صفحات مختارة

خالدة سعيد تقرأ المطران جورج خضر: يوتوبيا العروبة البيضاء

“العروبة كانت نداء حرية، صرخة تمرد” (لبنانيات)
“ففي التعدد جمال وتكامل والوحدة في التكامل لا في اللون الواحد” (لبنانيات)
“لا بدّ من القول إنّ الإسلام في ثقافتنا جميعاً” (لبنانيات)
تدهشنا كتابات جورج خضر وتأخذنا إلى الأسئلة الجوهرية. نجد أنفسنا مع مفكّر يصدر عن روح الشعر وسحر لغته، فيما يستلهم روح النصوص الدينية والقيم الإنسانية الرفيعة وشوق البشر إلى المتعالي، على اختلاف الدروب ومنابع الإلهام. هذا العلوّ على الحدود والقيود، هذه اللغة المعمّقة باللوعة المتوهجة بالرؤيا، لا تترك قارئها حيادياً.
كتابه “لو حكيت مسرى الطفولة” يقدم مسيرة فكر ومراقي رؤية تستحضر الحدوس الروحية العليا، وتستعيد فجر عصر نهضوي نشر الأمل وبشّر بالحرية، لا السياسية وحدها بل حرية العقل والقلب. إنه كتاب راءٍ لا يتنازل عن الأمل في انهزام العصبيات العمياء وسائر جرائم الذبح والتذابح، ويعلِّم أنّ “الدنيا في كل أطرافها واحدة وأنّ الأصول واحدة.” (لو حكيت مسرى الطفولة، ص 70)
كان الأمل يلوح مع قراءته زمن الحرب. وكنت أقول، في رحاب هذا التفكير يمكن أن يجد الجميع طريقاً، أكانوا من هذا المنهل أم من أيّ منهل آخر.
فحيثما كنّا، ثمّة على مرمى وعيٍ لنا، بحر المحبّة المحيط.
المحبة، حتى بمعانيها الدينية، ترد هنا عند جورج خضر، بمعنى ناموس الجاذبية الحاضنة للكلّ، بتعدد مناهله، والماثلة كمركب رجاء.
إنّ صوته، في تعاليه وعمق فهمه، لا للدين المسيحيّ وحده بل للتديّن إجمالاً، وللدين الإسلاميّ تحديداً، قد رأى لكل طقس أو عبادة أفقاً يتجاوز كلّ تخم، ومساراً كونياً يصله بالمختلفين. بل رأى في التعرّف والفهم والاقتراب من المختلف طريقاً إلى الحقّ. من هنا جاءت مواقفه الرئيسية وخطوطه الفكرية المبدئية المشرقة.
إنه الرائي الذي يستلهم الكلمة المقدسة ليلتمس مجد الملكوت في التاريخي، ويدرك وحدانية الإله وإنسانية الحضور في تنوّع الصلوات وتعدّد مذاهب المصلّين.
لكن إلى متى يمكن الصمود في أرض الأمل؟
*
كتاب جورج خضر “لو حكيت مسرى الطفولة” الصادر عام 1979 عن “دار النهار للنشر” (أُعيد طبعه عام 2003) يتقدم، بداية، في كثير من الخفر، بوصفه سيرة شخصية، كما يوحي العنوان. لكن سرعان ما نكتشف أنه لا يقدم سيرة حياتية فعليّاً إلا في الصفحات الأولى  منه.
يرسم الكتاب مسيرة، ورؤية لا تخفى ملامحها الرسالية. ولا أعني بها رسالة يُكلَّف بها الكاتب أو بطلُه “الصاحب” أو يُصطَفى من أجلها. ولا هي رسالة وُلد ليؤديها.
إنها رسالة ترتسم في وجدانه وتتكامل يوماً فيوماً من صميم التجربة والتأمل في التجربة.
هي رسالة لزماننا؛ رسالة يصوغها الكاتب كمساءلة ومراجعة واختبار نفسي – روحي – ثقافي.
“الصاحب”، كما يقدمه الكتاب، يستحضر إلى ذهني “نبيّ” جبران خليل جبران، وما يماثله من تأملات بشرية تعليمية تطمح إلى رؤى فلسفية أو متعالية. لكن مع الانتباه إلى أنّ “صاحب” جورج خضر إنسان من الناس؛ يبدأ من أرض التجربة التي يبسطها الراوي على لسانه كجزء من الرسالة.
كما أنّ “نبيّ” جورج خضر، على طريقة جبران، أو “بطله” – إذا اعتمدنا الاصطلاح السرديّ -الذي يحضر كضمير غائب ويسميه الراوي “صاحبي”،  ليس “المعلم” بل المتعلّم دائماً الناهض بدءاً مما يتعلّم، القادر على استئناف البدء والتصاعد عمقاً.
يطرأ على “حضوره” تطوّر حين يغيب أو ينسحب من ميادين التجربة والحضور المباشر، ولا سيما النضاليّ الميدانيّ أو العمليّ. إذ عندما تغرّب وابتعد وتقنّع بالمجهولية وتوارى، في النصف الثاني من الكتاب، بدأ يتكلم بـ”رسائل” تصل من مجهول المكان. وأخذت تحضر في “رسائله” لهجة الاعتبار ويغيب عنها الخصوصيّ. في هذه المرحلة داخَلَ شخصَه التباسُ الحضور والغياب، وتوارى الحضور المباشر وراء المعنى قبل أن يحين الغياب الغامض المباغت أو الصمت.
“بطل” جورج خضر أو “صاحبه”، في مراحله الأولى، يحلّل ويبني على تجربة وتأمل، ولا يُجمِل في عبارات مطلقة. وما يقوله يجيء صرخة روحية شخصية طالعة من أرض التجربة، مهما جنحت في اتجاه التصوّف أو التعالي الروحي على الأشكال وعلى جسدية أو تجسدية الكنيسة في رموز. هذه “رسالة” لم تكن جاهزة ولا هابطة من أيّ سماء، بل هي تبحث عن طريق يصعد بدءاً من الإنسان.
“رسالة” تبحث خارج الكنيسة التقليدية ومراتبها، وتريد لطريقها أن تصل بها إلى مسيح الناس البسطاء. فالمسيح فيها حاضر، لكن في كينونة السالك، في وعيه، وفي أفق الطريق.
والبعد الشخصيّ هنا، للمتأمّل أو السالك، مقصود ليكون النهوض من معيّن، لا من فكري مجرد أو مقدّس أو مفترض، وصولاً إلى متجاوز وعامّ؛ ليكون الجسد والمنبت والتجربة منطلقات الرحلة.
من هنا أهمية البداية على قصرها: البداية من أسرة وبيت وحيّ ومدينة بكل مكوّناتها، ومن محيط متعدّد، ومهنة وأسواق ومدرسة. البداية من معيش ومن تاريخ وتراث.
*
تطلّ الشخصية المرويّ عنها، في هذه البداية، في صورة الطفل الذي كان، وهو يبدأ اكتشاف محيطه وعالمه. تأخذنا الصفحات الأولى من السيرة في مراقي هذا الاكتشاف. طفولة تتغلغل في الأسواق وأزقة المدينة، لا لتقدم أغراضاً وصفية محضة، بل لتقدم مسيرتُها ملامحَ الإرث الذي اغتذت به شخصية “الصاحب”، والمعرفة الأولى التي كوّنت هذه الشخصيّة، والأسس الأولى لمسيرتها الروحية.
القسم الأول، إذاً، حياتيّ يوميّ مبنيّ خطوة خطوة. الطفل الذي سيكون “الصاحب” أو ربما صاحب الصاحب هو ابن واقعه وتاريخه، ابن الانفتاح على جيرانه. الأديان في هذه الرؤية تتجاور تتحابّ ولا تتناحر أو تتطاعن. الأديان هنا لها جذر واحد في تسامي الإنسان نحو الخالق الواحد: “كان يهرول دائماً عن يمينه حيث الطريق تنبسط أمامه كلّية الضياء. وكان عند مجيئه منها قبيل الظهر، يرى جموع المصلّين يسجدون وينتصبون في مسجد الحيّ، من خلال النوافذ. مرّةً شعر بفرح كبير لمّا سمح له الحاجب في مسجد سيدي عقبة في القاهرة أن يحضر صلاة الجمعة كاملة وكان قد عرفه على النصرانية.” (ص6)
إنها ذاكرة إلفة وبساطة، ووعي بالمدينة وروحها؛ بخريطة الروابط والعواطف فيها، وبشكل من العمران والجوار الحميم، بينها صور مختلفة متجاورة متآلفة للصلاة والتواصل. إنها الصورة التي ستستهدفها الحروب والاعتداءات العمياء.
ويجيء تقديم هذه اللوحات وسرد هذه الوقائع، في اقتصاد بلّوريّ، وخفر لغوي يميل إلى البساطة فيسمو بها ويشفّ. وتتقدم صور ومقارنات ضمنية تتوالى، بين الجمال السرّي للكلمة الملء وكسرة الخبز التي تضمر في معنى الجسد والشراكة رؤيا الطريق بين المادّيّ والمجرد، بين المحدود واللامحدود.
هكذا تكون المسيرة ارتقاء واكتشافاً؛ لا وقائع جاهزة تهبط من معرفة متعالية، بل تصعد من تجربة ومعاناة. إذ لعلّ الشخصيّ في هذا السرد مقصود ليكون بناء الرؤيا نهوضاً من معيش وكيانيّ حميم.
*
في “كنيسة الروح” يلتمس “الصاحب” أجوبة عديدة. فالأشكال المادية الجغرافية للحضور، وللحضور المستقلّ أو المنفصل والمعزول بجدران سياسية، يرفضها إحساسه. ويشمل هذا أشكال الحضور المعزول كلها، حتى ما كان قوميّاً: “الوطن المسيحي كان في إحساس صاحبي بدعة لا سياسية وحسب بل روحية في الدرجة الأولى. الوجود المسيحي الشرقي إنما هو وجود مع المسلمين وفي إطارهم التاريخي الحضاري.” (ص 34)، إذ “المهم أن يصير بلده إنسانيّاً” (ص 35)، ولأنه “رأى أنّ المسيحية التي صمتت كثيراً بسبب الرزوح آن لها أن تتكلّم الآن عن نهضة بلسان عربيّ فصيح تشرح نفسها. وقد رفض هذا الرجل قول القائلين أنْ أبَتِ العربيةُ أن تتنصّر. ولعلّ صديقي لم ينتسب إلى كلّيّة الآداب إلاّ ليجعل بين الناس رسالة المسيح تنطق بالعربية.”
لكنه يرفض مقولة “أهل الذمة” حتى لو كانت قد منحتهم الحماية خلال قرون. أما في مفاهيم العصر الحاضر فيرى فيها شفقة، “وكل إشفاق تعالٍ”. إضافة إلى ما في هذه المقولة، لا سيما في مفهومات العصر الحاضر وقيمه، من تهميش إنساني سيادي، سياسي وحقوقي وقانوني. فالانتماء الوطني هو انتماء إلى أرض وشعب بصرف النظر عن اختلاف الدين.
لكن لا بدّ من أن يطول تصوّر “الصاحب” القضايا والخطوط الرئيسية التي ترسم موقع المسيحيين في الدولة الحديثة، اللبنانية في الأخصّ، وتترسم نوعية حضورهم في تاريخ الدولة الإسلامية ماضياً.
فهو في غير موضع يعتبر المسيحيين شركاء في البناء الإداري والعلمي والطبي والاقتصادي للدولة الإسلامية التي تأسست مع الفتح العربي، الذي لم يكن إبادة ولا محواً وإرغاماً.
بل إنّ غلبة الحضور المسيحي الثقافي – التقني الصناعي المالي الزراعي والهندسي العمراني الفني والتوسطي، في البدايات (في سوريا ومصر خاصة)، فضلاً عن الحضور الإنساني الاجتماعي، عمل في منحى مساندة الدولة الأموية، وعجل في نهضة الحضارة الإسلامية واتّساعها.
ولقد تولّى المسيحيون العديد من الدواوين، على غرار أسرة منصور بن سرجون الدمشقي وأجيال عديدة منها؛ وهي الأسرة التي توارثت الإدارة المالية للدولة، ومن سلالتها كان القديس يوحنا الدمشقي (675 – 749)، الذي عاش في القصر في مرحلة من شبابه قبل أن يترهّب، ثم يطوّب قديساً في ما بعد. بينما تولّى المسلمون مهمات الحكم والقضاء والفقه والسياسة والشعر والتجارة والفتوحات والعسكر إجمالاً قبل أن يدخلوا ميادين العلم في وقت لاحق.
هذا التاريخ هو ما حضر في تصوّر مفكّري النهضة الذين تجاوزوا في تفكيرهم الهُوى والشروخ التي خلّفتها الحروب الصليبية في طرفي الصراع، وكان أولَ ضحاياها مسيحيو الشرق ثم القسطنطينية التي نُهِبت ودُمِّرَت واحتلها الصليبيون مع الحملة الرابعة.
في هذا المنحى يسوق خضر في كتابه على لسان “الصاحب” كلاماً على “عروبة بيضاء لا تتنكر للتراث الشرقي القديم ولا إلى الإنسان المعاصر المبادر” (ص 38). وفي هذا السياق نفسه يعتبر “الوطن الصغير الذي ينتمي إليه مسرحاً ممكناً لهذا الحوار الطيّب”.
*
كتاب “لو حكيت مسرى الطفولة” الذي يقدم الوقائع على لسان الراوي، لا يثبت عناوين للمراحل، ولا يصنفها فيما يحكي عن  “الصاحب”. لكننا نرى هذا “الصاحب” يتغير ويتطور في سلوكه وخياراته الحياتية العملية والنظرية، والأصح في الطرق التي يختار أن يسلكها وصولاً إلى مراميه، وإن كانت مراميه ومثله لم تتغير.
فتغيير الطرق هنا يقع في مستوى التجارب، والبحث عن أقربها لبلوغ المرمى أو المرام. لأن المرمى ماثل منذ البدايات؛ يريد التوكيد أنّ الله لا ينحصر في دور العبادة والمؤسسات، بل يقيم في القلوب البسيطة؟ إذ يقول “ولاح له أنّ الحياة المسيحية هي في الأشخاص الذين يحيونها” (ص 13) وأنّ “الله يسكن القلوب كما يحلو له” (ص 14)، ما يعني أنّ “الصاحب” يلتمس النور في صحبة البسطاء الكادحين والفقراء وفي العفوية وحرية التأمل والعبادة.
هذا ما يضيء دلالات المرحلة الثانية في حياة هذا “الصاحب”. إنها مرحلة الغوص في التجربة الاجتماعية وحياة العمّال. إذ بعد تخرجه من الجامعة ورحلة المعرفة الفكرية والتخصص في آداب اللغة العربية والتميز في اللغة العربية، بدافع الرغبة في معرفة القرآن، وقوة حبه للغته، سنجده ينعطف انعطافة غريبة ومباغتة. ينقلب إلى “عالم ما قبل الكتب”، عالم العمل اليدوي ويدخل محترف نجار فيتعلم حرفة النجارة.
*
هذا الانكفاء من نطاق المعرفة الأكاديمية إلى الحرفة اليدوية في صورتها البدائية، هو انقلاب من الذهني الفكري المجرّد إلى اليدوي؛ من مجتمع المتعلِّمين المرشَّحين للمراكز في الدولة وللمكانة الاجتماعية، إلى عالم البؤس والظلم.
إنّ تمرُّد “الصاحب” على وضعه في طبقة المتعلّمين، هو في معناه الأخير تمرد على امتيازات معنوية وفّرتها الطبقة. من هنا أنّ هذا التمرُّد يقترن بتمايز ثقافيّ آخر يبعده عن “التديُّن الكَذوب المرتبط بالولاء لوجهاء طائفته”، “إذ لعلّ الطغيان زاده قناعة بأنّ فقراء القوم سادةُ المؤمنين” (ص 46).
هذه الخطوة الانقلابية في حياة “الصاحب” وخياراته تبين أن حياته ستمضي في اتجاه مستوى آخر من التديّن، هو التدين أو التفكير الدينيّ الباحث عن الناس، والباحث عن وجه المسيح خارج الطبقات والمؤسسات والدروب المطروقة، الباحث عن المسيح في العدل والمحبة. وهذا ما يجعله ينعطف انعطافة كبرى متخلياً عن مكتسباته ليخوض تجربة العمل الجسدي والتعب الجسدي، وتمثيل الكادحين عبر العمل النقابي.
هكذا اختبر مجمل ظروف العمال في مختلف صورها. لكن التنظيمات والأحزاب التي تُحرِّك العمال وتستغلّهم خيّبته. ووجد أنّ الحزب بصورة عامة، مؤسسة، وهو يحوّل كل حركة إلى مؤسسة، ويُمأسِس الفكر بل يعلّبه. وبهذا يقيم “الصاحب” مسافة وتمييزاً بين واقع العمل والعمال، وبين الإطار السياسي الذي يدّعي تمثيله. لذلك اعتزل العمل النقابي واعتكف يتأمل بحثاً عن “حقيقة تُعاش حيث تُطلَب الحقيقة”؛ فالحقيقة ماثلة بين الناس ولا تحتاج إلى مؤسسة لتعبر عنها.
*
ها هو “الصاحب” يتكشّف عن ثائر اجتماعيّ، في خياراته الأخيرة: أي الحرفة اليدوية، بعد اعتزال الطبقة والجامعة والرتبة العلمية، والالتحاق بحركة العمّال. ومع أنّ التنظيمات قد خيّبته، فإنه يبقى مؤمناً بإمكان العمل السياسيّ أيّاً تكن الخيارات، بل بضرورة العمل السياسي مع الخيارات الخاصة فيقول: “من هنا لا تُسَوّغ التضحية به [العمل السياسي] في سبيل انتهاج الفكر المجرّد أو الحياة الروحية وحدها” (ص 50).
نجد “الصاحب” هنا، يعْبُر بحرية من الديني إلى الاجتماعيّ السياسيّ ومن هذين إلى الدينيّ. لا يقيم الفواصل ما دام الدين لا يقيم عنده بمعزل عن ضمير الإنسان ووعيه. ففي رؤيته، إذا كان الديني، بما هو محبة، ملهم الاجتماعيّ، فإنّ الاجتماعيّ هو الصرح الذي ينهض عليه الدينيّ وبدءاً منه يكون ما يسمّى “التقوى”. هنا لا “تقوى” بلا محبة واندراج في جسد الاجتماعيّ الذي يبدأ من الناس البسطاء.
بهذه الرؤية لم يُرضِ “الصاحب” المناضلين السياسيين ولا المتعبّدين الزاهدين في العمل السياسي وقد “حصروا الأبدية في نطاق الهياكل” (ص 51). ويكون بهذا التميّز من الطرفين قد آل بنفسه إلى اعتزال الطرق السائدة.
*
في هذه العزلة التي تفصل بين مرحلتين كبيرتين في حياة “الصاحب” وخياراته، يتأمل سائر وجوه التجمّع الإنساني والعلاقات الإنسانية والحراك السياسيّ. يتخذ هذا التأمل منحى فكرياً نظريّاً يشمل عدداً من جوانب الحياة والاجتماع والسياسة. فبعد تأمله في أحوال المتعلّمين والإكليروس والعمال والمناضلين، كان لا بدّ أن يقدّم رأيه في العلاقات الأُسَرية، وفي ظاهرة الحركة النسوية التي تعاظمت بدءاً من السبعينات. وله في الموضوع آراء على كثير من الاعتدال والعقلانية، والمرجع الذي يعلنه هو موقف المسيح السمح من النساء. وانسجاماً مع هذا الموقف يقول: “بسبب من هذه الرؤية كان  صاحبي  فقيراً إلى أناس كثيرين اكتشف ضياء الله عليهم وكان بينهم نساء” (ص 59).
نلاحظ الأهمية الكبرى التي يمنحها الكاتب للوضع “الحضاري” لدى الحكم في مسائل على قدر كبير من الأهمية والحساسية. الوضع الحضاري معيار ماثل في الكتاب وشرط قائم في خلفية كل خطوة ومقترب. سياق الكتاب وتسلسل مواقف “الصاحب” تسمح برؤية هذه المعايير وطبيعة فهمه لدلالة “الوضع الحضاري”: إنه في نظره كلّ ما يشكّل عامل سموّ وتقدّم، وما يحقق شروط عدالة ومساواة. من هنا أن العامل الحضاري الذي يقدر أن ينهض بالدينيّ والأخلاقيّ معاً، يشكل في حال تدهوره خطراً على الدين وعلى المجتمع.
رسائل الغربة
“الصاحب”، بعد مرحلة اعتكاف، يرحل. يرحل خفيفاً بلا إعلان ولا وداع.
وإذ يطلب “الصاحب” الغربة فإنه يطلب المجهولية وعدم الظهور وحتى عدم التعبير. يختار عملاً مادياً محضاً يقوم على حسن النطق بالعربية دون تقديم فكرة أو رأي. يختار هذا العمل لأنه يبقيه على صلة باللغة العربية التي أحبها.
لكنّ للرحيل دلالات عديدة لا تنفصل عن سِيَر الراحلين في الأرض وعن طقوس السفر وخلع الارتباطات والمناصب والأشكال. الرحيل هنا أقرب إلى رحيل المتصوفة. وهو في الوقت نفسه رحيل الثائر وانفصاله.
المفكر الكاتب هنا لا يصطنع أحداثاً وحالات من خارج المألوف الثقافيّ ولا من خارج السياق الاجتماعيّ؛ لا يلتمس الخياليّ وغرابة الرمز. لذلك لا يدفع بـ”صاحبه” إلى الصحارى أو “الكهوف”، ولا تنتظره سفينة للرحيل نحو ينبوع غامض أو أفق متجاوز. بل يجعله الكاتب يسوّر نفسه علائقيّاً؛ وفي نطاق العمل الغفل ينسحب من الحياة الاجتماعية.
من هذه المجهولية الاجتماعية ينطلق الفكر في تأملاته ويسافر صوت “الصاحب” نحو صحبه في الوطن: ومن هذه العزلة وهذه الغربة المزدوجة، سيوجّه مجموعة رسائل إلى صديق، ثم تنقطع الرسائل فجأة. الصديق سيتولى انتخاب عشر من هذه الرسائل وينشرها مكثفة في كتاب “لو حكيت مسرى الطفولة”.
الرسائل أو الرسالة
كيفما قلبنا جذر الكلمة ر س ل أحالتنا على معاني الإنباء والتعليم والتوصيل. وهي في الوقت نفسه مُثقَلَة بمحمولات دلالية يصعب حصرها، تمتدّ على حقول الرؤية والتأمل والتعبير والاتّصال، وتستدعي دلالات المسافة والبعد، وانفصال الكلام عن صوت المتكلم وجسده، وعن لحظته الراهنة، كما تشير إلى قابلية الكلام للامتداد في الزمن، ومن ثمّ القراءة المتجددة والتأويل المتجدد والخضوع لإضاءات متعددة، وإذاً لنموّ غير محدود.
وعلى الرغم من أنّ صاحب “الصاحب” مارس، على العكس، ردّ الغزير الشاسع إلى ما اعتبره محدداً، فما كان ذلك ليحول دون النمو الطبيعي للرسائل أو الرسالة التي لا يحكمها الطول ولا مقدار التفاصيل. فهذا الإرسال المطلق المنعتق من الحدّ فعلٌ خطير يكتنفه الغموض، ومجرّد قراءته دخول في سحره.
هذه الرسائل يُفتَرَض أنها نظرات من أفق التجربة؛ التجربة متأمِّلةً مشفَّفَة، يرسلها هذا الذي يتوارى وراء الأفكار والمواقف والحالات.
في قسم الرسائل هذا، تتواصل وتتكامل تحولات “الصاحب”: يغيب البعد الواقعي من حضوره الجسدي العيني. وعلى الرغم من حضوره المفترض في مكان عمل، فإنه يفقد حضوره الاجتماعي في إطار علاقات.
لكن مع أنه اختار المجهولية وعدم التعبير، وعدّد الحجب، فإنّ رسائله ستصل ولو ملخّصةً محجّبة. وفي هذه الرسائل تتبلور أو تبرز توجهات “الصاحب” ونظراته.
إننا، مع هذه الرسائل، أمام وجهين للصاحب يتعارضان: وجهٌ يعدِّد الحجب، ووجه يكشف الخفيّ ويرسل الرسائل. وتنبع من وراء حجاب البعد والحياد كشوف وعلامات موجّهة إلى الصحب في الوطن. هي تأملات في شؤون الحياة وأبعادها.
وبقدر ما تتعدد حجب الصاحب وأقنعته ويغيب جسده وحضوره الاجتماعيّ، يسطع الصوت حادّاً حاسماً: “ومهما يكن مستواك الثقافيّ فأنت غير معذور إلََّم تعرف السياسة بصورة تؤهّلك لإدراك ما يتحكّم بمصائر الناس وما يجعلهم في تقدّم أو تخلّف.” (ص 135).
هذا العنف هو إعادة نظر في مبادىء ومرتَكَزات أخلاقية وقانونية. إعادة تنسف أسساً ومواضعات وأحكاماً. ويمكن وصفه بعنف معنوي أخلاقيّ ضد العنف الماديّ؛ إذ إنه يصل إلى درجة رفض العقاب وكلّ ما يتصل بثقافة الثأر والقصاص الجسديّ وبتر الخاطىء: “ولا ريب لحظة أنّ خادم الإنجيل رهين الإنجيل بحيث لا يقاضي أحداً ولا يبارك سلاحاً أو جيشاً.” (ص 138).
وهكذا بقدر ما ينفصل “الصاحب” ويبتعد تتسع الرؤية وتعلو؛ ويزداد الصوت حدّة وجذرية تصبح اللهجة حاسمة.
هنا لم يعد التعليم يكتفي بنصوص الدين وبالقدوة؛ لأنه لا بدّ للمتعلّم من الارتماء في مصير الناس. يقول “فإننا في وقت من الأوقات، لا نستطيع أن نفهم الكلمة [بمعنى المسيح] ما لم نصغ إلى صراخ المعذّبين” (ص 134). والإصغاء إلى صراخ المعذّبين عنده يعني ما هو أكثر من التعاطف: يعني إلى ذلك، تعرية الأوضاع.
لا تتوقف الرسائل عن تحجيب صوت “الصاحب”؛ إذ يُعْلمنا متلقّي الرسائل في النهاية أنّ ما حسبناه نصوصاً تامة ما هو إلا خلاصات استمدّها المتكلم (صديق الصاحب) من الرسائل الأصلية لصاحبه. وبذلك تكون الحجب والأقنعة قد تعددت منذ البداية:
حجاب المجهولية وغياب الاسم خلف لقب غفل (الصاحب)، قناع الدخول في حرفة النجارة بلا شارات شخصية ولا تميّز، حجاب السفر، حجاب المجهولية في العمل الأخير، حجاب الرسائل إلى صديق (هو بدوره مجهول في النص) ينوب عن جمع الغائبين، حجاب الترجمة والتلخيص من قبل شخص المتلقي – المتكلم بالنيابة.
هكذا تدريجياً يمعن “الصاحب” في التواري وراء الظلال، ظلاً بعد ظلّ؛ أو يلتحق بالمعنى والخطاب ليصير كلمة، قبل أن يغيب الصوت ولا يبقى غير أنوار فكره تومض في وعي القارئ.
بل نرى حياة هذا الصاحب بكاملها تتبع هذا المسار، وتتحرك من المعلومية والتعيُّن في اتجاه اللمح والرمز فالغياب. لأنه إذا كانت شخصية الصاحب في الطفولة ابنة بيئة وحي ومدرسة وظروف واختبارات، فإنها كلما اقتربت من الرجولة تجردت وشفّت وغلب عليها التأمل والمحاكمة العقلية، ثم توارت وراء الكنايات والحجب وأقامت في المجهولية؛ بل تجردت، وتحوّلت إلى أصوات ورسائل ورؤى وإلى ضمير، وأمعنت في التواري حدّ الغياب.
لكن مع هذا التواري المتعدد والإنابات المتعددة والالتباسات أو التداخلات، والكلام نيابة عن غائب هو بدوره صوت لغائب، تشتعل المعاني وتتوهج من وراء الحجب التي ما تعدّدت إلا لتعدّد المعنى والقراءات؛ وتنبجس الرؤى موجةً بعد موجة.
في هذه الولادات المتجدّدة للصاحب وفي حضوراته المتوالية، تتكشّف للكتاب بنية تذكّر بالأيقونة، حيث الوجه يستدعي الوجوه، والخطوط قراءات وإشارات تومئ إلى آفاق المعاني وألوانها، لنستجلي أسرار تلك الحياة المترنحة تحت قلقها وهواجسها، المتداخلة بحلمها وبمثالها، المتوهجة في ضوء إلهامها الشخصيّ، المسربلة بإلهام عُلْوي. فنبصر أرَقَ “الصاحب” عبر ذلك وهو يتلمّس طريقه ويلتمس وجه ذلك “الصاحب” الأعلى الذي أضاء العالم وتمثّل فِعلَ محبة، لأنه لا يكون إلا جوهر محبة. ويكون كتاب جورج خضر، أو تكون حياة “الصاحب”، هي نفسها بمثابة قربانه، إذ كلُّ روح وثّابةٍ مأخوذةٍ بالمطلق  قربانُها في ذاتها ¶
* من كتاب عنوانه “البحث عن ضوء” يصدر قريباً لدى “دار الساقي”.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى