر عن اهتماماته الاولى حول الهوية والصراع وحس الفقدان في ايام الطفولة في بلدته، وتجذر والده في الارض وصورة زارع البطاطا وتآلف ايقاع الفأس الذي يخرج البطاطا من الارض محملا بالتراب والطين وبين القلم الذي يكتب الاشعار. يطلق كل هذا من اجل البحث في الذات ومدار الانسان، وقصة المرض والهشاشة الانسانية، وفي الاشعار اهتمام بالصوت والرائحة، صوت التراكتور، واللوري والسيارة وصرير الابواب، والبرق والرعد ومعها الرائحة، العفن والطين وزفر الاسماك ورائحة الاسفلت. وعبر مفردة بالغة الكثافة يقوم هيني ببناء قصيدته التي تتراوح بين الطول والقصر ولكن كل سطر في القصيدة لا يتجاوز المفردات التي تتزاحم في كثافة تخرج من التعقيد والغرابة اللغوية عالما من الذكريات، حيث يزور الشاعر الاصدقاء والاموات منهم، ويخوض في عالم من الغيبوبة باحثا وراء شواهد القبور والنبات المتراكم حولها وقد ادخل جذوره عميقا فيها، وماشيا بين الحقول المنداة بالماء او الوحل وواقفا على خط الباص ينتظر وجها من الوجوه القديمة وجهه الفتي. ومع ان زمنية القصائد تغطي نص قرن من الذكريات الا انها تدور في عالم لامرئي ولامتناهي. ونعني به محاولة الشاعر استحضار زمن لم يكن شاهده.
فالمجموعة هنا تبدأ بخمس من القصائد التي يستعيد فيها والديه، وعودة هيني الى طفولته ووالده الذي كان يعمل في جلب المواشي ليست جديدة، لكن الاستثنائي هنا ان هيني يقوم بزيارة ذكريات والديه، من مثل مرافقتهما في جولة مسائية في الحقول او استعادة مائدة الطعام التي اصطفت في ليلة زفافهما. ومع كل محاولة لاستحضار الزمن الماضي او لحظات لم يكن فيها حاضرا يلمح الشاعر الى الحزن والفراق، ويمكن ان نفهم من عنوان الديوان انه محاولة للانخلاع من القيد ‘الرابطة’ اي المفارقة، مفارقة الماضي والحاضر. ومن هنا يرى القارئ لقصيدة ‘كونوي ستيوارت’ استعادة بطريقة غير مباشرة لقصيدته الشهيرة ‘حفر’. ففي مشاهد القصيدة الجديدة استعادة لهدية والديه له وهو يحضر لترك المزرعة والذهاب الى مدرسته الثانوية ‘سانت كولمب’ في كاونت ديري، حيث اهداه والداه قلما اشترياه من محل. ويرسم الشاعر هنا الطريقة التي قدم فيها صاحب المحل عرضا لكيفية ملء القلم بالحبر ومعها يصف كيف ادخل البائع قلم الحبر في علبة حبر فتحت من اجل العرض ومعها جاء صوت الحبر المشفوط في القلم، صوت مثل الشخير. ورمزية القلم هنا انه اشارة للبعد عن الاهل لان وظيفة القلم ليست كتابة الدروس ولكن خط رسالة للاهل عن بعد مما يعني انه عندما وقع الرسالة وبعثها بالبريد فكانما كان يوقع رسالة ‘نفيه’: ‘بخط يدي.. اعزائي.. في اليوم التالي’. وتبدو ثيمة البعد والانفصال في قصيدة اخرى ‘انفصال’ وفيها يصور الشاعر امه وهي تحمل قارورة مليئة بالرماد الذي جمعته من الموقد فيما كان والده يتمشى بين الماشية في سوقها، راسما لنا عالمين مختلفين ام تسير يلعب الريح بمريولتها وتمسك القارورة بحذر فيما يبدو والده اطول من المواشي التي تحدث حوله جلبة وتضيف اليها جلبة المشترين، بشاحنتهم واصوات محركات السيارات بسبب الضغط الدائم على الكوابح. الوالد والوالدة المفترض انهما ينظران اليه يبتعدان في المشهد بسبب الريح في الفقرة الاولى وفي الثانية بسبب صراخ الباعة والجلبة ‘يتجادلون بينهم ومعه الآن.. تنحرف عينيه عن عيني.. وعندها اعرف الم الفقدان قبل ان اعرف شروط الصفقة’. يبدو هيني، الخارج من ازمته الصحية حريصا على العودة للعالم المفقود، عالم السهول والجبال والزرائب والحياة الريفية، وهذه العودة لا تعني ‘حنينا’ للماضي او ‘هروبا’ بل محاولة الامساك بالماضي قبل ان يفلت ويضيع في غياهب العدم كما ان العودة هي بمثابة تأكيد حقه بهذا التاريخ الذي ولد معه ولم يكتشفه بالقراءة. وعليه نفهم حفريات هيني السابق في تاريخ اوروبا القديم وترجماته لاوفيد، واستعادته بلغة الحاضر ملحمة ‘بيوولف’، فهو كباحث ومدرس جامعي، مطلع على الأدب القديم ومنه يستعيد الرموز والكلمات بل العوالم.
اغنية المغامرة – المرض
وعندما يستعيد هيني ازمته الصحية يتذكر كيف كان مستلقيا على ظهره مشلولا – بلا حركة، الى جانبه زوجته في سيارة الاسعاف في الطريق الى المستشفى، كان كل ما يفكر فيه هيني في الطريق هو الادب وقصيدة لجون دون، الشاعر الكلاسيكي، ‘ذا اكستازي’ والتي تبدأ بصورة ‘مثل المخدة على السرير’. وهي القصيدة التي تتحدث عن العلاقة بين الروح والجسد والتماهي الروحي بين من نحب. وعنوان القصيدة ‘تشانسون لافنيتر’ يشير الى لون من الوان القصيدة القديمة وتترجم على انها ‘اغنية المغامرة’. وفي القصيدة هذه يذكرنا هيني بالحنان الذي شعره تجاه زوجته والذي حضر دائما في قصيدته، اشار دائما بالحب والحنان في قصائده وكيف انها ‘جلست في مقعد الممرضة الخالي’ في سيارة الاسعاف، وكيف ان النور واشعاعه المنبثق من عينهما كان اسرع من ‘اشعة الليزر’، ويذكرها بقصيدة جون دون قائلا ‘ربما، تذكرنا يا حبيبتي دون/ عن الحب المعلق، روح وجسد مفصولان’. ومعها يستحضر هيني قصيدة جون كيتس فاني براون والتي يكتب فيها الشاعر عن امنية الاحياء بتبادل الاماكن مع الاموات. وهذه الاستحضارات لا تنسي الشاعر ان يذكرنا بحاضره حيث تنزل قطرات الكيس المائي من اجل تغذية شرايينه. ومع ان الكاتب عبر في القصيدة عن حب لزوجته الا ان فترة النقاهة التي خضع لها كانت فترة لتذكر مزرعة والده. بعد هذه القصيدة يدخلنا هيني في مشهد صوفي روحاني يقارب بين معجزة المسيح التي مارسها على رجل مفلوج وضعه اصدقاؤه بين يدي السيد المسيح ليشفيه من شلله، وفيها اي القصيدة مقاربة بين الشاعر المستلقي على النقالة منتظرا الخروج من شلله. وهنا تحدث هيني في مقابلة عن هذه القصيدة التي جعلها مركز المجموعة واشار تحديدا الى قصة الرجل المفلوج في العهد الجديد حيث وضعه اصدقاء المريض بين يدي المسيح كي يمسح على جسده ويشفيه، ويعلق هيني ان القصة في العهد الجديد هي عن الرجل لكن في قصيدته ‘معجزة’ عن الرجال عن الذين حملوه – اي هيني على النقالة. وهو هنا يستعيد جلطته الدماغية التي حصلت معه وكيف ان من حملوه على النقالة كانوا من الاهل والاصدقاء وكما يقول كان هناك حس من ‘الرفقة’ حس من ‘الرابطة الانسانية والجندية’.

الذاكرة والسلالة
ليس من شك ان هذه المجموعة الشعرية تعتبر من اكثر المجموعات الشعرية خوضا في الذاكرة واستكشافا لحيوات الآخرين ممن رحلوا او الذين عاشوا في ازمان بعيدة. وليس غريبا على الشاعر ان يستحضر اصوات العظام من ابناء الشعر فهو المولود عام 1939 في العام الذي رحل فيه مواطنه الاخر دبليو بي ييتس عن هذه الحياة في جنوب فرنسا، وقد تبدو فكرة المقاربة بينه وبين سابقه مثيرة خاصة ان المجموعة الحالية لهيني تأتي في سن السبعين وفي نفس العمر الذي نشر فيه ييتس مجموعة الاخيرة ‘القصائد الاخيرة’، وقد يقرأ تلميذ هيني في هذه القصائد حسا ‘شتويا’، وان كان القارئ التلميذ يتمنى ان لا تكون الاخيرة من شاعر يكتب قصيدته بسهولة وعناية وعفوية منذ الستينات من القرن الماضي، شاعر جعل من الاشياء العادية مركزا للتحليل والرمز، فهيني مثل غيره من مجايليه عاش ‘في الطريق’ متجولا في الاصقاع ينام في الفنادق ويعيش في مكتبه الجامعي اكثر من حياته في بيته ‘ربما’ وفي ضوضاء الحياة وصخبها كان يكتب قصيدته المثيرة، من شباك نافذة القطار او الطائرة او مكتبه. فهو على خلاف المسافر العادي المهموم بتفاصيل الرحلة ويحلم بالوصول في اقرب وقت ممكن، كان يجلس متأملا ويعيد النظر في الاشياء حوله، باحثا عن سلالة الشعراء الذين تربطه بهم صلة قرابة ونسب، وداخلا في تاريخ الماء والطين والحجارة، بل وكان يقضي في المتاحف قارئا في اركولوجيا الانسان وقتا طويلا لاستلهام معنى لوجود الانسان.
الصعود للاعلى
وهذا الوجود المتواصل منذ قرون يؤكد صلة الاستمرارية في قصائد هذه المجموعة فكل واحدة تقود للاخرى كما يمكن ان يلاحظ في قصائد ‘الاب والام’، وفي القصائد صعود للقصيدة الأبدية، ومن هنا فعنوان المجموعة الذي قلنا انه يؤكد في ملمح على اهمية البعد والفراق (لان الاتصال يعني في مضاده البعد) لكنه ايضا طريق للصعود الى الاعلى ‘البعاد الذي لن يأتي مرة اخرى، او قد يأتي، مرة اخيرة’. اسلوب هيني في قصيدته يتميز بالاقتصاد ‘الحذف’ في الصورة والذاكرة فهو يقدم جزءا منها ويترك الباقي للتفسير او مخيلة القارئ ، فكعادته يقارن بين محموله من الذاكرة في الريف وبين ما يراه في الحاضر، في الكوارث، اي ما يقوم به عمال المساعدة والاغاثة وهم ينقلون المساعدات ‘يدا بيد/بلقطة قريبة’ تماما كما كان يملأ العربة المربوطة بالتراكتور بأكياس الحبوب. وفي قصيدة مجمع البالات من بقايا الحصاد صورة عن العودة للريف، هنا صوت قلب المزارع الذي يجمع الحشائش ويكومها في بالات يوحي بالميكانيكية والملل، ولكن الصورة نفسها كما هي عادة هيني تنقله الى ارض اخرى هي ارض الذاكرة حيث يتذكر ‘صيفا جميل الاوقات’ حيث ‘وقفت استنشق البرودة.. في غروب الدورادو.. والحشيش المكوم في اسطوانات عظيمة’. قد تكون هذه الابيات نهاية جيدة للقصيدة مفتوحة لكن هيني يستعيد مرة اخرى زيارة فنان صديق له لا يتحمل رؤية الشمس وهي في رحلة المغيب، حيث طلب ان يجلس وظهره للنافذة. قد نفهم الحس الحزين، الكئيب احيانا في قصائد هذه المجموعة والاخيرة بانها نتاج لما عاناه الشاعر من ازمة صحية تركته قعيدا لفترة قبل ان يستعيد العافية. ولا بد من ان نتذكر هنا في ظل المرض مرض والده في القصيدة التي يستعيد فيها بدلة والده المعلقة في خزانة الملابس ‘واسعة/ قصيرة’ وكيف ان والده عندما بدأت صحته بالاعتلال وصار مقعدا كان عليهم ‘تعلم طريقة الوصول الى ما تحت الإبط وبين الثنايا/ لرفعها وتدليكها بالاسفنجة’. ولان هيني يحب استعادة حتى رائحة الاشياء ووخم الطبيعة في طراوتها فهو عندما فتح خزانة الملابس ضربت انفه رائحة العفن الدخان القديم والعرق الجاف’.
في كل مكان تنبت الاعشاب بين القبور
يحتفي الشاعر بالطبيعة وهو هنا يستحضر قصيدة الشاعر الفرنسي غولفيك عن الموت والعودة. وفي قصيدته ‘عطرية’ تبدأ ‘في مكان عشب/ ينبت بين القبور’ وعبر هذه القصيدة ذات الايقاع الحزين والفضاء الغريب يجد هيني بالموت وجوده ‘عرفت وجودي… كنت هنا.. انا في المكان والمكان في’. وفي النهاية تظل المجموعة عن الشاعر نفسه وهو المعروف بتحطيمه او قدرته على تكسير الحدود بين العادي والاسطوري فـ ‘خط 110’ تتجادل مع رحلة اينياس وطريقه في العالم الارضي من تروي الى روما مع رحلة هيني الى بلفاست على خط باص 110 حيث ذهب الى هناك لشراء اول نسخة لفيرجيل ‘الانيادة’ من سوق بيع الكتب القديمة.
تجدد امام الشيخوخة
تحتفظ المجموعة بحسها الموحد من ناحية تفضيل هيني المقاطع الثلاثية لكل مقطوعة والسطور القصيرة. وهذا الشكل يمنحه الحرية في الحركة والايقاع المناسب والتحكم بسير القصيدة من البداية للنهاية. وفي مواجهة الشيخوخة يبدو هيني مصرا على الاستمرار والبحث في معنى وجوده ومن غاب ممن وجدوا معه. ويبدو شخصيا، قصائد لوالديه الراحلين وزوجته، وقصيدة ‘طائرة ايبن الورقية’ وهي مكرسة لأحفاده، وهي عودة لقصيدة اخرى كتبها لولديه مايكل وكريستوفر في مجموعة ‘الجزيرة المحطة’ قبل عقود. ويظل هذا الشاعر يرسم اغنيته بطريقة تبدو سهلة، مغرقة احيانا بالكلام الغريب على طريقة المتنبي ولكن القراءة الاولى والثانية تفصح عن عالم ماتع، ولا بد من ان نختم بهذه الملاحظة فمنذ ان فاز هيني بجائزة نوبل عام 1995، اصبح مطلوبا من كل شخص، المهرجانات الادبية تريد مشاركته، الجامعات تريده محاضرا، الساسة يريدون ان يكون معهم بعض الوقت والقراء ينتظرون منه المزيد، والجزء الاخير خاف من ان يتوقف الشاعر عند مرحلة الجائزة ويعيد تكرار نفسه لكنه استطاع على الرغم من مشاغله انتاج اكثر من عمل شعري وترجمات منها بيوولف التي وضعت الشعر في قائمة الكتب الاكثر مبيعا. يذكر ان اول مجموعة شعرية صدرت لهيني كانت عام 1967 وحملت عنوانا اسس للتيمات التي ظل يعود اليها ‘موت الطبيعي- محب الطبيعة’، وفي بداية السبعينات من القرن الماضي انتقل من شمال ايرلندا للعيش في ايرلندا الجمهورية. ولم يكتب الكثير عن مشاكل بلده الذي ولد فيه شمال ايرلندا، وتبدو اهتماماته السياسية قليلة مع انه بالتأكيد لم يكن بعيدا عما يحدث في شمال ايرلندا. وعلى رغم تراجع سوق الشعر وغياب الشاعر كنجم الا ان اعمال هيني الشعرية تمثل في مبيعاتها ثلثي ما يباع من اعمال الشعراء الاحياء في بريطانيا ولا يزال وفي سن الشيخوخة قادرا على جمع الكثير من المعجبين في محاضراته والقاءاته الشعرية العامة.
Human Chain
Seamus Heaney
Faber & Faber,
London- 2010
القدس العربي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى