صفحات ثقافية

دعد حداد التي رضعت الحياةَ من ثدي الموت الجاف

null
محمود الحاج محمد
بهدوءِ زهرة نبتت على جانب طريق، وذبلت دون أن تثير صخباً ما؛ ولدت الشاعرة السورية دعد حداد في اللاذقية عام 1937، وتوفيت في دمشق عام 1991، تاركةً ثلاث مجموعات شعرية، والكثير من الكتب والكتابات، المنشورة وغير المنشورة، في مجالات أخرى.
بدأت دعد حداد حياتها في بيت يهتمّ بالأدب والفنّ، وكانت تقرأ بغزارة في صباها، لتبدأ، بعد هذه القراءات، كتابةَ الشعر الموزون، ومن ثمّ النثر،كما أغلب معاصريها؛ «كتبتُ الشعر باكراً وبدأت بالشعر الكلاسيكي المقفّى، ثم تحرَّرت من بحور الشعر والأوزان، واتجهت صوب الشعر الحر… أحياناً أكتبُ الشعر المقفّى لكن لا أعرف كيف يتحوَّل إلى قصيدة نثر!».
في عام 1981 صدر عملها الشعري الأوّل «تصحيح خطأ الموت»، الذي جاء كردّ فعل على موتِ أختها الشاعرة نبيهة حداد، المكتنزة السمراء، كما تقول دعد في قصيدة لها تحمل عنوان المجموعة نفسه: «مكتنزة سمراء/ شدَّت قامتها كجذع شجرة مقطوع/ ورفعت رأسها نحو السقف الأبيض بلطف/ وابتسمت/ ثم…/ غابت/ في غرفةٍ ستائرها قرمزية/ وهواؤها بلون الرصاص».
وبعد ستة أعوام من صداقة الموت والوحدة والألم، صدر عملها الثاني «كسرة خبز تكفيني»، الذي تعلن فيه، ابتداءً من العنوان، عن تقشُّفِ المتصوِّفة والزاهدين، وسخريةِ الذين قرأوا النسخةَ الأصلية وغير المزوَّرة (التي يقرأها الكثيرون) من كتاب الحياة: «كسرة خبز تكفيني…/ لا أحد يستطيع أن يسكن في قبري/ أنا من تحمل الزهور إلى قبرها وتبكي من شدَّة الشعر/ أغمضوا أعينكم…/ سأمرُّ وحيدة كحدِّ الرمح».
قبل أن تصعد آخر درجة على سُلَّم حياتها، بأسابيعَ قليلة، أنجزت دعد مجموعتها الشعرية الثالثة والأخيرة «الشجرة التي تميل نحو الأرض»، والتي صدرت عام 1991 بعد وفاتها ببضعة أشهر. في هذه المجموعة تعترف دعد بأنها هي التي تميل نحو الأرض، مستكملةً ما بدأته منذ عملها الأول، بطرح أسئلة كثيرة: الوحدة، الحزن، الألم، الخلود، اليأس، الحب، الفقر… إلا أنَّ أحداً لم يكن يملك جواباً لتلك الأسئلة، سوى الموت، الذي لم يتأخّر كثيراً هذه المرّة عن موعده السرّي معها، بينما لم يستطع أحدٌ ما تصحيحَ خطئه، مثلما فعلت الشاعرة في عملها الشعري الأول. وفي هذه المجموعة، أيضاً، تنبَّأت دعد حداد بموتها حين قالت: «لا شيء أقوى من رائحة الموت في الربيع»، وهي التي رحلت في السابع والعشرين من نيسان، آنَ مراهقة الربيع. تقول حول اختيارها لهذا العنوان، تحديداً، لمجموعتها: «منذ عشرين عاماً وأنا أراقب الشجرة التي تطلّ نافذتي عليها… معظم الأشجار كانت تتَّجه نحو السماء، إلا هذه الشجرة ما زالت تميل نحو الأرض».
وإذا كانت دعد حداد غزيرةَ القراءات حيث تقول: «كثيراً ما أحتار بين شراء كتاب أو وجبة طعام، لكنني أذهب إلى الكتاب»، فإنها غزيرة الكتابة أيضاً، إذ إن الشعر بالنسبة إليها أقرب ما يكون إلى رغيف الخبز اليومي، فالكثير من قصائدها مؤرَّخ في أيام وليالٍ متقاربة، وبعضها يحمل توقيتاً محدَّداً في ساعة متأخِّرة من الليل، ففي مجموعتها الشعرية الأخيرة، نجد إحدى عشرة قصيدة مكتوبة في يوم واحد، الأمر الذي يدفع إلى الظنّ بأن ما نُشر من شعرها قد لا يتعدّى نسبة الرُّبع.
تقول دعد عن الرَّحِم التي تولدُ منها قصيدتُها: «تولدُ القصيدة عندي إثر حالات توتُّر نفسيّ حادّ مرفقة بهواجس وعذابات تشبه غصّة الدمع وانحباس الضحكة اليائسة… في هذه الطقوس النفسية الفظيعة يولد عندي النص الشعري، ويعقبه تعب مسرّ ثم تخفّ عندي حالة الحزن المريرة، وأشعر بهدوء نفسي نسبيّ… يبدو أن الشعر يغسلنا من مرارة الأحزان».
تُفصِّل الشاعرةُ قصائدَها على مقاس العشَّاق والفقراء والمساكين والأحرار: «شعري ينزع نحو الخير والجمال، فيه طابع إنساني أتجه فيه نحو الناس البسطاء المساكين والفقراء… والباحثين عن فسحة حرّية… إنني أبحث في شعري عن قارّة من الحرّية المطلقة». ولأن العالم الحالي في رأيها مبنيٌّ على الظلم والقسوة وقلّة الشعور بالآخرين، فإنه من غير المستغرب أن نجدها تستنجد بالطبيعة، بالحائط، بالثلج، بالحجر، بالضوء: «الحائط باردٌ يا أمّي!/ والثلجُ قادمٌ/ وها هو صوتي يناديكِ/ من خلفِ الأحجارِ والترابِ»، و: «لا شيء سوى الليل والعيون/ والأضواء المتناثرة البعيدة/ والاصطدامات الرقيقة/ وبحَّة صوتٍ/ وكلابٍ ضالّةٍ وحيدةٍ/ يا لصوت الأقدام تحت النوافذ».
لم تكمل الشاعرة دراستها الجامعية، كطالبة في كلية الآداب – قسم اللغة العربية، بل التفتت إلى دراسة اللغتَين الفرنسية والألمانية، كما درست الموسيقى والرسم، وفي هذه الأثناء مارستِ النحت أيضاً، وكتبت قصصاً قصيرة للأطفال، كما لا تقلُّ تجربتها المسرحية أهميةً من ناحية التجديد والاختلاف عن تجربتها الشعرية. إلا أن دعد حداد لا تعترف بكلّ هذا؛ بل تعتبر تجاربها خارج الشعر ناقصةً وغير مكتملة. فهي الفتاةُ التي خُلِقَتْ لتكتب الشعر ويكتبها: «الشعر سرقني من كل شيء… الشعر هذا الهمّ الجميل، هو أمتع الهموم، إنه عالمي الذي أعشق»‏.
في المسرح، كتبت دعد حداد الكثير من النصوص المسرحية، مثل: «اثنان في الأرض واحد في السماء»، «بائع الزهور المجفَّفة»، «فقاعة صابون»، «سأحكي لكم قصتي»، «الهبوط بمظلّة مغلقة»… ويتفق جميع متابعي تجربتها المسرحية على حداثة طرحها وغرائبيته، لغةً، وأداة، وأسلوباً… فنرى في «الهبوط بمظلّة مغلقة» الأجواءَ الغريبة التي تتحرّك فيها كائنات شبه دودية وأخرى شبه شيطانية وكائنات شبه بشرية مع زعيم كوكب متخيَّل، وتدور أحداثها في حالة من الذعر وانقراض السلالة البشرية، ويزيد من غرابة هذه المسرحية أنها تبدأ من الفصل الأخير، اعتماداً على تقنية «الفلاش باك»، والتي نادراً ما كانت تُستخدم آنذاك؛ من قبل معاصريها المسرحيين، على الأقل.
أما على الصعيد الفنّي (رسم، نحت، موسيقى)، فرغم أن دعد حداد لم تستطع (أو ربّما لم تُرِد) الصعودَ بتجربتها الفنّية إلى المكان الذي وصلته تجربتها الشعرية، إلا أنها، وبذكاء كبير، استطاعت الاستفادة من مواهبها هذه في دعم نصّها الشعري وخدمته؛ فتراها تُوشِّي القصيدة بموسيقى اللون وبحركة السكون: «ملاءةٌ سوداء فوق الثلج/ وفوق الملاءة زهرة حمراء صغيرة/ والريح ثلجيّة عاصفة»، وأيضاً: «الغيرةُ في شبابيك الصبايا، كالورودِ/ منقوشةٌ على المزهريات والأثواب والشالاتِ/ الحبُّ مُسوَّدةٌ ممزَّقةٌ/ وسلالمُ موسيقية». وبكلّ الأحوال، فإنه يصعب تصنيف دعد حداد خارج الشعر، لأنها هي بالذات مَن رفضت كلَّ شيء وأخلصت للشعر الذي تزوَّجته، بعد قصة حب طويلة، فأنجبا ثلاث مجموعات شعرية.
ويُحسبُ للشاعر السوري نزيه أبو عفش موقفه الإيجابي والمساند لتجربة دعد حداد؛ إذ كتبَ مقدّمة مجموعتها الثالثة والأخيرة «الشجرة التي تميل نحو الأرض»، ومَنَحَها بهذه المقدِّمة ما لم يمنحها إياه مثقَّفو الشعر العربي، من صدق الاعتراف بفرادة هذه التجربة: «امرأة لا تشبه إلا نفسها، تخترق جدار القلب بمهارة تليق بملاك (…) بإمكانها وحدها تصحيح خطأ الموت، بالشعر، أو بالحب، أو ربما بالموت نفسه!؟».
وعلى الغلاف الخلفي للكتاب نفسه، كتب المفكِّر أنطون مقدسي: «حين نقرأ دعد حداد نُدرك جيّداً أنه لا شيء يعوِّضنا عن الشعر. لأن الشعر الحق يُعيد إلى العالم براءته… وكذلك نزداد قناعة بأن الأوزان والقوافي مجرّد أسطورة يتعلَّق بها الذين أعيتهم الحساسية الشاعرية. كل كلمة ترتعش كما يرتعش جنح عصفور صغير يلوذ بصدر أمّه، لأن دعد لم تتعمَّد أن تكتب شعراً. إنها زفَّت الكلمة – أو زفَّت العالم المروّع بالمأساة عن طريق الكلمة».
وحول استمرارية وجود شعرها يؤكِّد الشاعر منذر مصري أنه «مهما انعدم مصيرها الشخصي، فلن يكون النسيان مصير أشعارها».
أما الشاعر بندر عبد الحميد فيقول: «إنها لا تخاف من اللغة، تغرف منها ما تريد ولا تنحت».
إذاً؟ ما كُتبَ في الأعلى، ليس إلا ردَّ جميلٍ على ما تركته لنا دعد حداد، من شعرٍ يمتدحُ الألمَ فينا، ويشير لنا بسبَّابته؛ أن نرى الحياةَ من هذا الثقب الصغير «ليسَ ثقب الجحيم…» وإنما ثقب الموت: كل نظرةٍ إلى الحياة، بعين الموت، تعني الشعر، وكل شعر يعني دعد حداد، كما يعني الكثير من الشعراء «المغمورين» أمثالها!
«الغاوون»، العدد 35، 1 كانون الثاني 2011

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى