صفحات ثقافية

الشاعر العراقي عبد القادر الجنابي في إصدارٍ نقدي مثير: قراءة حاسمة لتاريخ قصيدة النثر وخصوصياتها وأبرز وجوهها الفرنسية

null
باريس أنطوان جوكي
قد يظن البعض أن الكتاب الجديد الذي وضعه الشاعر العراقي (مقيم في فرنسا) عبد القادر الجنابي تحت عنوان “قصيدة النثر وما تتميّز به عن الشعر الحر” (بيروت – دار “الغاوون”) يعالج موضوعاً قديماً مرّ عليه الزمن. لكن حين نعلم ما تدين به الحداثة الشعرية لهذا الموضوع في الغرب والشرق معاً، تتبيّن لنا آنيته وأهميته البالغة، خصوصاً وأن النقاش الحاد والطويل الذي خلّفه في عالمنا العربي خلال خمسينات القرن الماضي وستّيناته لم يُحسم بطريقةٍ موضوعية لارتكازه في معظم الأحيان على معطياتٍ مغلوطة أو تقريبية جعلت من ثورتنا الشعرية ثورةً ناقصة لا بد من كشف حيثياتها وعوراتها لتصحيح مسارها. وهو ما يقوم به الجنابي في هذا الكتاب بمعرفةٍ وجرأةٍ فريدتَين.
في الفصل الأول من الكتاب، يتوقف الجنابي عند انبثاق حركة “الشعر الحر” في لغتنا الشعرية ليبيّن جهل معظمنا بهذا المصطلح النقدي وعدم تمكّننا إلى حد اليوم من توضيح ماهيّته تاريخياً، أي “ضمن معطياته لدى الآخر الذي أخذنا منه هذا المصطلح”. والسبب، في نظر الجنابي، يعود إلى قيام فورتنا الثقافية، منذ أربعينات القرن الماضي، “على التعليق وليس على النص؛ على الفرع وليس على الأصل”، وبالتالي إلى جهل مَن كنا نتصوّرهم مطّلعين بعمقٍ على تاريخ المصطلح المذكور وتطوّراته، كجبرا إبراهيم جبرا “الذي قال إن شعر الملائكة والسيّاب لا تصح تسميته بـ”الشعر الحر” وإنما يجب أن تُطلق هذه التسمية على شعره هو وشعر توفيق صايغ ومحمد الماغوط”، بدون أن يقول لنا لماذا وكيف. وفي هذا السياق، يشير الجنابي إلى أن “شعراء التفعيلة (كالملائكة والسيّاب والبيّاتي) هم نقطة الانطلاق الأولى للشعر الحر، على الأقل بمفهوم أوائل الشعر الحر الإنكليزي، لكنهم توقفوا عند الأسس مثبّتينها قيوداً خليلية جديدة”، الأمر الذي أوجد ظروف الرغبة بالتحرّر في مطلع الخمسينات لدى شعراء مثل صايغ والماغوط وإبراهيم جبرا “أرادوا التوسّع في إمكانات الشعر الحر وكسر كل قيد، سواء أكان عروضياً بالمعنى الكلاسيكي للكلمة أم بقياسات شعر التفعيلة”. بعد ذلك، يتناول الجنابي مواقف الملائكة ضد تطوّرات تيارها الشعري وتداعياته، ليُظهر أن كل ما في كتابها “قضايا الشعر المعاصر” من أفكار “هو عين الأفكار التي طرحها إليوت، لكن عن وعي دفاعي يخشى عواقب “التمرّد” المنطقية الذي ادّعت أنها رائدته”، قبل أن يأسف بمكرٍ في مكانه لأن “ما يسمّى خطأ “قصيدة النثر العربية” بقي محتقراً عروضياً حتى يومنا هذا ولم يجد متبحّراً واحداً في العروض يخصص وقتاً للعثور على تفاعيل/ بحور غير معروفة للأذن العربية في عدد كبير مما كُتب تحت هذه اليافطة الخاطئة”.
[ بودلير
في الفصل الثاني، يبدد الجنابي سوء فهم كبير موجود في الوسط الأدبي العربي مفاده أن بودلير تأثّر بويتمان، مرتكزاً في ذلك على كتاب الباحثة الأميركية بيتسي إيركيلا “ويتمان في وسط الفرنسيين” (1980) وكتاب روجيه أسيلينو “تطوّر والت ويتمان” (منتصف الخمسينات)، ومبيّناً عدم وجود برهانٍ واحد يدل على ذلك أو، بالعكس، على أن ويتمان قرأ بودلير وتأثّر به. ولفهم الاختلاف الجوهري بين الشاعرَين، يتوقف الجنابي ملياً عند جانب أساس من حياة ويتمان وشعره، ثم يكشف الفروق الواسعة والعديدة بينه وبين بودلير على صعيدَي الشكل والمضمون، قبل أن يلاحظ أن ظهور الرمزية الفرنسية التي جاءت نتيجة تجديدات الشاعرَين معاً هي التي زرعت فكرة التأثير الخاطئة هذه.
الفصل الثالث رصده الجنابي لقصيدة النثر ويبيّن فيه أن هذا المصطلح كان شائعاً منذ القرن الثامن عشر، لكن بودلير هو الذي “أحدث تغييراً فيه حين أطلقه كجنس أدبي قائم بذاته وكان أوّل من أخرجه من دائرة النثر الشعري إلى دائرة النص: الكتلة المؤطّرة”. وفي هذا السياق، يعتبر الجنابي أنه “من الخطأ الشائع اعتبار قصيدة النثر تطوّراً للنثر الشعري الكلاسيكي الفرنسي وتكملة له. ذلك أن ما كان يُطلق عليه قصيدة نثر هو أعمال روائية تتوسّل محاسن البديع وتستعير إيقاعات النظم لكي ترتقي إلى مصاف الأعمال الشعرية”، في حين أن قصيدة النثر هي نثرٌ خالٍ من كل القواعد العروضية، “وبالتالي يمنح حرية أكبر للشاعر كي يعبّر عن انفعالاته الباطنة”، كما أن “غياب التقطيع والتشطير في هذه القصيدة يشكّل علامتها الأساسية”. ويضيف الجنابي أن “قصيدة النثر لا يختلف بناؤها عن قصر المتاهة المذكور في الأساطير اليونانية، ويمكن للشاعر أن يبدأها من أي مدخلٍ يشاء”، بينما تكمن الصعوبة في الخروج منها أو في نهايتها. وفي معرض وصفه لها، يقول إنها “فقرة مكوّنة من جُمل تتلاحق بحدّة شديدة هبوطاً وصعوداً، ما يدفع القارئ إلى أن يستقرئ العواطف البعيدة أو يجسّ الرعدات الدقيقة مستضيئاً بالجملة اللاحقة ليُبصر السابقة”، ثم يشير إلى عنصرٍ مكوّنٍ أساسي يميّزها عن سائر النصوص والأشعار النثرية هو المجانية التي يشبّهها “بالخيط الذي أعطته أريان إلى ثيسيوس الذي بقي يتتبّعه حتى عرف طريقه إلى خارج المتاهة”، كما يشير إلى قوّة فوضوية، هدّامة (في قصيدة النثر) تطمح إلى نفي الأشكال الموجودة، وقوة منظّمة تهدف إلى بناء (كلٍّ) شعري؛ ومصطلحها نفسه يُظهر هذه الثنائية”. باختصار، يعتبر الجنابي أن قصيدة النثر هي “نقيض قصيدة النثر العربية السائدة التي لا تلبي مطلباً واحداً مما اتفق جلّ النقاد عليه”.
في الفصل الرابع، يروي علينا الجنابي “كيف طفق النثر يسري في جسد اللغة الفرنسية وشرايينها الشعرية بحثاً عن توأمه: النثر الشعري”، منذ أن أطلق فينيون روايته “تيليماك” التي اعتبرها بوالو “قصيدة نثر”، وكيف أن “رغبة الهروب من البيت، من سقف القافية وجدران الوزن، أخذت تزداد حباً بفضاء النثر المفتوح”، فتحوّل الناثرون الفرنسيون الكبار (روسو، نرفال، شاتوبريان) إلى شعراء فرنسا الحقيقيين الذين “ثوّروا النثر الفرنسي شعرياً عبر كتبٍ خالدة يتمازج فيها التأمّل بالأساطير، الخرافة بالموعظة الحرّة، السِيَر الذاتية بلغة الآخر الدخيل…”. وفي هذا السياق، يشير الجنابي إلى دور الرومنطيقية الكبير في “تليين الشعر وتقريبه من النثر”، وإلى توافق صعود النثر وصعود العقل وفلسفة التنوير، الأمر الذي دفع بشاعر “أزهار الشر”، بودلير إلى تبنّي قصيدة النثر بعدما عثر على نموذج عنها في كتاب ألويزيوس برتران “غاسبار الليل”. مناسبة يستغلّها الجنابي للتوقف من جديد عند مميّزات هذه القصيدة لدى أبرز ممارسيها ثم عند المقاييس والشروط التي حدّدها ماكس جاكوب لها، أي “أن تكون كتلة ذات قابلية لتوليد انفعالٍ خاص يختلف كلياً عن الانفعال الحسّي أو العاطفي، وذلك باختيارها الأسلوب، أي المواد المركّبة للعمل المتكامل، وأن تكون إذن قصيرة ومكثّفة وخالية من الاستطرادات والتطويل والسرد المفصَّل وتقديم البراهين والمواعظ، (…) وأن تكون قائمة بذاتها، مستقلّة في شكلها ومبناها، لا تستمد وجودها إلا من ذاتها، مُبعَدة ومنفصلة تماماً عن المؤلّف الذي كتبها”.
[ مختارات
أما الفصل الخامس والأخير الذي يحتل أكثر من نصف الكتاب فيقدّم الجنابي فيه ويترجم بمهارةٍ فنية نادرة مختارات تضم أهم النماذج الكلاسيكية والحديثة لقصيدة النثر الفرنسية، نماذج تعود إلى شعراء مثل ألويزيوس برتران الذي “أعطى النثر شكلاً شعرياً يدشّن قطيعة مع النثر الشعر” و”يؤلّف البياض (فيه) وقفة صمتٍ ناطقة كأن نشعر وسط أشباح المقاصد والاحتمالات والأفكار غير المعبّر عنها”؛ جول لوفيفر دومييه الذي وجد النقّاد في بعض نصوص كتابه “المستطرق” (1854) تشابهاً قوياً مع قصائد بودلير النثرية؛ بودلير الذي “شعر أن قصيدة النثر هي القادرة على التعبير عمّا ترسل المدن الكبرى من شعاع شعري وأبدي إلى معالم الحياة اليومية”؛ مالارميه الذي “سعى داخل اللغة إلى نسف ثنائية نظم نثر” وابتكر “الجملة الشعرية المسكونة بالعدم، ببياض الصفحة” وعمد إلى “تحريرها من ظلال النظم ومن أحاسيس النثر العادية”؛ رامبو “الممهّد الأول لقصيدة النثر السورّيالية وأوّل مَن انتبه إلى أن الحداثة الشعرية التي تجلّت في قصائد بودلير تحتاج إلى لغةٍ جديدة متحرّرة كلياً، ليس من “المتطلّبات المنطقية ومن القيود النحوية والعروضية فحسب، بل كذلك من “التراكيب والصياغات التي تهبنا إياها جاهزة عاداتنا النحوية”؛ بيير لويس الذي يعتبر الجنابي كتابه “أغاني بيليتيس” “واحداً من أعظم إنجازات قصيدة النثر الفرنسية”؛ بول كلوديل الذي أنجب في كتابه “معرفة الشرق” قصيدة نثر كاملة تتميّز “بالأسلوب المكثّف، والشغل اللغوي الموزون بدقة، والطريقة التي يُفتتح بها ويُقفل كل نص، والتوتّر والجُزاف الذي ينقذ النص من السقوط في خانة الانطباعات”؛ ماكس جاكوب الذي حرّر قصيدة النثر “من كل البقايا الموروثة من الشعر الموزون وخلّصها كلّياً من الاستعارات والتنميقات البلاغية وكشف عن إمكاناتٍ جديدة (فيها) لخلق الصدمة الشعرية المطلوبة، من خلال شحنها بالكلام اليومي العادي والعبارات الشائعة في الروايات الشعبية والكليشهات الطفولية”؛ بيير ريفيردي الذي كان “أوّل شاعر خلط في دواوينه بين أشكال البيت الحرّ والنموذج الكلاسيكي لقصيدة النثر”، ويُعتبر هو وماكس جاكوب “أفضل مَن ثبّت قصيدة النثر نموذجاً خاضعاً كلياً للمثلث: إيجاز، توتّر، جُزاف”؛ أندريه بروتون الذي كشف كتابه “الحقول المغناطيسية” الذي خطّه مع فيليب سوبو عن “رفضٍ لا رجوع عنه لكل التحديدات والمقاييس التي تريد أسر الفعالية الشعرية في زنزانة جنسٍ أدبي ما”؛ بول إيلوار الذي كتب قصائد نثر كثيرة “تسيل الكلمات (فيها) بحرّيةٍ وببراءة العشق الطفولي، وسيولتها تستفزّ وتنعش في آنٍ واحد، فاتحةً كل الأبواب المفضية إلى بهو الكلمات المستحمّات في نهر الرائع والمدهش”؛ فرنسيس بونج الذي جعل قصيدة النثر “أداةً لاستنطاق الأشياء التي كانت مجرّد عوالم مغلقة يُسقط الشاعر تأمّلاته عليها” واستخدمها لفهم “ظاهرة اللغة عبر مواجهة عملية وحقيقية مع مشاكل التعبير”؛ هنري ميشو التي تقع بعض نصوصه “في خانة قصيدة النثر المفتوحة على الهلوسة والعبث وفك اللغة من إسارها لمشاركة القارئ الألفاظ في أكثر تجاربها جنوناً وهذياناً”؛ رونيه شار الذي كتب قصائد نثر تعتمد “على البُعد الأخلاقي للشاعر وعلى هرمسية تمنحها الكثافة اللازمة والإطار الضروري لمساعدتها على مقاومة الزمن”، قصائد “تحافظ على سردٍ معيّن حريص على تطوّره الخاص به، وتبذل قصارى جهدها على تشويش السير المنطقي”.
ولا يتوقف الكتاب عند هذا الحد بل يتضمّن أيضاً خمسة ملاحق قصيرة يتناول الجنابي بالتتابع فيها كيفية تحويل قصيدة موزونة إلى قصيدة نثر وفقاً إلى بيير ريفيردي، ظاهرة لوتريامون الفريدة، مسألة سان جون بيرس، مقدّمة ماكس جاكوب لكتابه “كوب الزار”، ومصطلح “النثر المركّز” لدى الشاعر العراقي حسين مردان.
وفي الواقع، يمكن اعتبار هذا الكتاب أول مرجع حول مصطلح قصيدة النثر، ويجب على النقاد قبل الشعراء أن يأخذوه في الاعتبار مستفيدين من المعلومات والنماذج التي يزخر بها. فنحن منذ أكثر من خمسين عاماً نناقش قصيدة النثر وللآن لم نر ناقداً أدبياً واحداً استطاع أن يتخلّص من الخلط بين الأجناس أو أن يفتح لنا مقاربة نقدية جديدة لقصيدة النثر بمعناها العالمي الذي يوضحه الجنابي بشكل يكاد أن يكون مدرسياً، وما يسمى عندنا بقصيدة النثر العربية والعلاقة بينهما. ولهذا، نأمل أن تواصل دار الغاوون نشر سلسلة كتب حول هذا الموضوع، كما نأمل بجمع ما كتبه الجنابي في موقع إيلاف الالكتروني حول قصيدة النثر الألمانية، والترجمات من الأصل الألماني التي أنجزها لنماذج عنها وتعود إلى وجوهٍ بارزة مثل كافكا وكاندينسكي وتراكل ورائد قصيدة النثر الألمانية بيتر ألتينبرغ.

خمس قصائد مختارة
[ شارل بودلير: كونوا ثملين
عليكم بالثمالة إلى الأبد. هذا كلُّ ما هناك: إنّها المسألة الوحيدة. وحتّى لا تشعروا بأوزار الزمن الفظيعة التي ترهق كواهلكم وتحني ظهورَكم، عليكم أن تسكروا بلا هوادة.
لكن بمَ؟ بالجبر، بالشِّعر أو بالفضيلة على هواكم. لكن اسكروا.
وإذا حدث أن استيقظتم، مرّةً، على دَرَجات قصرٍ، أو على عشب مجرى ما، أو في وحشة غرفتكم الكئيبة، وقد خفّت النشوة أو آلت إلى الزوال، اسألوا الريحَ، الموجَ، النجمَ، الطيرَ، ساعةَ الحائط، كلَّ ما يجري، يعول، يدور، ينطق، اسألوها كم الساعة وستجيبكم الريحُ، الموجُ، النجمُ، الطيرُ، ساعةُ الحائط: “إنّها ساعة السّكر وحتّى لا تكونوا عبيدَ الزّمن المعذّبين، اسكروا، بالشِّعر أو بالفضيلة، كما تشاؤون.
[ بول كلوديل: الأرض مرئية من البحر
قادمةً من الأفق، واجهت سفينتنا “رصيف العالم”، والكوكب الطالع يفتح أمامنا بناءه الجسيم. وأنا أصعد على عبّارة، في الصباح المزيّن بنجمة كبيرة، تجلت في عيني الأرض جد زرقاء. القارة، من أجل الدفاع عن “الشمس” ضد تتبع “المحيط” المتحرك، تقوم بعمل واسع من تحصيناتها؛ الفجوات تنفتح على الريف السعيد. نسير وقتاً طويلاً، وفي عز النهار، طوال حدود العالم الآخر. سفينتنا، وهبوب الرياح تسيّرها، تنطلق وتثب فوق الهوة المطاطة، ضاغطة بكل ثقلها. وقعتُ في فخ اللازورد، وملتصقٌ به كبرميل. مأسورا باللانهاية، معلقاً بتقاطع السماء، أرى من تحتي الأرضَ كلّها مظلمة تنتشر كخريطة، العالمَ مهولاً ومتواضعاً. لا مفر من الانفصال. الأشياء كلها بعيدة عني، الرؤية فقط تربطني بها. ما من أحد أبداً سيمكنني من تثبيت قدمي على الأرض الوطيدة، من بناء مسكنٍ بيدي من الحجارة والخشب، من تناول في وئام الأطعمة المطبوخة في الموقد المنزلي. سندير قريباً حيزومنا حيث ما من شاطئ يعترضه، ولن يكون تقدُّمُنا، بفضل العدة الهائلة من الأشرعة، مُعلَّماً إلا بأضوائنا الجانبية.
[ ماكس جاكوب: الأدب والشِعر
حدث هذا في ضواحي مدينة لوريان، كانت الشّمسُ مشرقةً، وكنّا نتنزّه، ناظرين في أيّام أيلول تلك، إلى البحر وهو يرتفع، يرتفع فيغطّي الغابات، المناظر، الأجراف. وسرعان ما لا يبقى لنا لصدّ البحر الأزرق سوى مساتل الغَلَل حيث يتعوَّجُ الماء في جرْيه بين الأشجار، فأخذت العوائل يقترب بعضها من بعض. كان ثمّة طفلٌ معنا مرتدياً بذلة بحريّة، كان حزيناً، أخذني من يدي، وقال لي: “كنتُ، يا سيّدي، في نابولي، أتعرف أنّ في نابولي الكثير من الشوارع الصغيرة، مما يمكنكَ أن تبقى وحيداً في الشوارع من دون أن يراك أحدٌ. وهذا لا يعني أنّ هناك كثيراً من النّاس في نابولي، إنّما الكثير من الشّوارع إلى درجةٍ أنّ لكلِّ شخص شارعاً واحداً”. “أيّة كذبة هذه يرويها لك الآن”، قال لي والد الطفل، “لم يكن أبداً في نابولي”. ابنك شاعرٌ أيّها السيّد، وهو أمرٌ حسن، لكن لو كان أديباً للويتُ عنقَهُ. إنّ المساتِلَ التي تركها البحرُ ناشفةً جعلته يحلُم بشوارع نابولي.
[ بيير ريفيردي: غسق
صحراء أفقية، صانع الزجاج كان يحفر الأرض، الحفّارُ يريد أن يشنق نفسَه والنسيان كان ينظّم نفسه في دخان رأسي.
كان الوقت ليلاً مظلماً حيث يستحيل التمييز بين الكلب والذئب، بين السخام والزفت. يا له من دُوَار. وقبل أن تتلاشى، كشّرت السماء تكشيرة قرناء. كنت أعيش، صغيراً، هنيَّ البال، متدفّئاً، لأنني رصّعت بغيظي النهاري الثمين الصدرَ القاسي لأعدائي المنهزمين.
[ فرانسيس بونج: الضفدع
عندما ينط المطر إبراً صغيرة في الحقول المُشبَعة بالماء، قزمة برمائية، أوفيليا مقطوعة الذراعين، حجمها بالكاد قبضة يد، تطلع من تحت خطى الشاعر وتلقي بنفسها في المستنقع التالي.
فلنترك هذه العصبيّة تهرب. لها سيقان جميلة. جسمها كله قفّازُ جلدٍ لا ينفذ إليه الماء. عضلاتها الطويلة بالكاد لحم أنيقة كما لو أنها لا هي لحم ولا سمكة. وحتّى تفلت من بين الأصابع تتحد خاصيّة السائل فيها مع جهود الحيّ. لها غدّة وكأن لها تورّماً درقيّاً، فهي تلهث… هذا القلب الذي يخفق بحدّة، هذه الأجفان ذات التجاعيد، هذا الفم المذعور، تجعلني أشفق عليها حتّى لأتركها تذهب.
المستقبل

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى