صفحات ثقافية

“الكرمل” تحت القراءة الهادئة

null
بعد مرور أكثر من عقدين على صدورها، بل واقترابها من العقد الثالث، تتوقف مجلة “الكرمل” عن الظهور، مكتفية ببلوغها العدد رقم 90. هذا التجميد النهائي للمجلة، أنجز كاستعادة لرغبة محمود درويش نفسه، وكاستحضار محسوس للموت، محتفظا بأرشيف المجلة، كإرث يتجاوز فكرة العدم، أي ما يساوي الموت بشكل من الأشكال. يبدو أن القرار يختزن مساحة كبيرة من اقتناع القيّمين على “الكرمل” وخصوصاً مدير التحرير حسن خضر، لكن ذلك لا يمنع من التأمل في مسيرتها.
تأسست المجلة عام 1981، على يد الشاعر الفلسطيني الراحل محمود درويش. وهو من رأس تحريرها، منذ ذلك الوقت، وآثر التزام صدورها، غير آبه بالظروف السياسية التي أدت بها إلى انتقالات من بيروت، حيث توقفت عن الصدور بين 1982 و1983 بسبب الاجتياح الاسرائيلي للعاصمة اللبنانية، لتعود وتصدر منذ 1983 حتى 1993 من نيقوسيا، ليستقر بها المطاف في رام الله بفلسطين، فتتابع الصدور من هناك منذ عام 1996. كان هم المجلة الأول بناء علاقة تقوم على أساس التبادل الفكري والمعرفي والثقافي بين الرقعة العربية والعالم، واعتبرت منبرا للآراء الفكرية والتوسع الانساني بكل امكاناته الأدبية والشعرية والفكرية والفلسفية. لم تبتعد المجلة عن التحولات في السياسة والأدب والمذاهب الفكرية والايديولوجية، والتي أصابت العالم العربي، وأزاحت القضية الفلسطينية نحو مطرح آخر، إشترط بطبيعته رؤى مغايرة، ومعالجات من مواقع جديدة، ومقترحات حول المطالب الفلسطينية والاشتراطات الاسرائيلية ومحاولة وضع آليات لاستحضار “السلام” بأسرع وقت ممكن، وقائمة التفاصيل الأخرى طويلة.
لكن العوامل التي أعادت فرز الآراء حول القضية الفلسطينية، هي بذاتها مما أدى إلى تغييرات في نسب البشرية المكونة لطبقات المجتمع الواحد، على المستوى الاقتصادي، ليستتبع ذلك بتغيرات أضحت ميكروسكوبية، أو شديدة الخصوصية، لجهة التعامل مع تلك الحالة المستجدة من الأفراد. حالة التدهور التي مست بطبقات معينة من المجتمع، وتحديدا تلك الفقيرة أو المحرجة على المستوى المادي، ظلت على رغم عموميتها، عرضة للنسبية، لتجد أشكالا فنية وأدبية تحاول عكس الأسباب أو البحث داخل خلايا المجتمع الواحد ككل، في محاولة للخروج من تلك الحالة المضنية. كانت هناك محاولات عديدة هدفت إلى أمرين إثنين: أولا محاولة استنهاض إيديولوجيا بأسرع ما يكون، لم يهدف منها استبدال الإيديولوجيات (وبخاصة ذات التوجه اليساري) التي بدأ مناصروها تعريضها للمساءلة والشك، بقدر ما هدفت للانزياح عن الخط السائد والمرهق، ولو كان ذلك انزياحا ممهدا لانتقال أكثر استقلالية في ما بعد. وثانيا: محاولة نقد المرحلة برمتها، أو على الأقل، الأصوات الثقافية المروجة لها آنذاك، وتالياً نقد النهج الفني أو الشكل السائد آنذاك ومحاولة تحفيز أشكالٍ فنية أكثر طزاجة، تترجم التطلعات وتؤسس لجماليات من نوع آخر.
فطن محمود درويش الى ذلك من دون أن يغرق في الرومنطيقية، ولو أنها كانت ضرورة شعرية، بمزجها بالواقعية، في قصائده آنذاك. إلا أنها لم تكن لتستعمل في “الكرمل” التي كانت منبرا ثقافيا متيقظا، لا تجرفه أحلام السابق بقدر ما يسعى لاستثمار هذه الاحلام لوضع العين قبالة العين الأخرى، وتبادل الثقافة والفكر، مع العالم الغربي. لهذا كانت “الكرمل” تسير في وحل التحولات على المستويين العربي العام والفلسطيني الخاص، وكانت ولادة تلك المجلة، أشبه بطفل يولد في حديقة من الأصوات الصاخبة.
كانت لمحمود درويش رغبة في ضرورة تجميد “الكرمل”، وقد أعرب عن ذلك عام 2006، لكنه كان يريد تحقيق حلم العدد التسعين. للعدد الأخير من الكرمل، أكثر من دلالة، فهو العدد الذي تختتم به مرحلة حياة درويش نفسه، وهو اللفظة الأخيرة لهذا الشاعر. اللفظة التي قالها رفاقه بعده. لم يغفل الرفاق ضرورة إدراج اسم درويش في هذا العدد الأخير، ولم يكن من اختيار يليق بالقصيدة، وكينونتها أكثر من “لا أريد لهذي القصيدة أن تنتهي”، لتفتتح “الكرمل” الخاتمة. تضمن العدد كلمة إلياس خوري حول الديوان الدرويشي الأخير، والجدال الدائر حوله، وثلاث دراسات في شعر درويش لكل من صبحي حديدي “استراتيجيات التعبير وتمثيلات المعنى” وفيصل دراج “ثلاثة مداخل لقراءة محمود درويش” وكاظم جهاد “عزلة الشاهد”. ومقالات لستيفن هيث حول “فعل القراءة وتأزم التمثيل” وانجليكا نويفيرت حول “الوطن في المنفى” وأمجد ناصر حول “محمود درويش وقصيدة النثر” وقاسم حداد “في شرفة محمود درويش”. تحت باب “ذاكرة”، كانت كتابات لكل من أكرم هنية تحت عنوان “الشاعر في رحلته الأخيرة”، ومحمود شقير “عن الشاعر وبعض أيامه”، وكتبت ليانة بدر بعنوان “ليلك أخضر” وحسن خضر “صورة أولى لسيد الكلام”. هذا إضافة الى كتابتين، الأولى للشاعر سعدي يوسف “اختلاجات في حضرة محمود درويش”، والثانية لشيركو بيكه س “مات قمر ونديته جميع أشعار الدنيا”، قبل أن يختتم العدد بما كتبه درويش قبل ثمانية وعشرين عاما، تحديدا في أول عدد كرملي (تحت باب “بيان الكرمل”، وحمل عنوان “نلم فتات الضوء”).
هذه الافتتاحية التي نشرت للمرة الأولى كتعريف بمشروع “الكرمل”، تستدعي التأمل. فهي كانت في شتاء 1981، أي ما بين اجتياح الليطاني (1978) الذي أضعف إلى حد ما قوة القتال الفلسطينية المتمركزة في الجنوب اللبناني، واجتياح بيروت (1982) الذي أدى كسبب مباشر، إلى خروج معظم قوة منظمة التحرير العسكرية من لبنان. في خضم الاجتياح الاسرائيلي لبيروت، والدعم الأعمى الذي كانت تقوم به كل من الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي سابقا لأطراف متنازعين، فلسطينيين ولبنانيين، على الأراضي اللبنانية، كما بالتزامن مع أحد اشكال الحرب الباردة المستمرة آنذاك منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، إضافة الى ما سمّي بحرب الخليج الأولى، والتي لم يكن مر عليها أكثر من عام، بين العراق وإيران، وتهافت الدعم العسكري من دول عديدة عربية، أوروبية وآسيوية، لهذين البلدين، وفي عمق أزمة إعادة التفكير في ما سمّي بالقومية العربية، وأول خيوط البحث عن مخرج سياسي هوية بديلة. هذه كلها عوامل، عملت على رسم ملامح أزمة على المستوى الثقافي، دافعة بدرويش إلى أن يشدد على ضرورة وجود “ثقافة الأزمة”، عارفا في الوقت عينه أن هذا لن يكون ممكنا من دون قراءة لتجارب سابقة، على الصعيد الأدبي، أو الفكري، لأدباء وشعراء استطاعوا أن يعبروا عن أزمة الحرب العالمية الأولى والثانية، كما نرى على سبيل المثال، في الشعر الأسوجي أو الشعر الأميركي والألماني وإلى حد ما، الانكليزي. وفي أعمال مسرحية لكتّاب استثنائيين كصموئيل بيكيت ويونسكو وغوته وبريخت. وأيضا لا ننسى أعمال جورج أورويل وهمنغواي الروائية والسياسية المثيرة للجدال آنذاك. أكيد هناك الكثير من الأمثلة الأخرى التي تفوق مساحة هذه المقالة. فعندما يذكر درويش تعابير مثل “مرحلة تختلط فيها النهايات بالبدايات” أو “نحن نعلن أن على المنهار أن ينهار”، أو “خيارنا الوحيد هو الانتماء إلى الإبداع في الثورة والثورة في الإبداع” أو “الثقافة الجديدة هي إعادة اكتشاف الواقع العربي وكشفه والمساهمة في تغييره”.
هذه العبارات كلها، تشير إلى مدى المسؤولية التي كان يستشعرها درويش أمامه حين قرر تأسيس “الكرمل”. فالعبارة الأولى تشير إلى أن الفن، والأدب تحديدا، مهدد بالأسر في صفحة سابقة، لم تعد صالحة على مستوى الممارسة السياسية، ولا الإيديولوجية، وهي على شفير البهتان. لذا، لن يكون لقراءتها أي جدوى، وسيكون على هذا الفن أن يولد وبعد استنزاف طاقة صانعه، ميتا، بل وسيؤدي موته إلى موت اللغة، بالمعنى المتعلق بعدم التجديد. لكن درويش كان يعرف أن للمرحلة السابقة (آنذاك) رواسب على شكل مريدين عنيدين لن يكفوا عن التمسك بـ”إرثهم”، لكن ذلك لن يكون ذا جدوى، لذلك فعلى المنهار ان يعترف بانهياره، لأن ذلك يوفر الوقت والطاقة، ويسمح للتاريخ بإعلان نفسه في أولى خطواته نحو المرحلة الجديدة، التي لا تعني محو سابقتها، أو تأثيراتها بالكامل، فالتعقيدات المجتمعية وخصوصاً عندما يتعلق الأمر بالعالم العربي، لا يمكن تفسيرها خارج اعتبار المتوارث والمتناقض، ومفهومي الحرية والمسؤولية، والتقاليد والمحرمات والتابوهات الدينية والفكرية المستفحلة في جسد كائن التطور البطيء الحركة.
من هنا تبرز عند درويش ضرورتان متلازمتان، تتعلق بالثورة والابداع. فإعلان ملامح المرحلة الجديدة، لا بد أن يتم بشكل فج ووقح، ويساوي في جديته، جدية المرحلة ذاتها ومسؤولية الوقوف في وجه كل المعوقات التي تشد نحو الخلف. لذلك، فإن الابداع في مثل هذه الحالة لا بد أن يترافق مع شكل ثوري، وليس فقط مختلفا. وهذا ينطبق ايضا على الممارسة السياسية حين يتعلق الأمر، بإيديولوجيا أو بقضية ذات صلة بأرض أو هوية أو انتماء. هذا الامر سينبع بالتأكيد من ثقافة تتطلب رؤيا تجاوزية، لكنه سيؤدي إلى ثقافة مستحدثة مع الوقت.
“الثقافة هي صراع لأنها تكتب لغة الصراعات والتناقضات. فعل الحرية يعني إعلان القطيعة النهائية مع تلك العلاقة الملتبسة بين ثقافة السلطة وسلطة الثقافة. الانهيارات علنية”. يتقاطع هذا الكلام والعديد من النظريات حول دور المثقف، وواجبه تجاه السلطة والسائد من تقاليد وأعراف بالية، وهي كلها كتابات أُنتج معظمها في أوروبا منذ اواخر القرن التاسع عشر، ولا يزال إلى الآن. إلا أننا بعد مرور اكثر من ربع قرن على كتابة درويش لها في افتتاحيته، لنا أن نسأل أولا عن حجم ما تغير منذ ذلك الحين، بل عن حجم ما أنتج من “ثقافة جديدة” أو “ثقافة أزمة”، وهل فعلا تلعب المجلات الأدبية والفكرية دورا في تحفيز المجتمع نحو الجديد والمغاير وخصوصاً في عالم عربي يشكل مجمل قرائه، نسبة أدنى ممن يقرأون في بريطانيا وحدها؟ وهل استطاعت “الكرمل” بحكم ترحالها وموقعها الفلسطيني، أن تعلن شيئا في خصوص هذه الأزمة؟ وهل تغيرت فعلا معالم مرحلة درويش، بين الصراع الفلسطيني على ابتكار الهوية، أو ايجاد الحيز الموقت لها قبيل العودة الى فلسطين، ليس تاريخيا بل وسياسيا أيضا؟
إن كلمات درويش في تفسير الواقع المحيط بنا، لا تزال إلى هذه اللحظة مجدية، فهي تتجاوز الزمن، إلا أن هذا الأمر لا يدل على صحة تفكير الشاعر بقدر ما يدل على عمق الأزمة واستفحالها أكثر فأكثر وصعوبة القبض عليها أو تفسيرها، كما أننا لم ننتج ثقافة جديدة كما طالب درويش. لن نقول بأن تَوَقُف “الكرمل” يمثل ضربة للثقافة وإلى ما هنالك من كلمات التأبين. علينا ألا نتجاهل أن استمرارية المجلة لقرابة ثمانية وعشرين عاما، يعد إنجازا. كما أن حفاظ محمود درويش على موقعه والتزامه بها، كرئيس تحرير، يتوافق مع ما أعلنه في بيان عددها الأول. لكن ما علينا فعله، هو البحث في “ثقافة الأزمة” في وسط أزمة الثقافة وأساليب المثاقفة أو التثاقف التي تحتاج الى الكثير من الترقيع أو الإصلاح، وهذا لا يتم بمعزل عن إصلاح أسس البنية الاجتماعية والسياسية في العالم العربي، مما يؤدي بشكل طبيعي إلى استنباط لغة ثقافة أخرى.

مازن معروف
النهار

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى