المسألة الكرديةصفحات سورية

دفاعاً عن ســــورية الوطن- الدولة

null
خالد عيسى
بعد تشيكل الدولة السورية, وتسليمها الى النخبة العربية السورية, لم تستطع هذه النخبة اعطاء مشروع الدولة الوطنية أسباب الشرعية الذاتية. و لم تنتج النخب السورية المتعاقبة اطروحات نظرية ومشاريع سياسية لتعطي للدولة السورية مضموناً وطنياً. وطغت في مجال الفكر والسياسة الاطروحات التي استهدفت النيل من شرعية حدود هذه الدولة ( التي يمكن اعتبارها وطناً بالضرورة), باعتمادها على اطروحات فوقوطنية. وفي الممارسة والاداء أيضاً أفرغت النخب التي قادت الدولة (الوطن) من أي مضمون (وطني) يجذب الفرد ( المواطن) الى هذه الدولة.
في الوقت الذي لم تتمكن النخب السورية من تحقيق مشاريعها الفوقوطنية, تستند هذه النخب في ممارساتها أساساً على انتماءاتها التحتوطنية.
وباعتبار أن المواطن لا يرتبط بالدولة برابطة الوطنية, فانه في حياته اليومية يضطر الى اللجوء الى تفعيل انتماءاته الطائفية والعشائرية والمناطقية.
فالمرجعية النظرية السائدة عند النخب السورية عموماً هي المرجعية أو المرجعيات الفوقوطنية. والممارسات السياسية اليومية عند النخب السورية مبنية عموماً على أساس الانتماءات التحتوطنية.
أولاً:المرجعيات النظرية للنخب السورية
تشترك كل المرجعيات النظرية للنخب السورية بقاسم مشترك بارز هو عدم اعترافها بشرعية حدود الدولة السورية, وانها تتبنى اطروحات تهدف الى مشاريع ما بعد حدود الدولة السوري (الوطن السوري الافتراضي). ولذا سمحنا لأنفسنا بتسميتها بالاطروحات الفوقوطنية للنخبة السورية. ومن أبرز هذه الاطروحات هي الاسلاموية والقوموية والشيوعية.
فالاسلاميون, وهم يستمدون جذورهم النظرية من فترة ما قبل تشكيل الدولة السورية الحالية, لا يعترفون بحدود الدول التي تقسم المسلمين الى كيانات منفصلة. والهدف النهائي للاسلامي هو توحيد العالم وليس فقط المسلمين, تحت راية الاسلام. ولذلك فالعبرة والمعيار هي مصلحة الامة الاسلامية والدعوة للدين الاسلامي العالمي, وليست بالضرورة مصلحة مواطني الدولة السورية. ولا يتقيد الاسلامي بمقولة المواطن السياسية, وانما هو مواطن عالمي. فلا توجد أية شرعية للحدود السورية, ولاتعتبر سورية وطناً من وجهة النظر الاسلاموي.
والقومويون, ومنهم العروبيون, وكان منهم قلّة من الأكراد. فالعروبيون يرفضون القبول بشرعية حدود الدولة السورية التي رسمتها القوى الأجنبية. وبالتالي, لايعتبر العروبي الدولة السورية وطناً له, بل ان انتماءه الوطني هو ما وراء الحدود الاستعمارية للدولة السورية المختلقة. وكل التنظيرات العروبية تخلع الشرعية عن حدود الدولة السورية, وترمي الى بناء مشاريع في ما وراء هذه الحدود.وخير تجسيد لهذه الاطروحات هي الاطروحات البعثية والناصرية ومشتقاتهما.
كما أن سياسة ابعاد الكرد عن الشؤؤن العامة في سورية, أدت بالبعض الى تبني اطروحات ذي توجهات احادية المحور, و الاقتصار على تفعيل الانتماء الكردستاني حصراً. وجرى اهمال التوجيه نحو الاصرار في المطالبة بالمشاركة في امور الدولة السورية المركزية. وتركزجهود الكرد أساساً على المطالبة برفع الغبن عنهم في مناطقهم. كما أن الكردي لايعترف بشرعية الحدود السورية, لأن هذه الحدود قسمت الأكراد وأراضيهم دون رضائهم. ويتبنى الكرد أيضاً, مثل العرب, مشاريع ما وراء الحدود السورية, وذلك لبناء مشروعهم القومي الكردستاني. ومؤخراً, رغم كل أنواع التمييز والاضطهاد المطبقة بحق الشعب الكردي في سورية, يكاد يجمع المثقفون الكرد في سورية على موقف التأكيد على اعادة صياغة العلاقة بين الكرد والعرب وبقية المكونات السكانية السورية, بحيث يشترك الجميع في الحفاظ على وحدة الدولة السورية وتدعيم الروابط الوطنية. ولكن من العروبيين قلّة من يقرأ ويسمع بآذان سورية.
امّا الشيوعيون, بأسمائهم المختلفة, فهم امميون, ولاعبرة للحدود القومية (الدولية) التي تقسم البروليتاريا العالمية. فالبروليتاري لا وطن له حسب تنظيراتهم التي سادت في أسواق سورية منذ الحرب الباردة. وفي التحليل الأخير ليست الدولة الاّ نتيجة من نتائج نمط الانتاج الرأسمالي,وهي هيكلية تعكس علاقات الانتاج البرجوازية المحكومة بالزوال الحتمي.
فلا حرمة شيوعية لحدود الدولة السورية, وسورية لاتوفي بشروط الوطن حسب المعايير الأممية. والشيوعية كالاسلاموية تنظر لوطن عالمي لا يعرف الحدود والدول والأوطان.
ثانياً : الاستراتيجيات التحتوطنية للنخب العربية في سورية
يبدو للمراقبين بأن للانتماءات الطائفية والعشائرية والمناطقية (المحلية) التأثيرالراجح في تحديد السلوك السياسي للنخب العربية وحلفائها في سورية.وتتشكل المجموعات( الشلل) وتنفسخ حسب معايير تأخذ هذه الانتماءات في الاعتبار الأول. والمقصود بحلفاء النخب العربية, هي نخب تلك الجماعات القومية غير العربية وغير الكردية التي تعيش ضمن حدود الدولة السورية دون أن تشكل أغلبية سكانية في احدى أقاليم هذه الدولة, كمثل الأرمن والشركس والكلدوآشوريين والتركمان. فتتم التحلفات وتنفك بين نخب هذه المجموعات القومية من جهة والفصائل المختلفة للنخب العربية  من جهة أخرى حسب القواعد العامة للصراع على السلطة في سورية, المبنية على توازنات القوى الداخلية.ولأن نخب هذه الجماعات القومية غير قادرة, بمفردها, على قيادة الصراع السلطوي, فيبقى دورها تكميلياً, وليس لها سوى أن تلعب دور الحليف لنخب عربية أخرى.
وعندما نخص القول بالنخب العربية وحلفائها في سورية في هذا الموضوع , هو  لاقصاء النخب الكردية عن اطار هذا المقال,  لأن النخب العربية العروبية وحلفائها استطاعت, وبشكل مبرمج, اقصاء الأكراد عن المشاركة في الشؤون السياسية العامة في سورية. ولم يبق لدى الأكراد من كوادر مشاركة في المجموعات المؤثرة في مراكز القرار السياسي السوري, وبشكل خاص في النصف الثاني من القرن العشرين. فالحكم في الجمهورية العربية السورية هو فقط من نصيب النخب العربية, وملحقاتها.
ولأن النخب الكردية مهمّشة ومبعّدة عن المشاركة في القرار السياسي, فليس لديها أي تمثيل  في القوات العســكرية أو القيادات الادارية السيادية تضمها وتحميها وتضمن اعادة انتاجها. ويبقى مصير الشعب الكردي رهينة في يد النخب العربية التي تتعاقب على السلطة وتحتكرها في سورية.
وفي الواقع, تحول الأكراد شعباً ونخبة  الى وضع أشبه بوضع الأسير المجرد, يخضعون لمشيئة النخب العربية حائزة السلطة والقوة العامة. لذلك تضطر النخب الكردية باتجاهاتها المختلفة الى اتباع سياسة الدفاع السلبي, أي الحفاظ على الحد الأدنى من الوجود, وانقاذ ما يمكن انقاذه من الهوية القومية الكردية. ولذلك, كان من المحال أن تعمل النخب الكردية على استلام السلطة المركزية في سورية, ولازالت هذه الاستحالة قائمة في الشروط الحالية لتوازنات القوى. ولم يسمح لها وضعها الدخول بشروط مقبولة في تحالفات مع النخب العربية التي فازت في الصراعات السلطوية.فلذلك تجنبت النخب الكردية الدخول في صراع مفتوح مع السلطات القائمة. وهذا ما يفسر, جزئياً, حـذر النخب العربية المعارضة تجاهها. وهذا ما يفسر أيضاً سبب تهافت  المعارضة العربية للسلطات الحاكمة في سورية على كسب التأييد الكردي, لأنها تعتبره من باب الدعم المجـاني  في صراعاتها السلطوية مع فصائل عربية أخرى.
لأن العمل السياسي, بمعنى المشاركة في الشؤون العامة للبلد محرّم على النخب الكردية, فقد نشطت هذه النخب في المجالات الفكرية والثقافية والفلسفية, وتم تحجيم طاقاتها العملية في المجتمع الى أدنى حد بفعل سياسة القمع التي تتبعها السلطات العربية . ولعدم قدرة النخب الكردية, بحكم الظروف الموضوعية والذاتية, من احراز انجازات ملموسة للشعب الكردي في سورية, لجأت الى المساهمة بشكل فعّال في تبني مشاريع كردستانية ما وراء الحدود السورية, بل تحولت بعضاً من هذه النخب الكردية في سورية, في بعض الفترات, الى سياسيين كردستانيين, يهتمون بالمطالبة بحقوق الكرد في تركية أو العراق أكثر من انشغالهم بالوضع الكردي السوري. والسبب الرئيـس في ذلك, هو الاتفاق المخطط و غير المخطط , المعلن و غير المعلن, بين كـل النخب العربــــــية وحلفائها التي حكمت سورية منذ أواسط الخمسينات من القرن العشرين وحتـى الآن, الاتفاق على سياسة ابعاد الكرد من المشــــاركة في القرار الساسي السوري, وحرمان الشعب الكردي في سورية, كجزء من المكونات السكانية للدولة, من أي حق سياسي.وأصبحت المناطق الكردية البقرة الحلوب للسلطات العربـية في سورية, ومرتعاً للكوادر غير الكردية.
فرغم اختلاف النخب العربية التي تعاقبت على السلطة في سورية, في انتماءاتها المختلفة والمتنوعة, اتفقت جميعها على تهميش الأكراد, وتجريدهم من كل ما قد يؤهلهم في العيش كبقية مواطني الدولة السورية من حيث الحقوق والواجبات. وكل ذلك  بحجة أن للأكراد مشاريع كردستانية خارج حدود الدولة السورية. ولتعارض هذه المشاريع الكردستانية, حسب منطق النخب العربية السورية, مع المشاريع العروبية أو الاسلاموية أو الشيوعية أو غيرها للنخب العربية وحلفائها.فالصراع بين النخب العربية من جهة والنخب الكردية من جهة ثانية هو صراع على أرضية الانتماء القومــي المختلف لسكان الدولة السورية. ولأن قانون القوة يقضي ببقاء وسيادة الأقوى, فتوجبت التضحية بالحق الكردي. ذلك الحق الذي يمس أكثر من 12 % من اجمالي سكان الدولة, اللذين يشكلون الأغلبية المطلقة على اقليم يتجاوز 17% من الاقليم الاجمالي للدولة.
ان اقصاء النخب العربية لممثلي شريحة, كبيرة بهذا الحجم, من السكان ومنعها من المساهمة في ادارة الشؤون العامة يعني  أنها, أي النخب العربية, لا تعترف بالدولة السورية ولا تعتبرها وطناً, وهو دليل ساطع على أن الأساس في الاستراتيجيات التي تبعتها وتتبعها هذه النخب هي استراتيجيات مبنية على انتماءات ومصالح ما دون الوطنية. وسيادة النخب العربية لوحدها واحتكارها للسطة, طعن في شرعية الدولة السورية وانتقاص من طابعها كوطـــن.
اذا كانت النخب العربية متفقة في اقصاء الكرد من الشأن العام السوري, فانها في الوقت نفسه ليست متجانسة, وتنتمي لأسباب تاريخية وجغرافية ودينية الى تجمعات ذات ثقافات ومعتقدات ومناطق ذات مصالح متباينة, وبالتالي هي, ولو بعد اقصاء الكرد, في صراع مســتمر على السلطة. لكن الصراع السلطوي بين النخب العربية هو صراع داخلي يعتمد على الانتماءات والمصالح التحتوطنية للعرب والمتحالفين معهم من الأقليات القومية والمستعربين. و في الحقيقة كل النخب العربية في سورية تتصارع فيما بينها على أساس الاختلاف في الانتماءات الدينية- الطائفية و العشائرية والمناطقية, أي تفتقر النخبة العربية في سورية الى مشروع وطني تدافع عنه, فالدفاع عن الطائفة والعشيرة والمنطقة ينوب عن الدفاع عن ســــــورية الوطـــن-الدولـــة.
ويلاحظ أن الانتماءات الايديولوجية والطبقية والجنسية أو الانتماء المختلف الى الأجيال ليس لها الاّ أدوراً مساعدة وثانوية في تحديد استراتيجيات النخب العربية التي تولت الحكم في سورية, وبشكل واضح منذ بداية النصف الثاني من القرن العشرين.
فلفهم دواعي صراع النخب العربية على السلطة في سورية, وفوز فريق(شــلّة) وانهيار فريق آخر, يتوجب با لدرجة الاولى تحديد الانتماءات الطائفية والمناطقية  لمختلف الشلل المتصارعة, ومن بعد ذلك يمكن  أن يجري البحث عن دور العوامل الخارجية في الحسم المرحلي للصراع وفي انجاز الحدث السياسي الملازم أو اللاحق له.
وعلىالمجتهد ان أراد المزيد من الحقائق أن يبحث في الخلفيات والتبريرات الايديولوجية المعلنة للشخصيات التي تتألف منها الشلل المتصارعة, وعندها سيعود الى نقطة البداية : تنظيرات فوقوطنية من دينية أو قوموية أو شيوعية لتغطية حقيقة السلوكيات المنبعثة من و المستندة على الانتماءات الطائفية أو العشائرية أو المناطقية.
منذ السنوات الاولى من تشكل الدولة السورية وحتى الآن, كل النخب العربية المتصارعة والمتعاقبة على الحكم تبرر مجيئها الى الحكم وتمسكها به, بحجة تحرير مسجد الأقصى الاسلامي في فلســـطين العربية, أو بحجة اقامة الوحدة العربية (المجتمع العربي الاشتراكي الموحــــــد) . وتم استغلال هذه الحجج لاطفاء الشرعية على انقلاباتهم العسكرية, بشكل خاص منذ الستينات من القرن العشرين, التي نجحوا فيها  في كل مرة بفضل تفعيلهم لانتماءاتهم التحتوطنية. ولتغطية سلوكياتهم التفضيلية تجاه أبناء الطائفة أو المنطقة التي ساندتهم في صراعهم مع النخب الأخرى, لجأ الانقلابيون الى اعلان شعارات أكبر من حجهم وأكبر من طاقات سورية, وتظاهروا بالانشغال بالعمل لتحقيق انجازات فوقوطنية, وكل ذلك للتهرب من مهام البناء الوطني, ولعجزهم لمواجهة حقيقة الواقع السوري.
ثالثاً: الولاء الوطني و تعددية الانتماءات
لم تعمل النخب العربية المتنفذة في ســـورية على تنمية الولاء لســــورية كوطن, وتبنيها النظري لمشاريع خارج الحدود السورية, وممارساتها العنصرية تجاه الكرد, والطائفية والعشائرية والمناطقية تجاه بقية سكان الدولة السورية ضعضعت الصيرورة الوطنية للسوريين بمختلف انتماءاتهم. ويكاد يشعر المرء بتواجد وتجاور حذرين لمجموعات بشرية محصورة ضمن حدود قسرية, لارابط بينها سوى خضوعها للفئة المنتصرة في الصراع السلطوي من بين العســـكر.
ان ما لا تفهمه أو لاتريد أن تفهمه النخب العربية المتنفذة في سورية هو امكانية تحويل الدولة السورية الى مشروع وطني. بغض النظر عن كيفية صنع هذا الكيان السياسي, وبغض النظر عن  الشرعية أو عدم الشرعية التاريخية لحدود هذا الكيان الذي تشكل تحت اسم دولة.
ويتم التركيز, ونكرر هنا مرة أخرى, على مواقف النخب العربية لأنها هي التي تحتكر السلطة والسيادة ضمن حدود الدولة السورية. فالنخب الكردية مبعدة كلياً عن المساهمة في تقرير مصير البلاد, ونخب الأقليات الأخرى لاتلعب الاّ دور التابع للنخب العربية.
لقد أصبحت الحدود السورية الموروثة من فرنسة بعد الحرب العالمية الثانية واقعاً سياسياً راسخاً, رغماً عن أغلبية النخب السورية غير الراضية بهذه الحدود. وان الاستمرار في رفض واقع هذه الحدود و عدم التعامل مع هذه الدولة كوطن أدى ويؤدي الى نتائج وخيمة على جميع سكان سورية.
وعندما لا تشــكل الدولة وطناً في مفهوم  فئة (شــلّة) حاكمة, فلا توجد مواطنة ولا مواطنون, فلا مؤسسات ولاقوانين ثابتة, والقوي يأكل المستوي. وكلٌ يريد أن يفعّل انتماءاته الدينية والعشائرية والمناطقية للسيطرة أطول مايمكن واقصاء الآخرين أقصى ما يمكن. بل وتعمل كل فئة من النخب العربية وكأنها هي الوريثة الوحيدة للفرنسـيين.
وان ما لا تفهمه النخب العربية المتنفذة في سورية, ولا تريد أن تفهمه,وان فهمته فانها لاتريد القبول به, هو واقع التعددية في الانتماءات القومية والدينية والمجتمعية لسكان هذه الدولة-الوطن, وما يترتب على ذلك من نتائج وتبعات تجاه المواطنين اللذين هم شركاء في هذا الوطن. فتتصرف كل فئة (شــــلّة) من هذه النخب وكأن هذه الدولة ظاهرة عارضة ومؤقتة على طريق الزحف العربي المقدس او الأمة الاسلامية المقدسة, وأنها لابد وأنها زائلة يوم غد, وما البقاء والخلود الاّ  لله ورسالته, أو للرسالة العربية الخالدة. وبالتالي  ترى هذه النخب بأنه لارابط بينها و بين غيرها من الفئات التي تسكن سورية, وبالتالي لاداعي لأن تتردد في اقصاء ما يمكن اقصاءه من المشاركة في ادارة  و حكم هذا الكيان الوقتي . ولأن كل مفاهيم الشراكة والعقد والأفق المستقبلية معدومة لدى النخب العربية في سورية, فلا يوجد ما يمكن أن يلجم طغيان واستفراد الفئة المنتصرة منها في الصراع على السلطة.
الغريب في أمر النخب العربية التنفذة في سورية, هي أن كل فئة تنكر علانية نصرتها  وتفضيلها لأبناء فئتها الطائفية أو العشائرية أو المناطقية , في حين أن كل فئات هذه النخب لجأت وتلجأ بشكل أو بآخر الى تفعيل انتماءاتها في صراعاتها السلطوية. فالسنة احتكرت السلطة وأبعدت غيرها من الطوائف الأخرى لفترة. والتحالف العلوي السمعولي الدرزي أبعد السنة فترة أخرى, والتحالف العلوي الدرزي أبعد السمعوليون لفترة, وكان دور السنة بارزاً في أحداث السويداء الأولى, في حين كان دور العلويين بارزاً في أحداث السويداء الثانية و في اقصاء الدروز عن الحكم فيما بعد. وكان دور الدروز بارزاً في أحداث حماة الأولى, بينما كان دور العلويين أبرز في أحداث حماة الثانية. وقامت السنة بأغتيال العلويين المقربين للسلطة. كل ســـوري يدّعي بأنه لايردد هذه المقولات أو لايسمعها في مجالسه الخاصة يتهرب من الاعتراف بالحقيقة التي تعرّيه. وقلّما يتذكر مثقفو السلطات العربية ومستشاروها وكوادرها العســـكرية الدور الايجابي لتعددية الانتماءات لسكان سورية, ولم يضعوا في أولويات سياساتهم البحث عن سبل التفعيل الأمثل لهذه التعددية من أجل اشادة وحدة وطنية متينة, والسبب في ذلك, هو أنهم تربوا على شعارات وتنظيرات فوقوطنية, واعتادوا الاستمرار في الاعتماد على انتماءاتهم التحتوطنية, فلا يرون في سورية وطناً لهم ولا في السوريين مواطنين شركاء.
فبالخطاب العلني كلنا “مواطـنون- باستثناء بعض الأكراد” عـــرب ســـوريون “الحمد لله” , وفي الحقيقة نحن عرب وأكراد وأرمن وسريان وشراكس وكلدانيون وآشوريون, وكل من هؤلاء عشائر وقبائل متنوعة. و نحن سنة وعلويون واسماعيليون ودروز ومسيحيون, وكل من هؤلاء طوائف ومذاهب متنوعة. ونحن شــوام وحلبيون وحورانيون وديريون ووو. وعســكرنا هم حماة الديار”وليس حماة السلطة”. ووطننا هو عــرين العروبة”وليس البيت السوري الذي يسع لكل أبنائه”. وندافع عن عرش الشموس حمى لايضام” وليس سلطة الشعوب”. و قلنا جميعاً  آلاف المرات: أبت أن تذل النفوس الكرام, والأغلبية من السكان في سورية دوماً كانت مهانة بشكل أو بآخر.
وهذا البون الشاسع بين الخطاب والممارسة عند النخب العربية السورية, يعرّيها من كل مصداقية ومشروعية, ويسلبها أهم أسباب القدرة في حلّ المسائل المتعلقة بالسلم الاجتماعي الوطني و المتعلقة بالدفاع عن استمرارية عرى الوطنية وتمتينها بين سكان سورية الوطن – الدولة.
لا تعني الوطنية انكار الذات ولا انكار الآخرين. فان الانتماءات القومية والدينية وما دونهما من تركيبات مجتمعية معطيات متوارثة بحكم الطبيعة. ومن يعترض على انتمائه أو انتماء غيره انه كمن يعترض على وجود الشمس والقمر. ولا فضل لأحد في انتمائه الى هذه القومية أو تلك, أو الى هذه الطائفة أو تلك, أو الى هذه المنطقة أو البلدة أو تلك, و لاينتقص من قيمة أحد انتماءاته تلك, الاّ اذا استغلها للانتقاص من قيمة الآخرين والاعتداء على حقوقهم, ولاسيما اللذين يحق لهم مشاركته في ممارسة حقوق  وواجبات المواطنة المنبثقة من الانتساب المشــترك الى الوطن.
فالوطن, كهيكلية سياسية, يتجسد بمضامين ملموسة وعاؤها الاقليم ومحتوياته (الأرض والسماء والمياه), وبمضامين معنوية يلخصها البعض بالبنى الفوقية, و مجمل المفاهيم(الثقافات والأعراف) الجماعية و الحقوق والواجبات المنبثقة عن مفهوم الشراكة والتي تجعل من المواطنين هيئة ومؤسسة, فضلاً عن ما تسمى بالرموز من روايات حقيقية أو اسطورية تنمي الشعور بقدم الشراكة للمواطنين وتحمسهم لمتابعتها وربما لتحسينها في المستقبل.

ان اللجوء الى التظاهر الطوعي أو القسري بالتخلي عن الانتماءات القومية والطائفية والعشائرية والمناطقية, يخفي غالباً رغبات أو أفعال  لاوطنية مستندة الى تفعيل هذه الانتماءات بالذات. ويؤدي الى خلق التكتلات والتكتلات المضادة في الظلام, (وحلال عالشاطر والأقوى في دولة كل من ايدو الو) وعلى الوطــن الخراب وعلى المواطن السلام في السجن أوفي الحرمان أوربما في المهجر.
ان اجبار الناس  على التظاهر في التخلي وفي تغيير الانتماءات ليس الاسلوب الناجع في حلّ المعضلات التي يمكن أن تطرحها حقيقة تعددية الانتماءات القومية والطائفية والولاءات المناطقية في سورية. ان أهم ما في الوجود هو الانســان. وكل التنظيرات والاجتهادادات يجب أن تجعل من الانســان ومن تحسين أوضاعه المادية والمعنوية المحور الأســاسي والهدف الأســمى. ويجب استبعاد أي اقتراح  وأية سياسة تنتقص من القيمه الانسانية. واتباع سياسة نكران الانتماء المجتمعي  قسراً, والتظاهر نفاقاً بخلاف الواقع يدل على نفي مفهوم المواطنة المشتركة لدى النخب العربية المتنفذة  في سورية.
ان تعددية الانتماءات كواقع لايتنافى مع مفهوم الوطن والولاء له. وان رفض النخبة المتنفذة التعامل مع الكيان السوري كوطــن, والاستمرار في طرح مشــاريعها التي تتجاوز حدود الدولة الســوري, والاستمرار في الاعتماد على انتماءاتها الطائفية والعشائرية والمناطقية لاحتكار السلطة ولتنمية تفتت التماسك بين المواطنين, وتحويل الولاء للوطن  الى الولاء للطائفة أو الشـلّة, ستفقد هذه النخبة امكانية الاعتماد علىالتماسك الوطني الضروري بحده الأدنى لمواجهة التحديات الدولية التي قد تضع سلطتها في الرهان, وتضع وجود ســــــــورية الوطن-الدولة ومصير المواطنين في كف عفريت.
رابعاً: فشل المركزية وقصور الاصلاحات الداخلية
شاءت التوازنات في علاقات القوى الدولية بعد الحرب العالمية الثانية أن تخلق دولة تسمى سورية. تضم هذه الدولة في حدودها مناطق آهلة بمجموعات بشرية ذات انتماءات قومية ومذهبية متميايزة.
لقد نما الولاء لهذه الانتماءات القومية والمذهبية والمناطقية, بعكس الخطب العلنية للنخب السورية. وأول دليل على ذلك, هو اعتماد الكوادر السياسية والعسكرية على هذه الانتماءات في صراعاتها من أجل الاستيلاء على السلطة أو الاحتفاظ عليها. أمّا ما تعلنه هذه النخب من برامج وايديولوجيات فما هي الاّ تقليد رديئ لنخب دول متقدمة. والدليل الآخر هو دعوة هذه النخب لمشاريع سياسية ولبناء أوطان قومية أو مذهبية في ما وراء الحدود السورية.
عملت كل المجموعات, الشلل, التي استلمت ذمام الامور في سورية الى تفضيل المجموعات القومية والمذهبية والمناطقية التي تنتمي اليها. وبالنتيجة مارست, قدر استطاعتها, سياسة اقصاء الآخرين من المساهمة في تقرير مصير البلاد.
ورغماً عن عدم وجود توجه عام  لبناء مشروع وطني سوري لدى النخب العربية في سورية, حافظت الدولة السورية على حدودها الدولية التي ورثتها من الفرنسيين (باستثناء الجولان).
يعود سبب بقاء اقليم الدولة السورية موحداً لما يقارب من ستين عامأ الى عاملين رئيسيين:
1-العامل الخارجي: اذ لم تسمح الظروف الدولية, الموسومة بآثار و بشروط الحرب الباردة, من احداث تغييرات في الخارطة السياسية في الشرق الأوسط. وبذلك حافظت كل دول المنطقة, ومن ضمنها سورية, بوحدة اقليمها, باستثناء فترة الوحدة السياسية بين سورية ومصر 1958-1961. أمّا الآن فيبدو بأن هذا العامل الخارجي لم يعد في مصلحة الوضع القائم. فاضطرت الحكومة السورية للاعتراف بالحدود مع تركية(تنازلت عن الادعاء بالانتماء السوري للواء اسكندرون) , واضطرت الحكومة أيضاً لقبول تنازلات لصالح الادعاءات الاردنية في بعض من الأراضي السورية. وتجدر الاشارة بأنه عندما تم تنصيب عبد الله بن الحسين لم يكن يوجد من بين الاردنيين عناصر مؤهلة لشغل كل المناصب الوزارية,  ففي أول حكومة اردنية كان من مجموع سبعة وزراء خمسة من السوريين.
2-العامل الداخلي: يبدو أن دور العوامل الداخلية كان على جانب كبير من الأهمية في قدرة الدولة السورية في الاحتفاظ بحدودها الدولية (باستثناء الجولان). فما على السوريين الاّ البحث عن ما يجمعهم, وتفعيل كل العوامل التي تساهم في ترميم البيت السوري,والتضامن الوطني.
وكان قد سبق وأن لاحظ الفرنسيون بضرورة توحيد الدويلات السورية الأربعة(دولة جبل الدروز, ودولة جبل العلويين, دولة دمشق و ودولة حلب) في دولة واحدة,والحقت بها المناطق الكردية التي كانت خاضعة للادارة الفرنسية المباشرة. وكان هذا التوحيد مبنياً على كثير من الاعتبارات, من بينها سهولة الادارة والتكامل الاقتصادي.
وبعد خروج الفرنسيين, ورغم الصراعات السلطوية التناحرية بين النخب العربية على أرضية الانتماءات الطائفية والمناطقية, لم تر أية من هذه النخب المتنفذة في الانفصال مصلحة لها أو لمن تعتقد أنها تمثلهم. لأن كل نخبة كانت تحاول الفوز بكل القرار السوري وبالتالي نيل السلطة على كل المناطق السورية, وليس على المنطقة التي يستمد قوته وتأييده منها.
ومنذ أن أصبح الفكر العروبي  الايديولوجية الرسمية في سورية, تم البدء ببرمجة اضطهاد الأكراد واقصائهم من مراكز القرار السياسي في البلاد. والصراع على السلطة والتمتع بامتيازاتها وسلبياتها بقي حكراً على النخب العربية. فلجا الكرد الى المطالبة بالاعتراف بوجودهم القومي, وطالبوا السلطات المركزية سلمياً بحقوقهم القومية والثقافية. ولم ير الكرد ونخبتهم السياسية مصلحة في المطالبة بالانفصال عن الدولة السورية القائمة, رغم تهميشهم و محاولة مسخ وجودهم وتغيير المعالم التاريخية في مناطقهم واهمال المرافق فيها.
ورغم استبعاد الكوادر الدرزية العسكرية العليا من الأوساط القيادية بعد محاولة سليم حاطوم الفاشلة, فقد رفض أغلب وجهاء الدروز مشروع تأسيس دولة درزية بمساعدة اسرائيلية في نهاية 1967.
وفي الحالة الكردية في الشمال, كالحال الدرزية في الجنوب, تم الحفاظ على الانتماء السوري الى جانب الانتماءات الأخرى التي تتجاوز هذه الحدود. فالامتداد الدرزي في لبنان يعطي الادارة السياسية السورية ورقة اضافية في سبيل تقوية الدولة السورية. وكذلك الامتداد الكردي في تركية والعراق وأيران يمكن أن يشكل عمقا استراتيجياً للدولة السورية عندما تتحول هذه الدولة الى وطن لكل السوريين.
فما عدا الثروة الثقافية العظيمة التي يملكها السوريون نتيجة تعدد اللغات والعادات والمعتقدات المذهبية, تنوع الثروات الطبيعية والطاقات المهنية لمختلف المناطق السورية يعطيها امكانية كبيرة في تنمية قدرات الدولة-الوطن, وتزيد من امكانية ارتباط السوري بأرضه ووطنه. ولكن بسبب  طبيعة هيكلية الدولة, وكيفية تدوال الحكم, حتى الآن لم يتم الاستخدام الأمثل للامكانات الوطنية. وبدلاً من تنمية الولاء للوطن يتم التشجيع, بشكل أو بآخر, للولاء الطائفي والمناطقي.
ان انشاء مؤسسات شكلية ذات طابع مركزي على غرار بعض الدول الغربية ذوات النظم المركزية, مثل البرلمان ومجلس الوزراء والمجلس  والاقتصادي والاجتماعي ووو… والاقدام على اجراء عمليات أمنية استعلامية واعلامية تحت تسمية الانتخابات, لا يحول النظام الى نظام ديموقراطي.
لقد أثبتت التجربة التاريخية للدولة السورية بأن نظام الحكم المركزي لايتلاءم والتعددية القومية والطائفية في الحالة السورية. واذا كان هذا الشكل من الحكم قد صمد ردحاً من الزمن فانه لن يصمد الى الأبد, لأنه ليس من الممكن أن يستمر اقصاء رأي أغلبية السكان من المشاركة في الشأن العام لحساب الحزب القائد. وليس من الممكن الاستمرار في انكار وجود قسم كبير من سكان الدولة لمجرد أنهم مجردون من أية قوة في السلك العسكري. وليس من الممكن اقصاء الآخرين من السوريين لمجرد أن نخبهم العسكرية خسرت معركة الصراع على السلطة يوماً.
السؤال الأول الذي يطرح نفسه هو كيف يمكن أن تكون الدولة السورية كي يشعر كل سوري بانتمائه اليها, مهما كان انتماءه القومي أو الطائفي أو المناطقي؟.
لقد فشل الشكل المركزي للدولة لتحويل سورية الى وطن لكل السكان, الى درجة أن السلطات الرسمية لاتنكر ذلك, بل سحبت رسمياً المواطنة من قسم من السكان الأكراد. وفي بعض الدول لعب الجيش دوراً مهماً في عملية الدمج الوطني, لكن في سورية يعلم الجميع أن الأمر بعكس ذلك, اذ ساعد الجيش على تعزيز الانتماءات التحتوطنية. والتعليم أيضاً لم يستطع دعم الولاء الوطني السوري. ووسائل المواصلات والاتصالات والصحافة المرئية والسمعية في ظل الحكومات العربية في سورية لم تستطع تطوير الولاء الوطني. ولا الدساتير المستوردة و المعلقة ولا قوانين الطوارئ الشبه دائمة قادرة على شد الانسان السوري الى الدولة التي يخضع اليها. فمن ليست له كلمة في تحديد مصيره ومصير بلاده لن يشعر بأنه مواطن, و لايمكن مطالبة غير المواطن بالولاء للوطن.
لقد كثر الحديث عن مشاريع اصلاحية للواقع السياسي السوري, منها من داخل الجهاز الحاكم ومنها من خارجه, ومنها محاولات اجتهادية جادة ومنها دعوات حق يراد بها باطل, ولكن  لم تتخط جميعها البنية  الهيكلية لنمط الدولة الحالية في سورية. فأغلب المنادين بالاصلاح من داخل الجهاز, يركزون جهودهم على محاولة الاصلاحات الادارية. بينما ينادي الاصلاحيون من خارج الجهاز بضرورة رفع الأحكام العرفية, وحرية الانتخابات, وحرية الصحافة ووو …والاعتراف بالتعددية القومية والسياسية.
ان الثابت هو أن كل الأنظمة الحاكمة تحاول تحسين الاداء الوظيفي لأجهزتها الادارية وبما يتوافق مع ضرورة ديمومة النظام القائم وتحسينه لتمتينه. وهذا القول ينطبق على النظام السوري أيضاً, ونجزم بأن الاصلاحات الادارية في سورية كان موضوع السؤال الرئيس في امتحان مقرر العلوم الادارية  لطلبة دبلوم الدراسات العليا في عام 1982,وكان من بين الطلبة المتابعين في هذه الدراسة ( العدد الاجمالي11 طالباً)  عدد لابأس منهم من المسؤولين الاداريين , وضباط قادة, ووزير الدولة لشؤون مجلس الشعب في حينه, و سعادة سفير سورية الحالي في الاردن. وبكل تأكيد استاذ العلوم الادارية في كلية الحقوق في دمشق عبد الله طلبه عندما استلم وزارة العدل لم ينس ما كان يكتبه عن مساوئ الادارة قبل ذلك. وبالمقابل عندما استلم  حســـــــــين حســــــــون وزارة العدل لم ينـس مساهمته الفعالة في نشر الفســـــــاد في الجزيرة عندما كان يحكمها بصفة محافظ قبل أن يرســـــــــــب في دبلوم القانون العام في كلية الحقوق عام 1984. وهذان نموذجان لرجلين تقلدا مســـــؤولية العدالة في وطننا السوري, فالأول عالم بالمفاسد قبل الولاية والثاني فاسد ومفسد قبل الولاية, فما فادت خبرتهما قضية تطوير العدالة واصلاحها؟.  لنترك خيار الاصلاح من داخل الجهاز لجهود الاصلاحيين, لكنه من المؤكد بأن سقف الاصلاحات المنشودة لاتصل الى الأهداف المأمولة من قبل كل وطني غيور. ولا بد وأن السيد رئيس الدولة بنفسه يدرك عدم فعالية الاصلاحات الادارية أو على الأقل عدم كفايتها لترميم وتعزيز الوحدة الوطنية, ولرفع الاداء السياسي والاقتصادي للبلد الى المستوى الأمثل.
خامساً: الاصلاحيون  في سورية
لقد أصبح الادعاء بالاصلاح هو القاسم المشترك بين الساعين لترميم النظام ولحماية الطاقم القيادي في السلطة, وبين اللاهثين لانتزاع العرش والاستيلاء على القرار السياسي في سورية.
أولاً:الاصلاح لترميم النظام القائم
ان  دعوات الاصلاح الاداري لجهاز الدولة التي كانت ولا تزال تطلق من داخل السلطة لاتتجاوز حدود  طبيعة النظام السياسي القائم في سورية, وتهدف أساساً الى ترقيع الشبكات التي تأمن بالدرجة الاولى استمرارية أوضاع  ومواقع المتنفذين المتمسكين بالمفاصل الأساسية في الجهاز العسكري والاداري وشركائهم من خارج آلة السلطة مثل بعض التجار ورجال الأعمال. وينتمي الاصلاحيون من أجل السلطة الى عدة فئات, فمنهم من هم في عداد المسجلين في حزب البعث, ومنهم من هم من المتنفذين من كبار العسكر وأولادهم وشركائهم, ويلحق بهم المنتفعون الاداريون وأولادهم وشركائهم.
ومجموعات سياسية انتفاعية أخرى تجد مصيرها مرهوناً  بمصير السلطة القائمة, وتتأثر نسبياً بما يطرأ من تغييرات على أوضاعها, ولها مصلحة في تحسين الاداء الوظيفي لأجهزة السلطة القائمة. وتطالب هذه المجموعات الانتفاعية بالاصلاحات التي قد تؤدي الى تحسين شروط انتفاعاتها والحصول على المزيد من المناصب والمكاسب, لها ولأتباعها, على أطراف السلطة. ومن هذه المجموعات أحزاب الجبهة الوطنية التقدمية التي  تستظل بقيادة حزب البعث العربي الاشتراكي وتسير في مداراته.
ويمكن تسمية دعاة الاصلاح من داخل النظام بالاصلاحيين من أجل السلطة, لأن غايتهم الأساسية هي ترميم  وترسيخ ادارة السلطة القائمة وتمتينها  لمقاومة التحديات والتهديدات الآتبة من خارج السلطة بشكل أساسي. وفي نظر دعاة هذا الاتجاه الاصلاحي, يمكن تبرير التنازلات أمام التحديات الخارجية ما دام ذلك يقلل من خطر التحديات الداخلية, ومادام ذلك يطيل من ولاية الطاقم القيادي في السلطة ويسمح له بالتقاط أنفاسه وبترميم شبكاته المهترئة بالاستهلاك.
ان من دواعي العجب أن الكوادر التي تدعي الاصلاحية في السلطة السورية والمجموعات الملحقة بهم, تعي حالتها المتخمة في الخمول, وتراها عاجزة عن ايجاد الوسائل و الاجراءات التي قد تطور الاداء الوظيفي للأجهزة التي تديرها, ومع ذلك, ولذلك, فهي غير قادرة على الاستفادة من المؤهلات الوطنية حتى وان كان الأمر لمصلحتها. فنرى كيف أنها, أي كوادر القيادة السورية, تلجأ  الى خبراء أجانب لتشخيص المفاسد الادارية في الأجهزة الحكومية السورية. ان هذه الكوادر الحكومية تريد أن تتانسى بأن هذه الممارسات التي تسميها بالمفاسد هي أساساً من صنع عناصر سورية لها مواقع وظيفية ضمن آلة النظام المتكاملة, فاذا ما تغيرت هذه الممارسات”بالاصلاحات” فستصيب الآلة في مجملها بالخلل والعطب. و لا تجدي المساعي المستمرة في محاولة ترقيع بساط السلطة لتمكين المتمسكين  بذمام الامور في الاستمرار في مراكزهم. فالنظام السياسي المركزي الحالي ومؤسساته المعطوبة. لا يتناسب مع واقع التعددية القومية والمذهبية في سورية, ولا يلبي مستلزمات الوحدة الوطنية المنية على المشاركة المتكافئة لكل السوريين في صنع القرار وتنفيذه.
ان الاستفادة من الخبرات الأجنبية بما يتناسب وظروف البلاد ليست مستهجنة بحد ذاتهاً, وخاصة اذا كان الأمر متعلقاً بمجالات تقنية أو علمية تتجاوز الامكانات الوطنية. واللجوء الى الأجنبي لمعرفة عيوب الذات, في حالة الادارة السورية, دليل ساطع على عدم توفر الكفاءة في تولي الامور العامة من قبل القيّمين على الشؤون العامة ومحيطهم الاستشاري.

ليكن الأمر واضحاً. هل يريد المنادون بالاصلاح, تقوية مرتكزاتهم, وتلبية مستلزمات أربابهم؟ أم أن الهدف هو ايجاد آلية تقود البلاد الى اشادة نظام سياسي يجمع بين الفعالية في الاداء والمشاركة الواسعة لكل المواطنين في شؤون الوطن؟. يبدو أن  الغلبة هو لأنصار الخيار الأول, رغم ارتعاش كراسيهم في الاونة الأخيرة. ويبدو أن مجال التحرك الجدي, من داخل السلطة, شبه مسدود أمام أنصار تغيير جذري لبنية النظام السياسي القائم.
ثانياُ: الاصلاح كسلاح لغزو السلطة
ويكثر التحدث عن الاصلاح في سورية من قبل المتنفذين السابقين وأولادهم وشركائهم الذين فقدوا مراكزهم القيادية في السياسة والجاه  و/أو في الاقتصاد. فبعد أن استفادوا من مراكزهم العسكرية أو السياسية واستغلوا أجهزة الدولة واستغنوا على حساب المصلحة الوطنية, ومارسوا أو ساهموا في ممارسة القمع و الاضطهاد واقصاء الآخرين, انقلبوا الى  دعاة متحمسين للديموقراطية والتعددية والعدالة الاجتماعية وحقوق الانسان, والى ما شابه ذلك من شعارات تدغدغ مشاعر المغبونين والمضطهدين من أبناء الوطن.
ولمحاولة استعادة مراكزهم أو مراكز آبائهم المفقودة يلجأون في الغالب الى ايجادة تبريرات والتخبؤ وراء مرجعيات  نظرية وايديولوجية من عروبية واسلاموية أو أممية أو حقوق انسان, وماشابه ذلك من السلع الجاهزة, التي تجد لها في أيامنا رواجاً في الداخل والخارج.
ويختفي وراء هذه الشعارات في الغالب هدف النخب السياسية العربية المعارضة للسلطة القائمة في ازاحة الحكم الحالي والاستيلاء على السلطة.  وما أن تستولي على الحكم,ان شاءت الظروف الطائفية والمحلية والاقليمية والدولية, ستسعى الى ترسيخ سلطتها و اقصاء ما أمكن اقصاءه , مبتدئين كالعادة بالأكراد, وان استدعى ذلك القمع الذي تعود عليه السوريون.
فالنخب العربية في سورية, بما فيها الفصائل التي تعارض الحكم الحالي, معروفة بانتماءاتها وسوابقها التاريخية, وخاصة ممارساتها الاقصائية المبنية على العنصرية والطائفية والاقليمية والفئوية. ومشاريعها المعلنة لاتوحي بأنها ناضجة وحاملة لمستقبل مشرق لوطن سوري يشعر فيه كل السوريون بأنهم شركاء.
ألم يشارك الناصريون في انقلاب البعث؟, وألم يكن الدكتور جمال الدين الأتاسي بالذات أحد وزرائهم؟. ألم يكن منظر حزب العمال الثوري ياسين الحافظ هو بالذات منظراً لحزب البعث بامتياز؟. ألم تشارك جماعة الاخوان المسلمين حزب البعث في حكومة بشير العظمة؟.  ألم يشارك الشيوعيون حزب البعث الحاكم؟. ألا يتذكر السوريون عهد أمين الحافظ ومن ثم الشباطيين من البعثيين المنادين بالديموقراطية؟ وأي من هذه التنظيمات العربية يقر بحق الأكراد والأرمن والشركس والتركمان والكلدو-آشوريين في ممارسة حقوقهم القومية كاملة؟. وأي تنظيم من هذه التنظيمات تقر وستسمح  لكل الطوائف الدينية والمذهبية بالتعبير الحر عن معتقداتها وبممارستها دون اضطهاد؟. وأي تنظيم سيسمح لكل المناطق السورية أن تدير بحرية أمورها المحلية, وأن تسمح لها بالمشاركة في القرار السياسي المركزي  ضمن اطار الوحدة الوطنية ؟
كل من يريد أن يفحص مدى  جدية ووطنية التنظيمات والشخصيات المنادية بالاصلاح والديموقراطية في سورية, عليه الرجوع الى التاريخ والى ممارسات ومواقف هذه التنظيمات والشخصيات  تجاه الوحدة الوطنية. تلك الوحدة الوطنية المبنية على الاعتراف بواقع تعددية الانتماءات القومية والمذهبية لمواطني الدولة السورية. تلك الوحدة التي يجب أن تتجسد في ممارسة كل مواطن لحقوقه التامة دون تمييز أو اقصاء.
بكل أسف رغم كثرة المشاريع التي تتنافس التنظيمات السياسية العربية هذه الأيام على نشرها على القارئين, لايوجد مشروع جريئ يطرح هيكلية جديدة ومؤسسات سياسية وادارية جديدة تتناسب وواقع الوطن السوري. لانجد من يطرح صراحة اشادة نظام يحمي وحدة الوطن ويكفل حرية ممارسة الحقوق القومية والمذهبية لجميع المواطنين. ذلك النظام الذي يسمح لأبناء جميع مناطق البلاد المساهمة في اشادة وقيادة سلطة وطنية ديموقراطية ومتينة.
فالكل في المعارضة, أو تقريباً, ينادون في مشاريعهم برحيل الحاكم للجلوس مكانه. وهذه النداءات أحياناً تأتي بصيغ مختلفة, لكنها مشتركة في عدم طرحها لنظام سياسي بديل يعيد هيكلة شكل الدولة ومؤسساتها. وتقتصر المشاريع المعلنة على اطروحات تتعلق بتعديلات في ممارسة السلطة داخل النظام الحالي ولاتمس هيكلية نظام الدولة المركزي. فلتكن المعارضة العربية السورية صريحة أكثر. هل الهدف هو العمل نحو نظام سياسي أفضل؟ أم الهدف هو تغيير حاكم بحاكم؟. ويبدو أن الغلبة هو لأنصار الخيار الثاني.
سادساً: غياب مشروع وطني سوري:
لقد ثبت فشل محاولات تكييف الواقع السوري, بمحتوياته الثقافية و بمكوناته الاقتصادية و الجغرافية, واختزاله قسراً لما يتناسب مع مفهوم الدولة المركزية ومؤسساتها المفروضة على إقليم الدولة.
عندما حكم الأمير فيصل بن الحسين سورية(1918-1920وجد بأن تعددية الانتماءات في سورية تفرض نظاماً لامركزياً للدولة السورية, ولذلك فقد أعدّ دستوراً  قسّم بموجبه سورية إلى مقاطعات ذات حكم محلي. و بعد الاحتلال الفرنسي, تم إنشاء أربعة دول في سورية الحالية, ولم توّحد هذه الدول في إطار مركزي إلا قبيل خروج الفرنسيين من سورية.
لقد سعت النخب السورية التي ورثت الدولة, في بادئ الأمر, الحفاظ على الشكل المركزي للحكم, ومحاولة محاكاة مؤسسات الدول الغربية وخاصة الفرنسية منها. إلا أن هذه النخب فشلت في إضفاء الشرعية الوطنية على الدولة, أي أنها فشلت في تحويل الدولة السورية إلى مشروع وطن, وبالتالي تحويل الرعايا الخاضعين لسلطتها إلى مواطنين. فلم تتحول الدولة إلى وطن ولم يتحول الفرد إلى مواطن.
و أثبت تاريخ النخب العربية السورية التي استفردت بالحكم, فشلها في زج السوريين في الحياة السياسية للمشاركة في تقرير مصير البلاد. إذ أن كل فئة من هذه النخب العربية عملت على الاستفراد بالحكم معتمدة أساساً على انتماءاتها الدينية والمذهبية والمناطقية.
بعد قيام الجمهورية العربية المتحدة, تم إجهاض قانون التنظيمات الإدارية السوري لعام 1957 , والذي كان يشرّع لبداية نموذج متواضع لللامركزية الإدارية في سورية. ويعتبر انضمام سورية إلى مصر في 1958, بداية لحركة التسارع في تراجع المشروع الوطني السوري, وعاملاً فعّالاً في تنشيط الصراعات المناطقية والدينية والمذهبية لدى النخب السورية.
في عهد الوحدة, ساد العرب السنة على أغلب المراكز القيادية في الإدارة والحكم في الإقليم الشمالي(سورية). وفي بادئ الأمر, بعد انفصال سورية عن مصر, استأثر العرب السنّة الشوام حصراً بالحكم, وتم إقصاء غيرهم بالقوة.
فانتعشت الروح المعادية للكرد, وتفاقمت التناقضات في المصالح بين الشاميين (سكان دمشق) والحلبيين (سكان حلب), و بين المسلمين وغيرهم من أتباع الديانات الأخرى. وكبرت حدة  الصراع بين السنة من جهة, وغيرهم من المسلمين من جهة أخرى. وتوزّع جغرافياً هذا الصراع بين كل المكونات السكانية في سورية. لأن الأكراد يسودون في الشمال,و العلويين في الغرب, والسنة في الداخل, والدروز في الجنوب, والاسماعيليين في مناطق تمركزهم. ولأن حلب تغار من دمشق وتنافسها منذ ما ندري. ولأنّه يعتبر البعض بأن الكلدو-آشوريين من شهود أصالتنا المشتركة, في حين ينكر عليهم آخرون حق ممارسة ثقافتهم ومعتقداتهم. ولأنّ و لأنّ في كل منطقة وجماعة أنّة على مناطق وجماعات أخرى, فهناك الكثير من العوامل التي تبعث التوتر بين المكونات المختلفة بين المناطق والجماعات السورية المختلفة.
وبعد استيلاء البعث على الحكم في 1963, زاد دور النخب العربية غير السنية في المراكز القيادية. وأصبحت العروبية العقيدة الرسمية للبلاد. وأصبحت السلطات الرسمية لا تخفي طبيعتها العنصرية تجاه الأكراد السوريين. وبدأت مرحلة جديدة اتسمت بتمركز السلطات بيد الأجهزة  المتمركزة في العاصمة, وخاصة الجهات العسكرية والأمنية منها. وضعفت هوامش المبادرة لدى السلطات المحلية في أطراف البلاد. كما أن النخب المسيطرة كانت تتبع دوماً سياسة تفضيل الفئة التي تستند عليها إقليميا و/أو طائفياً, مما كان ولازال يضعضع الوحدة الوطنية السورية, و يضعف البلاد تجاه التحديات الخارجية. فالمركزية المفرطة في ممارسة الحكم في سورية هي في الاتجاه المعاكس تماماً لطبيعة التركيبة التعددية للمجتمع السوري.
ويبدو أن الرئيس السوري الراحل حافظ الأسد شعر بأن المركزية في الإدارة السورية مفرطة ومبالغ فيها فلجأ إلى إصدار قانون الإدارة المحلية, الذي لم يطبق بشكل كامل رغم عدم كفايته كإطار تشريعي للمشاركة الشعبية في الشأن العام الوطني. ومنظرو الحكام يرون بأن الضرورات السلطوية هي التي تبرر لهم  في متابعة الاستمرارية في نظام الحكم المركزي في سورية, في حين المركزية الزائدة تشلّ المبادرة وتعرقل سائر أمور الحياة حتى في الدول التي لا توجد فيها تعدديات قومية أو طائفية أو مناطقية.
ويرجع كثير من المؤرخين سبب ضعف الإمبراطورية العثمانية إلى إجراءات (الإصلاحية) المركزة الإدارية التي باشرت بها في بداية النصف الثاني من القرن التاسع عشر. فالمركزة في السلطات تثير حفيظة السكان, وتستفز القادة المحليين الذين يجدون في نفسهم الكفاءة والقدرة والرغبة في خدمة الصالح العام في مناطقهم. وهو أقرب إلى الديمقراطية التي يتغنى بها الجميع  بحق أو بباطل.
لقد أثبت تاريخ الدولة السورية ومؤسساتها الموروثة من الفرنسيين, بأنها غير متناسبة مع واقع التعدد القومي والديني والمذهبي. ورغم ممارسة العنف, لم تستطع هذه الدولة ومؤسساتها التأقلم في الجو الاقتصادي والثقافي الذي فرضت فيه.
ويبدو أن كل النخب السورية, في السلطة وخارجها, متفقة على فشل النظام السياسي الحالي لاداء مهام التنميتين السياسية والاقتصادية. وهي متفقة أيضاً على ضرورة القيام بإجراءات إصلاحية. ولكن تختلف هذه النخب حول طبيعة هذه الإصلاحات وآليتها وتوقيتها.
فالنخبة الإصلاحية من داخل السلطة, تحاول ترميم النظام, بما لا يهدد مراكزها السلطوية, وبما يحسّن مظهرها الخارجي, ويرفع من وتيرة أدائها الوظيفي. ومن خارج السلطة, يتفق أغلب دعاة الإصلاح على بعض المطالب التي من شأنها إعادتهم إلى الحياة السياسية, مثل رفع حالة الطوارئ المعلنة في البلاد منذ 1963, وإطلاق سراح السجناء السياسيين, وترخيص الأحزاب السياسية, والسماح بإجراء انتخابات حرّة. ويضيف أغلب الأكراد إلى ذلك ضرورة إلغاء القوانين والإجراءات المجحفة بحقهم, والسماح لهم بممارسة الحقوق المنبثقة من خصوصيتهم القومية. فكل المطالب الإصلاحية لا تتجاوز بنية المؤسسات القائمة وإنما تتعلق بأداء هذه المؤسسات وتطويرها.
ولذلك لا نجد في الساحة السورية أي برنامج وطني سوري يطرح مشروعاً متكاملاً لبناء هيكلية سياسية تتناسب مع واقع التعددية القومية والدينية ضمن الحدود السورية.

http://www.gemyakurda.net/modules.php?name=News&file=article&sid=10153

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى