صفحات من مدونات سورية

اسرائيل و الرأي العام الأوربي

لعلّ مسألة دراسة موقع إسرائيل في فكرة الرأي العام الأوربي حول الشرق الأوسط و الصراع الدائر فيه منذ نهاية الحرب العالمية الأولى هي إحدى المسائل الشائكة في مقاربة الوضع السياسي الحالي في المنطقة باعتبار أن الغرب (و أوربا هي الجزء من الغرب الذي يبدو أن هناك من ينتظر منه يقظة ضمير في لحظة ما) هو الوسيط المفترض الذي يُنتظر منه (لا أدري لماذا) أن يكون نزيهاً و عادلاً و “حيادياً”, و غالباً ما يكون موقع الخصم و القاضي للغرب أحد تبريرات فشل العرب في تحقيق انتصار سياسي أو عسكري على الكيان الصهيوني.. و أيضاً يمكن أن يكون شمّاعة لتعليق أي شيء آخر. إن هذا الاستعمال المسرف في الابتذال أحياناً للانحياز الغربي تجاه إسرائيل لا يعني أنه ليس منحازاً فعلاً, بل هو أكثر من منحاز في الواقع.
صحيحٌ أنه ليس من الصواب الحديث عن الرأي العام الأوربي كوحدة لا تتجزأ إلا أننا نستطيع ربما أن نستنتج بالمراقبة أن القطاع المؤثر و الفاعل سياسياً من طيف الرأي العام أقصر مما يُنتظر من ديمقراطيات ليبرالية تتمتع بحرّية فكرية و ثقافية و إعلامية, و لعلّ فكرة الرأي العام الأوربي عن إسرائيل هي إحدى القضايا التي تسبب أكبر قدر من التضيّق في طيف الرأي تجاهها. هناك باعتقادي تيارين أساسيين للرأي العام نابعين عن خطاب إعلامي و ثقافي متواصل ينبعان بدورهم عن رؤية استراتيجية للكتل السياسية الرئيسية (على الأقل في أوروبا) و أقصد اليمين الأوربي (المحافظ و الليبرالي) و يسار الوسط أو الاشتراكو- ديمقراطية. لا أعني بطبيعة الحال أن كلّ الرأي العام الغربي ينتمي إجباراً لهذين التيارين الأساسيين و إنما أقصد القطاع الفاعل في رأي العام الذي ينتج عن مؤسسات إعلامية كبرى و يدعم إنتخابياً الكتل ذات الحظوظ في الحكم. هناك تيارات فكرية أصغر قد تتزاوج تماماً مع الرؤى العربية لقضية فلسطين و خصوصاً تلك التابعة لليسار “البديل” (الشيوعيين الجدد و الخضر و مناهضي العولمة) المتعاطف مع حركات التحرر و الذي يدرس اسرائيل كناتج استعماري مثلاً, قد يكون لهذه التيارات قدرة نسبية على تحشيد جانب من الرأي العام بشكل نقطي أمام أحداث ذات تأثير صادم مثل الهجوم العسكري على قطاع غزّة أو قرصنة أسطول الحريّة, إلا أن حالة التحشيد هذه لا يمكن لها أن تستمر دون وجود بنية تحتية إعلامية تضمن استمرارها, و هناك مصالح سياسية تتعارض مع استمرارها, أو على الأقل تتعارض مع استمرار تأثيرها الفعلي (بمعنى آخر.. لا مشكلة أن تدعم الفلسطينيين و ترفع الأعلام و تهاجم إسرائيل و تقيم الندوات و المحاضرات و كل ما هنالك طالما لا يصل تأثيرك إلى درجة أرجحة الميزان الانتخابي).
علينا ألا ننسى أن قضية فلسطين بالنسبة للناخب الأوربي (و ربما الأمريكي) هي قضية خارجية و بعيدة و لا تدخل في جوهر هواجسه الوجودية من وضع اقتصادي و تعليم و صحة و بنى تحتية و غيرها من الأمور التي يقرر الناخب صوته لهذا الحزب أو ذاك على أساسها.. إن نظرةً سريعة لبرامج أغلب الأحزاب السياسية الأوربية في مجال السياسة الخارجية تكفي لرؤية أن أغلبها يحوي عبارات عقيمة و فارغة من طراز “دعم حل عادل لمسألة الشرق الأوسط بما يضمن إحلال السلام و الاستقرار و الازدهار للطرفين” لأن نسبة الناخبين التي قد تقرر صوتها بناءً على هذه المسألة فقط هامشيّة لدرجة أنها لا تستحق المجازفة بالانحياز الواضح تجاه طرفٍ من الأطراف قد يسبب بخسارة نسبة أكبر مما يمكن كسبها مع هذا الانحياز. أعتقد أن لهذه المسألة أهمية كبيرة لمن يحاول أن يتعامل مع الرأي العام الغربي في مجال القضية الفلسطينية مثل الجمعيات و المؤسسات الثقافية لأن المواطن المتوسط ربما لديه رؤية إنسانية تجاه القضية و قد يود فعلاً أن تنتهي معاناة الشعب الفلسطيني لكنه لا يدرك أهمية صوته من عدمها في إنهاء هذه القضية لأنه يعتبر أنه ليس طرفاً فيها, و لذلك فإن بعض الخطابات القاسية تجاه الرأي العام الغربي من قبل هذه الجمعيات و المؤسسات كثيراً ما تتسبب بنتائج عكسية لأنها لا تشرح بقدر ما تحمّل مسؤولية لا يقبلها هذا المواطن- الناخب على نفسه.
كما ذكرتُ سابقاً هناك تياران رئيسيّان يتناسبان مع الكتلتين السياسيتين ذوات الحظوظ في الحكم في الدول الأوربية رغم أن هذا التناسب ليس كاملاً و لا توجد خطوط قطعية واضحة في هذا الشأن. هناك تداخل ما بين الوجهتين أحياناً بحسب السياق الخطابي ربما, و لهذين الخطابين قاعدة إعلامية و ثقافية تتبع بشكل أو بآخر للطيف السياسي أو الايديولوجي.
الخطاب الأول, و غالباً ما يصدر عن الوسط السياسي و خاصة يسار الوسط الأوربي (و جزء من يمين الوسط و خاصّة المحافظ الكاثوليكي التقليدي) , يتحدّث عن إسرائيل كخاتمة لرحلة الأحزان اليهودية عبر تاريخٍ من القمع و الملاحقة و الكراهية و الذبح.. الخ, و يعتبر إسرائيل ملجأً نهائياً لليهود يقيمون فيه دولتهم بعيداً عن كوابيس الماضي و أشباحه. يتشبث بشكل لا نقاش فيه بالحق الوجودي لإسرائيل ليس فقط بقوّة الأمر الواقع و إنما كتعويض لليهود عن عقود من القهر و الحرمان و التمييز في أوربا و خارجها (عقدة الذنب الأوربية واضحة و جليّة في هذا الخطاب).. إسرائيل في هذا الخطاب هي بمثابة النهاية السعيدة لفيلم تراجيدي لا يريد أحدٌ أن يكون له جزءاً ثانياً.
قد تُسمع ضمن هذا الخطاب بعض الانتقادات لتصرفات إسرائيلية سياسية و عسكرية بما يخص التنفيذ لكن دون الدخول في شرعية حقّ إسرائيل المفترض في الدفاع عن نفسها أو في منطقية تبنّي خطاب و سياسات داخل إسرائيل تُعتبر في التراث الفكري الأوربي فاشيّةً, و من المؤكد أنه لو ظهر حزب أوربي بهذه الأفكار و السياسات و الممارسات فإنه سيُحارب لتطرّفه الفيلو- نازي.. غالباً ما تتوجّه هذه الانتقادات, الفاترة على كلّ حال, نحو “المبالغة في استعمال العنف”, و إن اضطر الأمر يمكن توجيه إدانة إلى العنف المفرط و لكن دون إدانة إسرائيل كجهة (كأن يدين أحد القضاة جريمة قتل بالسلاح الأبيض لأنه يعتقد أنه كان يمكن قتل الضحية بالخنق بدلاً عن السكاكين, و دون أن يحاكم القاتل), و السمة المميّزة لناطقي هذا الخطاب هي استماتتهم في الاعتذار قبل و بعد كلّ “انتقاد” من هذا النوع .. قد يكتب أحدهم مقالة يخصص أكثر من نصفها لوصف محبّته لليهود و دعمه لحق إسرائيل في الوجود و ليشرح كيف يمنح نفسه الحقّ بانتقاد خفيف “من صديق إلى صديق” ربما لكي يقول أنه يرى أنه لم يكن هناك داعٍ للمبالغة في العنف في الهجوم على غزّة مثلاً.. لا أدري إن كان يقصد أن رقم القتلى مبالغ به و يكفيه لو مات نصف هذا العدد كي لا يكون هناك “مبالغة” في استخدام العنف. و طبعاً دائماً حماس و ما حولها إرهابيون و أشرار و لا يتركون إسرائيل و شأنها و يجبرونها على أن تقوم بما لا ترغب و يرغب أصدقاؤها و أحبابها.
ما سبق هو الخطاب “المعتدل” و الذي يعتبر نفسه حيادياً و راغباً في دعم “الطرفين” في عملية سلام تنهي حالة الصراع “لما فيه الخير للجميع” !
الخطاب الثاني هو خطاب يمين المحافظين الجدد.. يسخر من نظريات التعايش بين الحضارات و يدافع عن حتمية الصراع بين مختلف الحضارات و ينادي بضرورة حسم الحضارة الغربية لهذا الصراع لمصلحتها في وجه العدو الهمجي المتخلّف و المتحجّر الذي يتربّص بالغرب و يريد غزوه و إنهاءه.. و عدو الحضارة الغربية المُفترض في العقدين الأخيرين هو الإسلام و كلّ ما يحيط به, ليست فقط التيارات الإسلامية “الجهادية” بل كل ما يتعلّق بالإسلام في فكرهم. هذه فكرة يبدو أنها تغيب عن كثيرٍ مما يعتبرون أنفسهم ليبراليين في الوسط العربي و الإسلامي.. هم ليسوا “أفضل” في نظر اليمين الغربي المتطرّف من السلفي الجهادي, بل يمكن القول أنهم لا يفرّقون في الاحتقار بين المسلم و المسيحي المشرقي.. و أيضاً لديهم نظرة تحقيرية تجاه “اللاتينيين” الملوّثين بالتعاطي مع المسلمين في فترات تاريخية طويلة و بالكاثوليكيّة التي يعتبرونها سبب تخلّف و تراجع مقارنة بالكنائس الإصلاحية, و رغم هذا التحقير للكاثوليكية و مفرزها الاجتماعي و السياسي إلا أن الجزء الأكبر من اليمين السياسي الكاثوليكي قد التحق بهذه النظريات بطريقة تبدو فيها عقدة النقص أمام العنصر الأنكلوسكسوني أكثر من واضحة و أحياناً مثيرة للسخرية (مثل حالة رئيس الوزراء الاسباني السابق خوسي ماريا أثنار, الذي تدلّ كل كلمة يتفوّه بها و كلّ حركة يتحركها على كونه مستودع عقد نفسية تكره القدر الذي جعله يولد اسبانياً لاتينياً كاثوليكياً بدل أن يولد أنغلوسكسونياً كالفينياً في الشمال الشرقي الأمريكي مثلاً).
أحد أساسات هذا التيار يجعل إسرائيل في قلب فكره السياسي لأنه يتحدّث عن أساسي يهودي-مسيحي للحضارة الغربية يجب الحفاظ عليه و الاستماتة في الدفاع عنه بوجه أي تيارات أخرى تُضعف بنيان هذا الأساس اليهودي-المسيحي للحضارة الغربية في مواجهة أعدائها (المسلمين).. و غلاتهم يتحدّثون كثيراً عن حلف إسلامي- يساري لهدم هذه الحضارة اليهودية – المسيحية لأن “كلا الطرفين يلتقون على كراهية أسس هذه الحضارة”, و بالتالي فإن القول بأن المحافظين الجدد “علمانيّون” إما خاطئ لعدم معرفة أو متعمّد لغرض مهاجمة العلمانية, لكن هذا موضوع آخر يطول الحديث عنه.
يعتبر هذا الخطاب اليميني الغربي إسرائيل رأس حربة في الصراع ما بين الهمجية المشرقية (الإسلامية) و الحضارة الغربية المسيحية- اليهودية التي يجب أن تغلب و تحكم العالم بناءً على أسسها و مبادئها “لكي ينتهي التاريخ”, و بالتالي فإن إسرائيل جزء عضوي من هذه المنظومة الحضارية, بل هو الجزء المقاتل الذي يجب دعمه بكل القوة و العزم لأن انهيارها هو انهيار الغرب (مثلما قال خوسي ماريا أثنار في مقالة كتبها لصحيفة التايمز بعد أيام من قرصنة أسطول الحريّة), و هنا لا يوجد حديث عن فرط في استخدام القوة أو معاتبات أو حتى ملاحظات, بل دفاع كامل و مستميت, و ربما مطالبة بالمزيد. إسرائيل بالنسبة لهؤلاء تستخدم القوّة ليس لأحقيتها في الدفاع عن نفسها بل لواجب تاريخي في الدفاع عن هذه الحضارة الغربية في وجه الهمج المشرقيين المسلمين, و أي تقاعس عن دعم إسرائيل في هذه الحرب التاريخية هو خيانة عظمى, و لذلك لا يحتاجون لسماع سياسي أو مثقف غربي ينتقد إسرائيل لكي يتهموه بمعاداة الساميّة (و الموازية للخيانة العظمى كما قلنا), يكفي ألا يدعمها و يتحمّس لها ما يكفي بتقديرهم.
بالعودة إلى اليمين الكاثوليكي الملتحق بالمحافظين الجدد نجد هناك حالات “بهلوانية سياسية” كوميدية حقيقةً, فنفس اليمين الذي كان منذ أقل من أربعة عقود معادياً لليهود و يبرر أي مشكلة تواجه الأمة بمؤامرة يقودها التحالف اليهودي الماسوني, نفس اليمين الذي تماهى مع كثير من النظريات الفاشية و النازية و دعم حالات تمييزية ضد اليهود منذ بداية القرن التاسع عشر و وصفهم بسرطان أوربا أصبح اليوم ينادي بهم كشركاء و صنّاع لحضارة لم يُقبلوا فيها و طُردوا منها شرّ طردة في عصور سابقة. أحياناً تجد هذا الانقلاب في نفس الشخص ( منذ بضعة أشهر نشر أحد السياسيين المحافظين الاسبان مقالاً نارياً يدافع فيه عن إسرائيل و حقّها في الدفاع عن نفسها و غيرها من الخزعبلات, و قام أحدهم بـ”نكش” مقالة لنفس السياسي تعود لعام 1976 لا يترك فيها شتيمة لا يوجهها لليهود و الصهيونية.. سبحانه مغيّر الأحوال).
تُدعم الخطابات السياسيّة بإمبراطوريات إعلامية ضخمة تروّج له و تؤثّر في الرأي العام بطرق مختلفة, فعلى سبيل المثال اطّلعت على حلقة من مسلسل بوليسي أمريكي يروي “مغامرات” فريق تحرّيات جنائية يضم ضابطة ارتباط من الموساد الإسرائيلي, و في هذه الحلقة يطلب القائد من الضابطة أن تحقق مع المتهم فترد عليه الضابطة بابتسامة ماكرة بأنها لا تعرف التحقيق دون “وسائل التسبب بالألم” (و طبعاً تقصد التعذيب) فيرد عليها القائد ضاحكاً أن عليها أن تتخلى عنها في الولايات المتحدة.. هذا مثال عن كيفية “تطبيع” الهمجية إن كانت موجّهة نحو “الأعداء” الذين ليسوا بشراً بالأساس في نظر هذه الفكرة العنصرية.. لا مشكلة في استخدام التعذيب أو الاسراف في القتل (في مقطع آخر تتباهى الضابطة بأنها جرّبت القتل بمختلف الطرق.. حتى باستخدام مناديل ورقية) مع “الأعداء” الهمج, لكنهم “حضاريون” فيما بينهم. و هذه الفكرة السياسية المدعومة إعلامياً تبرر كل التجاوزات الإسرائيلية و الأمريكية بوقاحة منقطعة النظير.. لا يحاولون تغطيتها أو تجاهل وجودها و إنما يعتبرونها ضرورية في المعركة المصيرية للدفاع عن الحضارة أمام الهمجية المتربّصة بها.
من المؤكد أن هناك الكثير من الأخطاء العربية في التعامل مع كلّ هذه الخطابات المؤثرة في الرأي العام الغربي (و العالمي ككل أيضاً.. ففي عصر العولمة أصبح لفوكس نيوز تأثيراً حتى على الرأي العام العربي نفسه), منها ما ينبع عن ضبابية الرؤية بخصوص ما يُنتظر من الرأي العام الغربي و مدى جدوى الاستثمار في تغييره لمصلحة القضايا العربية, و منها ما يتعلّق بأخطاء في الخطاب تعود إلى عدم دراسة فروقات التقبلات الفكرية و الخطابية بين الشعوب العربية و الأوربية أو الأمريكية مما يؤدي أحياناً إلى نتائج معاكسة تماماً للمُراد (مثل الانجذاب السحري لدى كثيرٍ من العرب نحو دخول ساحة الصراع حول تصديق الهولوكوست و نفيه أو تبريره بطريقة ساذجة جداً).. لكن كلّ هذه الأخطاء تبقى بلا معنى و لا أهمية عندما نتذكّر أن ثاني أكبر رأسمال مساهم في كبرى امبراطوريات إعلام المحافظين الجدد هو عربي و يتبع لشركة رائجة في المنطقة إن كان في الانتاج الفني أو الاستثمار السياحي.. أي أن الكثير منا يستثمر باستهلاكه لمنتجات هذه الشركة في أكثر الخطابات عنصرية ضد العرب و دعماً لإسرائيل و كلّ جرائمها ضد الشعب الفلسطيني..
إن كنا شركاء في العنصرية ضدّنا, فكما يقول المثل الاسباني: أطفئ الضوء و هيّا بنا نرحل…

http://www.syriangavroche.com/

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى