صفحات ثقافية

“الكناري الميت منذ يومين” نصوص للشاعر عارف حمزة

null
صور تستوطن طويلاً الذاكرة والجسد
جهاد الترك
خمسة وعشرون نصاً متفاوتاً في الحجم وكثافة الرؤية، يخيّل إلينا أنها وُضعت على عجل قبل أن تيبس الذاكرة أو يخفت بريق الألم المتكدس في زواياها. والأرجح أن التوتر الصاخب الذي يحاصر الكتاب من أدناه الى أقصاه يكاد يشكل إيقاعاً محبّباً يشدّ النصوص بعضها الى بعضها الآخر على نحو من استنفار كامل للأعصاب. ومع ذلك، فإن الصور التي يزدحم بها فضاء التعبير لا توحي بالضرورة بأن صاحبها يفرج عنها أو يطلقها في الوقت المناسب ليحمل الذاكرة على التخفيف من أعبائها الثقيلة. ثمة توجه ملحوظ، في هذا السياق، يبعث على الاعتقاد بإقدام الشاعر على الاحتكام الى مشاهده المتكاثرة في النصوص وفقاً للأمكنة والأزمنة عينها التي وُلدت فيها الصور وأقامت طويلاً في الجسد وفي الذاكرة على حدّ سواء. من هنا، هذا التشبث بالأسباب والوقائع والظروف التي أحالها الشاعر دلالات على مستوى الرؤية الى الذات والأشياء والعالم بأسره. يخرج الشاعر من حين الى آخر من المكان والزمان المتجمدين في صمت اللحظة الماضية. يفعل ذلك، على الأغلب، بدافع من حاجة الرؤية الى تجاوز اللحظة الراهنة المغرقة في الشروط المجحفة للزمان والمكان. نراه ينصاع الى هذه النزعة المتأصلة في غريزة الشعر على حساب الواقع المتأصل في غريزة الموت، المتسلل الى متاهة الرتابة، المحاصر في دوامة القلق العقيم. كلما استسلم لهذا التوجه استفاقت نصوصه على إيقاع الزمن الشعري وتضاءل، في الوقت عينه، الزمن الواقعي الى حدوده القصوى.
القسوة الغامضة
قد تبدو هذه القراءة أولية، بشكل أو بآخر، في نصوص الشاعر عارف حمزة الصادرة عن “دار النهضة العربية” في بيروت في كتاب بعنوان “الكناري الميت منذ يومين”. يوظف فيها هواجس عميقة مبعثها المعاناة المؤلمة والتجربة الدامية، إذا صح التعبير، لصوغ أنماط من الصور مفتوحة على القسوة الغامضة التي كان تعرّض لها في حياته العملية. نلحظ هذا التوظيف المرهف في سائر النصوص على الأغلب. وقد لا يغيب هذا الهم الدفين في مساحات الحواس حتى عن تلك النصوص التي تبتعد قليلاً أو كثيراً عن المعاناة المذكورة. يستعيد في صوره جزءاً يسيراً من تلك المساحة من الذاكرة التي كونت عالمه المتحول في تلك الإثناء. يستخدمها على نحو من إعادة إطلاقها من أسر اللحظة نحو زمنها الكلي إذا صحّ القول. وكأنها لعنة دائمة لا تبارحه أبداً. والأرجح أن الأمر كذلك باعتبارها الحافز الأهم على تشكيل ذاكرته الشعرية. ولربما بدت هذه الميزة ضرورية في تكوين فضاء الكتاب بحيث لا يعود ثمة فارق بين هذه “اللعنة” ومشروعه الشعري.
على إيقاع هذا التدفق التلقائي للأزمنة والأمكنة من الماضي الواقعي الى خزان الذاكرة ومن ثم الى الذاكرة في رؤيتها الحالية، يضع عارف حمزة نصوصه التي قلما تستبعد عن تفاصيلها مشاهد المعاناة التي صنعت من الشاعر إنساناً آخر. والأرجح أن ثمة ما يوحي، في هذه النصوص، بأن مادتها الشعرية، في طبيعة تكوينها إنما تعزى الى ذلك الانسجام الحقيقي بين الشاعر من جهة وتلك الأجواء النابعة من الجحيم الذي انفتحت بواباته دفعة واحدة، على الشاعر. ليس في هذا التصور ما يفيد بأنه وجد ضالته الشعرية المنشودة في تلك التجربة من الأهوال السياسية والعسكرية التي أفضت به الى أن يصبح مسكوناً بما يزعم أنه هزيمة للإنسان العربي. أو ذلك الإحساس الجارف بالمرارة لما تكبده الوطن العربي من إحباط مروع نتيجة لأحلامه المجهضة بالخوف المتعمّد والترهيب المسبق بأن الزمن الراهن والمقبل أصبح مرادفاً للموت المجاني والخسائر الفادحة. الأغلب أننا لا نعثر على شيء من هذا القبيل، بمعنىأن الشاعر لا يستظل تجربته القاسية هذه ولا يستخدمها ذريعة سهلة ليفتح نصوصه على فضاءات شعرية متألقة.
السكينة واللحظة
على النقيض من ذلك، يستدرج عارف حمزة الى لغته تقنيات في الكتابة الشعرية هي أقرب الى التداعيات الناتجة عن تجربته القاسية. تتشكل مفرداته، في هذا الإطار، في بؤرة واسعة من السكينة التي راكمتها في الذاكرة تلك السنوات التي خدمت فيها جذوة اللحظة المشتعلة. غير أنها احتفظت، على الأرجح، بتلك التشققات والتصدعات التي أصابت الروح فأصبحت ظلاً لها. ومع ذلك، لا يجد الشاعر مفراً من الانسياب الى تلك الظلال ليعيد تكوينها على النحو الذي يستجيب مع الهدوء الذي راح يخيم على الذاكرة. ولربما يجدر التساؤل، في هذا السياق، عن الدور الذي تؤديه السكينة في عملية تطور الزمن الشعري لنصوص الكتاب. الأغلب أن ليس ثمة غياب يبعث على الاعتقاد بأن الشاعر يختاره طوعاً ليقيم تسوية تهدئ من غلواء تجربته المؤلمة. ولو كان الأمر كذلك، لاستخدم لغة تحيل تفاصيل هذه التجربة المريرة أشباحاً باهتة لا إسم لها ولا شكل ولا رائحة. لا يميل الى ابتكار هذا النوع من الظلال التي تفكك الأشياء والوقائع الى مكوّناتها الأولى حتى لا تغدو نصاً مقروءاً، أو نصاً مادياً قائماً في منظومة الأشياء الماثلة في الحياة اليومية. والأغلب أن لا رغبة لديه في تفكيك هذه المشاهد ليخلع عنها هويتها الملازمة لها كما كانت في الأساس وكما ستبقى على الدوام. بدلاً من ذلك، نراه يعكف على تسوية من نوع آخر إذا جاز القول، تتمثل في استعادة التداعيات التي حفرتها هذه التجربة في عمق الذاكرة تمهيداً لنقلها الى فضاء النصوص على نحو يجمع بين آنية اللحظة، من جهة، وظلالها من جهة أخرى. والأرجح أن لا الظلال تطغى على اللحظة، ولا هذه الأخيرة تطغى على الأولى. والقاسم المشترك بين الإثنتين تلك السكينة التي تتيح للشاعر هامشاً واسعاً من التأمل في ما أحدثته التصدعات في الروح من تحولات عميقة في الذاكرة الشعرية.
نصوص متوترة في طبيعتها المشهدية وصورها، لا يتلاشى فيها الواقع وأن استحال رموزاً ودلالات على حجم الخوف والقلق العميق المستوطن في الذاكرة. كلما تعاظمت مشاهد الرعب وانتقلت الى فضاء النص، ازدادت حاجة الشاعر الى جرعة إضافية من التأمل والهدوء لاستيعابها وإعادة تشكيلها بمفردات من جنسها على الأغلب. رؤية لا تثور على النص ولا تستبعده من الزمن الشعري استجابة لمزاج في الكتابة لا يرى في الظلال سبباً وحيداً لإعادة تشكيل العالم.
مختارات
نصوص متفرقة من الكتاب:
كنتُ
أخافُ
من النجاة
كنتُ أخاف من الأمل الغامض
فشاركت
في كل الحروب
وكلما كنتُ أُقتَل
كنت أنهض
لأُقتَل
من جديد.

مغادراً بلدي
بحذاء في رئتي
بحذاء في عيني
بحذاء في قلبي
وهناك
في البلد الغريب
سأتسول عيناً ترى الحياة التي فقدتها
سأتسول الأيدي
الأقدام
الكلى
وحتى
حباً بالعائلة
مرض السلّ القديم

نموتُ
موتاً
بطيئاً
في الطبعة
الشعبية
للحياة
بالقلب المعطوب
بالأمل
بالسرطان
بالصمت
وبداء البُعاد..
نموتُ..

لن نراهم
بعد اليوم..

المستقبل

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى