صبحي حديديصفحات العالم

تجارة السياسات الامريكية: اكلاف عالية وعوائد متدنية

null
صبحي حديدي
في سياق تغطياتها لحصيلة العقد الأوّل من هذه الألفية الثالثة، نشرت أسبوعية الـ’إيكونوميست’ البريطانية مقالة مسهبة حول مشكلات السياسة الخارجية للولايات المتحدة الأمريكية، وما إذا كانت المتاعب الكبرى للانخراط الأمريكي في شؤون تلك المنطقة بمثابة استثمار صائب، بالنظر إلى أكلافه العالية وعوائده البخسة، كما تنتهي خلاصة المقالة. ويكفي، بالفعل، أن يستعرض المرء بعض ما تسوقه الـ’إيكونوميست’ من أرقام مذهلة في هذا الصدد: بمعزل عن قرابة 6000 قتيل أمريكي في العراق وأفغانستان، أنفقت الولايات المتحدة أكثر من 1.1 تريليون (18 صفراً، أو مليون مليون) دولار على العمليات العسكرية؛ وصار إبقاء كلّ جندي أمريكي على مسرح القتال في البلدين، يكلّف قرابة نصف مليون دولار سنوياً.
على مستويات اقتصادية وجيو ـ سياسية أخرى، يُشار إلى أنّ نسبة استهلاك الولايات المتحدة من نفط الشرق الأوسط، وهو أحد الأسباب الهامة للتورط الأمريكي في المنطقة، لم تعد تتجاوز 10 في المئة، ومن المتوقع أن تنخفض النسبة أكثر فأكثر خلال ربع القرن القادم. كذلك فإنّ دافع الضرائب الأمريكي منح إسرائيل معونات تُقدّر بـ 27 مليار دولار خلال العقد المنصرم، رغم أنّ الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة لم تقدّم في المقابل أيّ عون للدبلوماسية الأمريكية في المنطقة، بل تسببت مراراً في إحراج البيت الأبيض أمام العالم بأسره، في ملفات مثل تجميد الاستيطان، أو التخفيف من معاناة الفلسطينيين، أو منح سلطة الرئيس الفلسطيني محمود عباس أي تنازل رمزي يحفظ ماء الوجه.
وأمّا الحليفة الأخرى، مصر، ورغم مليارات الدولارات التي حصلت عليها من واشنطن، فإنها أهانت الإدارة حين رفض نظام حسني مبارك إخضاع الانتخابات التشريعية الأخيرة لرقابة من منظمات دولية مختصة، من قبيل ذرّ الرماد في العيون على الأقلّ.
وفي السعودية ثمة نظام خلافة محفوف بمخاطر شتى، يتناهبه شيوخ طاعنون في السنّ، وأمراء لاهون، وانحسار في النفوذ العربي والإقليمي، كما هي حال مصر تماماً (الأخيرة في العجز عن المصالحة بين السلطة الفلسطينية و’حماس’، والأولى في جمود أو تعثر صيغة الـ’س ـ س’ في لبنان). وأمّا العراق، فقد احتاجت الأحزاب السياسية تسعة أشهر لكي تتمخض صراعاتها وارتهاناتها الخارجية عن حكومة هشة، مذهبية وعشائرية في الجوهر، أقرب إلى تمثيل الهوى الإيراني من مراضاة المحتلّ الأمريكي.
والحال أنّ التسمية الأخرى لهذا الوضع الأمريكي العالق، في التعبير الألطف، ليست سوى ‘القيادة الكارثية’، تلك السمة الكبرى للسياسة الأمريكية الراهنة، التي اقترحها مستشار الأمن القومي الأمريكي الأسبق زبغنيو بريجنسكي في كتابه ‘فرصة ثانية: ثلاثة رؤساء وأزمة القوّة العظمى الأمريكية’، والتي ساجل بأنها قوّضت الموقع الجيو ـ سياسي للولايات المتحدة، على نحو خطير وبعيد الأثر.
ورغم أنّ فرصة ثانية (لإصلاح الوضع، كما للمرء أن يفهم) ما تزال قائمة، فإنّ بريجنسكي متشائم تماماً، ويرجّح أنّ العلاج قد يستغرق سنوات طويلة ويقتضي جهداً مضنياً. ولعلّ عناوين الفصول، المخصصة للرؤساء الثلاثة، تختصر جوهر الملامة التي يلقيها بريجنسكي على عاتق كلّ منهم: ‘جورج هـ. بوش ـ الخطيئة الأصلية (وشِراك المخيّلة التقليدية)’؛ ‘بيل كلينتون ـ عجز النوايا الطيبة (وثمن التورّط الذاتي)؛ و’جورج و. بوش ـ القيادة الكارثية (وسياسة الفزع). ونفهم أنّ الخطيئة الاصلية هي فشل إدارة بوش الأب في إضفاء أي معنى ملموس على شعار ‘النظام الدولي الجديد’؛ وعجز كلينتون عن ترجمة الشعار، واغتنام ما خلقت سياسات الشعار من متغيّرات على الأرض؛ وقصور بوش الابن عن فهم البرهة التاريخية بين المخيّلة التقليدية والنوايا الطيبة…
هنا، باختصار شديد، المشهد الكارثي الذي رسمه بريجنسكي وعهد بحلّ عقابيله إلى الرئيس الأمريكي الحالي، باراك أوباما: أوروبا الآن تغترب عن أمريكا أكثر فأكثر، وروسيا والصين تقتفيان الدروب التي لا تفضي إجمالاً إلى باحة المصالح الأمريكية، وآسيا تنأى أبعد فأبعد وتدير ظهرها، واليابان تشتغل بذاتها على أمنها الذاتي، وديمقراطية أمريكا اللاتينية تزداد شعبوية وعداء لأمريكا، والشرق الأوسط يتشظى ويدنو من حافة الإنفجار، وعالم الإسلام تلهبه الحميّة الدينية المتصاعدة والنزعات القومية المعادية لأمريكا، وعلى امتداد العالم تبيّن استطلاعات الرأي انّ سياسات الولايات المتحدة لا تثير إلا الذعر والرفض…
ولعلّ الصورة هذه تتكامل على نحو أفضل، وتأخذ صفة تاريخية ارتجاعية على نحو ما، بالعودة إلى كتاب سابق نشره بريجنسكي أواسط العام 2004، بعنوان ‘الاختيار: هيمنة عالمية أم قيادة عالمية’؛ سعى فيه إلى تحديد موقع الولايات المتحدة ضمن هذا العالم المعولَم، والقضايا التي تجابه السياسة الخارجية الأمريكية، كما اقترح سلسلة أطروحات خَلاصية، ‘طهورية’ ‘متسامية’ مرّة، و’حكيمة’ ‘عقلانية’ مرّة أخرى. ورغم أنّ الكتاب كان صغير الحجم، 242 صفحة، فإنّ المرء يسجّل لمؤلفه براعة واضحة في ضغط المسائل داخل برشامات سهلة التناول، إذا جازت الإستعارة هذه، تاركاً صداع الخوض في تفصيلاتها الشائكة إلى سواه من ثقاة السياسة الخارجية الأمريكية.
أطروحته كانت بسيطة، وإنْ بدت حصيلتها عكسية وتبعاتها خطيرة وعواقبها وخيمة: الواقع العالمي بعد الحرب الباردة و11/9 وضع الولايات المتحدة في موقع فريد لأمّة قادرة على تأمين الإستقرار العالمي من خلال السيطرة العسكرية، وقادرة في الآن ذاته على تهديد الاستقرار الدولي من خلال الوسيلة العسكرية إياها. وإدارة بوش الابن، بصفة خاصة، صارت أمام واحد من اختيارين: إمّا الهيمنة على العالم، أو قيادته؛ والمؤشرات المتوفرة آنذاك قادت بريجنسكي إلى الجزم بأنّ تلك الإدارة رجحت الخيار الأوّل، على نحو خطير.
لعلّنا بحاجة إلى أن نتذكّر أنّ بريجنسكي، الذي يزعم اليوم النطق بالحكمة والتعقّل ورصد الكوارث الكونية، ليس سوى الرجل ذاته الذي كان مستشار الأمن القومي في عهد الرئيس الأمريكي الأسبق جيمي كارتر، والذي كان المهندس الأبرز وراء توريط السوفييت في أفغانستان، ثمّ إطلاق تلك ‘الصناعة الجهادية’ التي أعطت بضاعة الطالبان والأفغان العرب وأسامة بن لادن… وتتمة المسمّيات والأسماء التي تقضّ مضجع أمريكا اليوم. دعونا، أيضاً، نعود إلى عمل فكري سابق وضعه بريجنسكي على خلفية لا تشبه البتة ما يجري اليوم بصدد شؤون وشجون الهيمنة/القيادة الأمريكية للعالم. ففي كتابه ‘الإنفلات من العقال: حول الاهتياج الكوني عشية القرن الواحد والعشرين’، 1993، جادل بريجنسكي بأن التاريخ لم ينته بعد على طريقة المفكّر الأمريكي المحافظ فرنسيس فوكوياما، بل انضغط وتكثّف على طريقة المستشار الألماني الشهير بسمارك. وبينما شهد الماضي بروز الأحقاب جنباً إلى جنب، بتباين حادّ بعض الشيء يتيح تكوين معنى ما للتقدّم التاريخي، فإننا اليوم نشهد سيرورة مركبة من الإنقطاعات الحادة التي تتصادم فيما بينها، وتُكثف إحساسنا بالمنظور الراهن، إلى درجة منعنا من تكوين إدراك أوالية التطوّر ذاتها. في عبارة أخرى: نحن اليوم نعيش في عالم مختلف تماماً عن العالم الذي رغبنا ـ بل وشرعنا ـ في فهمه، وهو مرشح لكي يكون أكثر اختلافاً واغتراباً عن مدركاتنا حين تحلّ ساعة الحقيقة التي نؤجلها حيناً، ونسدل عليها الأستار الرمزية الزائفة حيناً آخر!
ورغم انبثاق سيرورة سياسية كونية وحيدة ومتبادلة التأثير، فإن ‘عجز الولايات المتحدة عن ممارسة السلطة الكونية الفعلية يمكن أن ينتج حالة من الاحتقان العالمي بدل الاستقرار.
وعلى المستوى الجيو ـ سياسي سوف يترجم هذا الموقف نفسه في تصاعد الأزمات الإقليمية الناجمة عن انهيار الإمبراطورية السوفييتية، كما سيترجم نفسه في فقدان الثقة بالباعث الديمقراطي الليبرالي ذاته قياساً على التجارب الفاشلة أو المتعثرة في بولونيا وهنغاريا وتشيكيا وروسيا وما إليها’. هذه هي سياسة ‘الجنون المنظّم’ كما أسماها بريجنسكي من قبل، وهي السياسة التي رسمها ونفذّها وأدارها ‘مهندسو اليوتوبيا القسرية’ حسب تعبيره.
هل تعلمت البشرية دروس التاريخ؟ هل ستكون الرؤية التاريخية في العقود الآتية أكثر نضجاً في تعاملها مع الجنون السياسي الذي ساد القرن العشرين؟ هل من الممكن اليوم التفكير بإجماع ليبرالي ـ ديمقراطي، أو بديمقراطيات سوق إجماعية ليبرالية، على نطاق عالمي؟ وهل يقدّم مفهوم الديمقراطية الليبرالية ذاته إجابات ذات معنى حول الأزمات الناشبة والمعضلات الجديدة الخاصة بالوجود الاجتماعي قبل الوجود السياسي؟ بريجنسكي في ذلك العمل الفكري رجّح إجابة مركبة تفيد النفي الواقعي والتأكيد المأمول، متكئاً على ‘ميل العقائد الصغرى إلى تحقيق انتصارات صغرى مؤقتة؛ وعلى ميل العقائد الكبرى إلى تحقيق انتصاراتها في منطقة محايدة حساسة، بين الواقعي والمتخيل’.
كان ذاك كلاماً فلسفياً ثقيلاً، إذ يصدر عن ‘سوبرمان الأزمات’ كما يسير أحد ألقابه، و’رجل تحطيم الأقواس’ كما يقول لقب آخر يشير إلى قوس الاسلام التاريخي على سبيل المثال، و’نبيّ الردع’ الذي أطلق مفهوم التدخل السريع في عهد كارتر ثم أسلمه وديعة ثمينة إلى خلفائه من مستشاري الأمن القومي الأمريكي. استمعوا إليه يكتب في الصفحة الثانية من كتابه: ‘إن قدرتنا على فهم تشعبات الحاضر ـ لكي لا نقول المستقبل ـ يكبّلها الانهيار الهائل في القيم الناجزة، لا سيما في الأجزاء المتقدّمة من العالم’.
وللذين يستغربون هذه الجرعة الفلسفية العالية في كلام بريجنسكي، ثمة تفسير واحد كافٍ: لقد استند الرجل إلى خزّان فلسفي، غريب بعض الشيء بالنسبة إلى مستشار أمن قومي امريكي سابق، هو أفكار الناقد والفيلسوف البنيوي البلغاري ـ الفرنسي تزفيتان تودوروف، حول خطاب تعايش الذات مع الآخر؛ وأفكار الفيلسوف الفرنسي جان ـ فرانسوا ليوتار حول الشرط ما بعد الحداثي، والتصارع بين الحكايات الصغرى والحكايات الكبرى؛ وأخيراً، أفكار الفيلسوف الإيطالي بنديتو كروتشه حول… ‘جماليات الإنهيار الحضاري’!
اليوم يقول إنّ الهيمنة العالمية وهمٌ عفا عليه الزمان، في حين أنّ القيادة العالمية المرتكزة على حقوق الإنسان والاعتماد المتبادل هي الخيار الوحيد الصالح لمستقبل أمريكا. من الواضح أنّ العالم يعيش حال انتقال تاريخية، وفي رأي بريجنسكي فإنّ الولايات المتحدة هي القوّة العسكرية والثقافية الدافعة التي توجّه ذلك التحوّل، شاءت ذلك أم أبت.
وهكذا نراه يريد نظرة للدور الأمريكي العالمي أوسع وأكثر تعقيداً من النظرة التي تتداولها وسائل الإعلام والقيادة السياسية: نحن شرطيّ العالم، يقول، ولكن ينبغي أن نبدو في صورة الشرطي العادل؛ وإذا حقّ لنا أن نتمتّع بمستوى من الأمن أعلى ممّا تتمتّع به الأمم الأخرى لأننا نجازف أكثر من سوانا، فإننا في الآن ذاته ينبغي أن نظلّ أبرز المبشّرين بالحرّيات الإنسانية الجوهرية اللازمة من أجل الارتقاء بالعولمة إلى مصافّ أعلى…
لكنّ شرطي العالم هذا ما يزال منخرطاً في استثمارات سياسية وعسكرية خارجية، عالية الأكلاف، متدنية العوائد؛ وما يزال يكيل حقوق الإنسان بمكاييل متباينة، منافقة أو زائفة؛ وما يزال يزوّد الحاكم العربي، المستبدّ والفاسد، بالهراوة والسند المنجاة، هنا وهناك في أسواق تجارة السياسات!

‘ كاتب وباحث سوري يقيم في باريس

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى