الدور التركي في المنطقةصفحات العالم

تركيا وأكراد العراق: شراكة في الأمن والأعمال والمستقبل

كامران قره داغي
لم يمض سوى وقت قصير نسبياً، وتحديداً منذ شباط (فبراير) من العام الماضي، على التوتر الذي بلغ ذروته بين تركيا وإقليم كردستان العراق، عندما حشدت انقرة نحو 100 ألف جندي على الحدود تمهيداً، أو تهديداً، لشن هجوم واسع على مواقع حزب العمال الكردستاني في جبال قنديل الكائنة في المناطق الخاضعة لادارة الإقليم، وكان يمكن ان يؤدي ذلك الى عواقب وخيمة في حال وقع احتكاك مباشر بين القوات التركية وقوات البيشمركة الكردية العراقية. من حسن الحظ أن شيئاً من هذا لم يحدث، الأمر الذي خيّب البعض من الترك والعراقيين وفي المنطقة ممن لديهم مصلحة في تأجيج النزاعات.
ما حدث في الواقع هو العكس. فترطيب الأجواء بدأ بزيارة قام بها الرئيس جلال طالباني الى أنقرة مباشرة بعدما بات واضحاً ان الهجوم المفترض لم يحدث. وعلى مدى الأشهر اللاحقة شهدت بغداد زيارة للرئيس التركي عبدالله غول وزيارتين لرئيس الوزراء رجب طيب أردوغان. غول التقى خلال زيارته رئيس وزراء الإقليم وقتها نيتشيرفان بارزاني الذي وصل الى بغداد خصيصاً لذلك اللقاء. كذلك قام المبعوث التركي الخاص الى العراق مراد أوزجيلك (عُين حديثاً سفيراً في بغداد) بزيارات عدة الى العراق حيث التقى خلالها بمسؤولين أكراد بارزين في مقدمهم رئيس الإقليم مسعود بارزاني.
لكن الاختراق المهم في العلاقات حصل في نهاية الشهر الماضي عندما زار أربيل وزير الخارجية التركي أحمد داوود أوغلو، الذي أقام ليلة في عاصمة الإقليم، وأجرى محادثات مع بارزاني، فيما رافقه وفد كبير ضم وزراء ورجال أعمال وتم خلال الزيارة توقيع اتفاقات تجارية عدة بين الطرفين. الطرفان اعتبرا الزيارة «تاريخية» وأنها فتحت آفاقاً رحبة أمام التعاون بين الطرفين في كافة المجالات.
بعد يومين على زيارة داوود اوغلو الى أربيل عقد في اسطنبول (3-4 من الشهر الجاري) مؤتمر تحت عنوان «الطريق الى امام» لمناقشة العلاقات التركية – الكردية اشتركت في تنظيمه مؤسستان اميركيتان، مجلس الاطلسي والجامعة الاميركية، ووزارة الخارجية النروجية. الأخيرة معروفة بدورها في تنظيم مثل هذه النشاطات أو دعمها، و «أوسلو» ابرز الأمثلة على ذلك.
مؤتمر اسطنبول أُعدَّ له منذ نيسان (ابريل) الماضي في ختام الجولة الاولى من المؤتمر الذي عُقد في واشنطن وحملت تلك الجولة عنوان «بناء اجراءات الثقة بين تركيا وأكراد العراق» (لتجنب استخدام «إقليم كردستان» مراعاة للحساسية التركية). كاتب هذه السطور شارك في الجولتين. وكان المفروض عقد الجولة الثانية تحت العنوان الاول نفسه الذي تم تثبيته في الدعوات الموجهة الى المشاركين. لكن الاستمرار في الحديث عن «بناء الثقة» بدا غير مناسب بعد الزيارة «التاريخية» التي قام بها داوود اوغلو الى أربيل والاعلان عن قرب فتح قنصلية تركية فيها، فارتُئِي في اللحظة الأخيرة تغيير العنوان الى «الطريق الى أمام» طالما ان بناء الثقة اصبح تحصيل حاصل. وشاركت في الجولتين شخصيات تركية وكردية بينها وزراء في حكومة الإقليم.
منسق المؤتمر ديفيد فيليبس الذي مثل مجلس الأطلسي والجامعة الاميركية معاً كتب مقالاً نشرته الأسبوع الماضي صحيفة «فاينانشيال تايمز» اللندنية في ضوء هذا التطور المهم في العلاقات بين أربيل وأنقرة أوجز فيه التطوارت المهمة التي حدثت بين مؤتمري واشنطن واسطنبول على صعيد العلاقات بين الطرفين وصولاً الى زيارة داوود أوغلو. فيليبس لاحظ مصيباً، بين أمور أخرى، أن الطرفين اتخذا قراراً استراتيجياً بأن مصالحهما يمكن حمايتها في شكل افضل عبر التعاون المشترك بدلاً من المواجهة. هذا التفاهم هو وليد ضرورات براغماتية وجغرافية. فأكراد العراق يدركون ان مستقبلهم هو نحو الغرب وليست أرضهم أرضاً محاصرة من دون منفذ. بعبارة اخرى الطريق نحو الغرب يمر عبر تركيا. فوق هذا كله فإن أكراد العراق باتوا مقتنعين بأن تركيا دولة «عاقلة». فهي التي حمتهم في 1991 ووفرت لقوات التحالف قاعدة انجيرلك الجوية لحماية ملاذهم الآمن. وعموماً ترى تركيا ان تعهدها أمن إقليم كردستان يمكّنها من التأثير في توازن القوى في العراق.
في المقابل، كردستان العراق هي بوابة تركيا نحو العراق ومنه الى الخليج. الى ذلك تركيا والإقليم شريكان تجاريان طبيعيان، وهذه الشراكة لم توقفها كل التوترات التي حصلت بين الطرفين. الأرقام الحالية تشير الى ان حجم التجارة بينهما يبلغ خمسة بلايين دولار وسيرتفع الى عشرة بلايين هذا العام ويمكن ان يصل الى 20 بليوناً خلال 2010. وهناك 1200 شركة اجنبية تنشط في إقليم كردستان نصفها تركية بينما تستحوذ تركيا على 90 في المئة من السلع المستهلكة في الإقليم.
الى ذلك يمتلك الإقليم في باطن اراضيه احتياطياً من النفط يبلغ 40 بليون برميل وحقولاً هائلة للغاز تركيا في أمسّ الحاجة اليه كي تملأ به انبوب نابوكو المتجه الى الغرب. علماً ان شركة «جينيل إنيرجي» التركية وقعت عقداً مع الإقليم للمشاركة في حقلي نفط طق طق وطاوكه لانتاج مليون برميل من النفط يومياً وهي كمية تفوق ما تنتجه تركيا بعشرين ضعفاً.
يمكن تأكيد ان انقرة، التي يسيطر عليها هاجس وحدة اراضي العراق، بدأت أخيراً تتخلى عن شكوكها في نيات الأكراد العراقيين إذ كانت ترتاب في انهم يسعون سراً الى الانفصال وإعلان دولتهم المستقلة. أسباب هذا الهاجس معروفة تتعلق بوضع أكرادها ووجود حزب العمال الكردستاني الذي تعتبر تركيا انه يشكل تهديداً لأمنها القومي.
لكن إذ تتزامن الخطوات نحو تحسن العلاقات بين أنقرة وأربيل مع عزم حزب العدالة والتنمية الحاكم في تركيا على ايجاد حل لوضع أكرادها، فإن انفتاحها على إقليم كردستان والتوجه نحو إقامة علاقات نوعية جديدة معه من شأنه ان يزيح عقبات كثيرة أمام قيادة الإقليم وصولاً الى تطابق المواقف من أجل إيجاد حل نهائي لمشكلة العمال الكردستاني المنهكة لتركيا وإقليم كردستان العراق معاً، وبالتالي التطلع الى مستقبل مشترك.
الحياة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى