ما يحدث في لبنان

الموت التباساً

بلال خبيز
هذه أمور لا تحصل إلا في لبنان: أن تجبر طائرة للجيش اللبناني على الهبوط اضطرارياً بعد مقتل قائدها، ثم يرد القتل إلى الالتباس. ما الذي يمكن أن يجافي البداهة أكثر من هذا الحادث؟ أن يستشهد بعض العسكريين جراء انفجار عبوة ناسفة، أمر يكاد يكون مفهوماً. ذلك أن واضع العبوة المستتر والذي يخفي وجهه خلف أعماله، يريد استهداف الجيش اللبناني، والجيش اللبناني من جهته يريد الاقتصاص من هذا المجهول حين يتمكن من ذلك. أن تطلق النيران على حاجز للجيش من سيارة عابرة أيضاً أمر يكاد يكون مفهوماً. مازال الفاعل مجهولاً، ومازال سلاحه فاقداً للشرعية. أما أن يطلق النار على طوافة عسكرية للجيش اللبناني، ثم يرد الأمر إلى الالتباس، فأمر يدعونا إلى التفكر طويلاً في معنى الالتباس. هل يكون مصدر الالتباس متمثلاً بتدريبات الجيش؟ هل يحق للجيش أن يدرب ضباطه وعناصره على الطيران؟ وإذا كان يحق له ذلك ففي أي المناطق من لبنان؟ وهل أخذ ضباط الجيش إذناً مسبقا من مطلقي النار للتدرب على الطيران؟
أخيراً، هل يعقل أن ترد هذه الأسئلة في خاطر مصري أو أردني أو سعودي؟
لا شك أن وجود قوتين عسكريتين في منطقة عمل مشتركة يؤدي في ما يؤدي إليه إلى أخطاء من هذا القبيل. هذا أمر ليس تقنياً، وبالطبع ليس مسألة سياسية بمعنى من المعاني، وواقع الأمر أن الحملة التي قام بها أركان فريق 14 مارس في لبنان ضد سلاح «حزب الله» تعقيباً على الحادثة تبدو في ظاهرها وباطنها مفتعلة. إذ إن عدم وقوع الحادثة لا يلغي احتمالها في أي حال من الأحوال. ثمة جيشان يتجاوران في منطقة عمل واحدة. هل نعود إلى مقولة لينين الشهيرة: «إذا وجد حزبان شيوعيان في بلد واحد فإن أحدهما لا محالة انتهازي». وإذا وجد جيشان في بقعة عمل واحدة، ما القول في ذلك؟ هل يكون أحدهما شرعياً والآخر غير شرعي؟ ومن أين يستمد الجيش اللبناني شرعيته؟ من القوانين والدستور أم من جمهور الجماعات الأهلية، بوصف هذه الجماعات الأهلية والطائفية من المكونات الأساسية للشعب الذي هو أعلى السلطات بموجب الدستور؟ الأسئلة في لبنان تكاد تكون بلا جدوى، والحملة على «حزب الله» في هذا السياق تبدو أيضاً بلا جدوى. مجموعة من المقاتلين اشتبهت بطوافة عسكرية فأطلقت عليها النار. الحصيلة: خطأ والتباس أديا إلى استشهاد ضابط في الجيش اللبناني. حسناً وماذا بعد؟ هل يجدر بنا أن نمنع «حزب الله» من الوجود في تلك المنطقة بسلاحه لأن مجموعة من مقاتليه اشتبهت أو أخطأت التصويب أو التقدير؟ «حزب الله» موجود في تلك المنطقة بقوة الاعتراف اللبناني العام، والجيش في مقدم المعترفين، بحقه في التسلح والمرابطة والمقاومة والدفاع عن لبنان. أقله حتى الآن. فماذا لو أخطأ؟ هل ننزع عنه هذه الوكالة لأنه أخطأ، أم يجدر بنا ألا نعترف بهذه الوكالة في الأحوال كافة؟
هذا ليس دفاعاً عن «حزب الله»، بل هجاء للبلد. حين يرتضي بلد برمته أن يخصص قضية الدفاع عن أرضه وتحريرها ويوكلها برمتها إلى فئة بعينها، يكون قد أخطأ منذ ابتداء المقاومة وليس بعد انتصارها. كان يجدر بالبلد ألا يسمح لفئة واحدة احتكار الحق بالمقاومة. لا أن يقيم الدنيا ولا يقعدها على حادثة الطوافة، رغم جلالة الحدث وخطورته. لكن طوافات كثيرة ستصاب بأعيرة نارية وقذائف صاروخية قبل أن يتسنى للبلد أن ينشئ مقاومته لا أن يتبنى مقاومة فئوية مثلما هو حاصل اليوم. المسألة تتصل بالأصول، حين تكون المقاومة فئوية وطائفية، لا تنجح في تحرير البلد. بل تستبدل احتلالاً بآخر وهيمنةً بأخرى، وحين يكون جمهور المقاومة ينتمي إلى طائفة بعينها، يصبح تخوين الطوائف الأخرى مشروعاً ومفهوماً. رغم هذا كله، لا نستطيع أن نلوم قادة البلد على ما هم فيه من قلة حيلة، وهم يعرفون جيداً أن الكلام الكثير الذي سيقال على المنابر ويكتب في الصحف عن خطورة حادثة الطوافة العسكرية، لن يغير في المعادلة شيئاً. ستبقى الحال على ما هي عليه، وسينضم هذا الحادث إلى أرشيف الأخطاء التقنية والخسائر التي لا يمكن تجنبها. وفي مطلق الأحوال، سيسمي «حزب الله» النقيب سامر حنا شهيداً، مثلما سماه الطرف الآخر شهيداً، لكن الخلاف سيبقى قائماً على معنى الشهادة ومضمونها.
كاتب لبناني
الجريدة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى