صفحات مختارة

القراءة البطيئة وزوالها الوشيك

شاكر الأنباري
في العقدين الأخيرين جرت تحولات هائلة في عالم الكتب، طباعة، وإخراجاً، ومضموناً، وترويجاً، إلى أن وصلت العملية إلى ما بات يُعرف بالنشر الألكتروني، ما يعني إلغاء دور الورق في ايصال المعرفة. لكن التحول الأهم في العملية برمتها هو اختصار الحجوم، عن طريق التكثيف، وتجريد اللغة من بلاغتها وانشائيتها، والذهاب سريعاً إلى الموضوع، سواء كان فكرة أو حدثاً أو شخصيات. من يستطيع اليوم قراءة رواية يبلغ حجمها خمسمئة صفحة؟ رواية مثل الجريمة والعقاب لديستويفسكي؟ ومن يستطيع الجلوس لقراءة كتاب فلسفي يتجاوز الألف صفحة؟ من يستطيع ذلك في زمن سريع، ايقاعه لا يمكن اللحاق به؟ وهل هناك إمكانية لدى شخص من الأشخاص لقراءة متأملة، بطيئة، تمتد أياماً؟
في أوروبا ذات الايقاع الحياتي السريع ابتكروا صحافة الميترو، وهي صحف يجدها مسافر الميترو في أكياس أمامه داخل المحطات، يستطيع تقليبها وقراءة مواضيعها سريعاً خلال رحلته التي قد لا تستغرق أكثر من ساعة لبلوغ عمله في المصنع، والدائرة، والمؤسسة. صحافة الميترو تقدم وجبات سريعة لكل حقل من حقول الحياة، تشبه مطاعم وأكشاك الهامبرغر، والتشيز برغر، والبيكون، والهوت دوغ، وجبات في الثقافة، السياسة، الموسيقى، الرياضة، والإعلانات المبثوثة في الصفحات.
صحافة الميترو تستغرق كل شأن من شؤون الحياة لكن بسرعة فائقة. هي تسد الرمق، وتذهب بغائلة الجوع، وهذا هو المعروف عن الوجبات السريعة. إنها تستخلص الموضوع بأسطر سريعة وقليلة، فلا يبذل القارئ إلا جهداً قليلاً للقراءة سواء كان جهداً زمنياً أم عقلياً.
قبل عشرين سنة، وكنت أعيش في كوبنهاغن وقتها، قررت إعادة قراءة ديستويفسكي، وكنت قرأته في منتصف السبعينات، ودهشت به كثيراً، مثل أبناء جيلي. في السبعينات كان الوقت بطيئاً، وايقاع الحياة يمشي مثل بزاقة، ويمكن للمرء أن يجلس الليل كله، والنهار أحياناً، كي يقرأ رواية مثل الأخوة كارامازوف أو الأبله أو الجريمة والعقاب. ليس هناك سوى محطة تلفزيونية واحدة ذات برامج مملة، وليس هناك سوى جلسات كئيبة في نوادٍ ليلية ذكورية تكتظ بشاربي العرق، والبيرة، ممن يناقشون قضية العصر آنذاك، ألا وهي الصراع بين الرأسمالية، المتمثلة برأسها المرعب الامبريالية الأميركية، وبين الاشتراكية وممثلها الاتحاد السوفياتي. كان ذلك في نهاية سبعينات العراق، وأظن أن تلك السنوات لم تختلف جذرياً عن سبعينات سوريا ومصر ولبنان، أو غيرها من البلدان الصدى، البلدان الهامش، هامش الحاضرات الأوروبية والأميركية المندفعة نحو أفق الثقافة، والفن، والعلم، وحقوق الإنسان مثل تسونامي عات.
بدأت قراءتي برواية الجريمة والعقاب، وبطلها راسكولينكوف، قاتل العجوز المرابية، وكنت أقطن في غرفة تقع في الطابق الثالث، ويطل شباكها على بحر الشمال، الذي كنت أراه من فرجة العمارات كأنه سماء زرقاء ثانية. دوستويفسكي يتطلب قراءة بطيئة، متأنية، ويتطلب زمناً بطيئاً هو الآخر، وهذا ما لم تكن عليه الحياة في تلك الفترة. وجدت أنه يتكلم لعصر آخر، ويروي لقارئ يعيش في القرن التاسع عشر، أو بدايات القرن العشرين، لذلك لم استطع متابعة قراءته حتى النهاية. تركته في المئة صفحة الأولى، وأنا اتخيل في ذهني المراقص الليلية التي تنتظرني، والقنوات الفضائية التي تزيد عن الألف، وتنقلني من أوروبا إلى أميركا إلى الشرق البعيد ومجاهل افريقيا، والسهر مع الأصدقاء والصديقات والأفلام السينمائية التي وصلت طازجة من مصانع هوليوود إلى سينمات نوربرو، وكوكاذا، وفيستربرو. القراءة البطيئة كانت ضد ايقاع الحياة، ولم تكن مناسبة للشباب الفائر الحيوية، الذي يروم السباحة في الثواني، والساعات المليئة بالمتعة، والمعرفة من نمط آخر. أعتقد أن القارئ، وهو أنا، تغير خلال عشرين سنة، وأضيفت اليه خبرات جديدة وتنامت لديه حساسية جمالية من نمط آخر، لكن السبب يكمن في ظني بتلك العشرين سنة من التغيرات الفلكية، في كل شيء. العشرون سنة التي تفصل بين عقد السبعينات في بغداد وعقد التسعينات في كوبنهاغن. في الفضاء، والنشر، والأفكار، والقيم، والاستيعاب، والتخصص، والدقة، بحيث لم يعد العصر ملائماً لمطولات ديستويفسكي المنتجة في القرن التاسع عشر. الوقت المتسارع لا يلائم النص البطيء، ولا اللغة المسترسلة التأملية، الراصدة للحظات والثواني، في برقها اللحظي مثل باحث عن الزمن المفقود. هل يتخيلن المرء أن صحافياً يعمل في جريدة إخبارية قادر على قراءة مارسيل بروست ومؤلفه البحث عن الزمن المفقود في أيامنا هذه؟
وبعيداً عن ديستويفسكي، الغربي، المنتمي إلى حضارة مغايرة، ومارسيل بروست الفرنسي، طلبت من مكتبة الساقي اللندنية كتاب المثنوي لجلال الدين الرومي. والمثنوي هو تصوف مركّب على حكمة إسلامية، وشرقية، تستوعب البوذية، والزن، وصراع الخير والشر، في جلباب قرآني، مع قصص وحكايات تقترب من ألف ليلة وليلة. والمثنوي في كوبنهاغن بحاجة إلى جلد في القراءة، وإلى تضحية بالمتع الصغيرة، عدا العزلة البشرية لكي تجعل من فرد ما يتوحد مع نص مكتوب قبل قرون. ولكي يتنفس القارئ بيئة المؤلف، ويتمثل أحاسيسه، ويشعر بقواه الروحية. لكن هل يمكن القيام بذلك في عالم متغير، سريع، ويكاد أن يكون سطحياً في وعيه العام مثل عالمنا اليوم؟ كتاب مثل المثنوي تصعب قراءته للمتعة، أو للفضول. للدراسة الأكاديمية من الممكن جداً، أما لكي يجد القارئ العادي متعة بذلك فلا أظن. القارئ العادي، السريع، قارئ صحافة المترو، لا يمكنه قراءة المثنوي، ولا الوجود والعدم لسارتر، رغم أن تلك الكتب أثرت على حضارة بكاملها. كما لا يمكن لذلك القارئ أن يجلس أياماً على رواية مثل الكريات الزجاجية لهيرمن هيسة، ويعتصر فكره لمتابعة الأحداث، ومتاهات مدينة الفكر تلك. حين انهيت المثنوي، في تلك الغرفة المطلة على بحر الشمال، شعرت وكأنني خرجت من حمام ساخن لبثت فيه فترة طويلة. كأنني خرجت من مطهر.
تجارب مثل تلك لم تعد ممكنة في زماننا إلا لقارئ متخصص، أو لأكاديمي متفرغ، يكتب رسالة للماجستير أو الدكتوراه، أو باحث في تاريخ الرواية الألمانية أو الأوروبية. إذ إن اليوم قد اكتظ بتفاصيل لم تكن موجودة قبل عقدين أو ثلاثة عقود من الزمن. ونحن نتكلم هنا بشكل عام، فثمة وقت للانترنت، والمحطات الفضائية، والعمل، والراحة الجسدية، والتواصل مع الأسرة، والتحدث بالموبايل، والفيسبوك، ولا يظل للمرء سوى نزر يسير من الوقت لقراءة رواية، أو كتاب جاد، أو مؤلف فلسفي يجهد العقل، وأحياناً حتى جريدة جادة. لن يبق أمام متعة القراءة سوى الكتب السريعة، والمجلات ذات الصور المريحة للنظر، والروايات التي لا يتجاوز حجمها، بأفضل الأحوال، المئتي صفحة. كتب الوجبات السريعة، وصحافة الميترو لتسلية الركاب.
أما في بلدان قلقة مجتمعياً، كالعراق مثلاً، تفتقر إلى انتظام في الطاقة الكهربائية، وسلاسة بالتنقل، وعمل ثابت، وسلام روحي، فتصبح القراءة المتأنية، البطيئة، ضرباً من المستحيل. القارئ هنا لا يتمتع بالصبر على الاستمرار في قراءة الكتاب، ما أن يفقد روح التواصل معه حتى يلقيه جانباً، وروح التواصل هنا تكمن في حدث روائي يشد القارئ، أو موضوعة تاريخية ممتعة، أو معلومات جديدة يحتاجها الشخص، عدا ذلك من اليسير جداً الاستغناء عن أي كتاب. وهنا يأتي السؤال الجوهري في الموضوع كله، هل يمكن للفرد العادي الاستغناء عن الكتاب؟ لا القراءة البطيئة المتأنية فقط، بل الكتاب بحد ذاته؟
أظن أن ايقاع حضارتنا، في بلدان كثيرة، يقود، ويغذ الخطى، نحو الجواب بالايجاب.
نعم يمكن الاستغناء عن الكتاب، خصوصاً البنية الكلاسيكية له، المتمثلة بالورق، والغلاف، والحروف. فثمة الكتاب الالكتروني، والمدونات، والصحافة الالكترونية، واليو تيوب، والأفلام الساخنة، والخبر السريع الذي يرد في ثانية واحدة من مدينة تبعد آلاف الكيلومترات عن المتلقي. وبهذه الحالة يصبح المتلقي كائناً متعدد المنافذ، يستقبل المعرفة، والجمال، والأخبار، عن طريق العين والأذن، لينشأ لديه خيال من نوع آخر، غير ذلك الخيال الذي يستجلبه الحرف والجملة عن طريق قراءة كتاب.
بدأ خيال البشر في عصرنا الراهن يقترب، شيئاً فشيئاً، من الفانتازيا، بحثاً، في النهاية، عن عالم من اليوتوبيا، ولكن خارج الكتب.
المستقبل

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى