صفحات العالمميشيل كيلو

معادلة مزدوجة: هل الحكم الاسلامي المتطرف بديل للانظمة؟

null
ميشيل كيلو
يخشى الغرب الأصولية الإسلامية. وتخشى النظم العربية الديمقراطية. في هذه المعادلة البسيطة، التي يبدو وكأن طرفيها توافقا عليها، ترسم النظم العربية صور الخطر الإسلامي، الأصولي وغير الأصولي، بألوان مبالغ فيها، قاتمة ومرعبة كي تقنع الغرب أن الحكم الإسلامي المتطرف هو بديلها الوحيد الممكن أو المحتمل، وتجبره بالتالي على إعلان تأييده لها وتمسكه بوجودها، لأنها أفضل الخيارات الممكنة، بالنظر إلى خبرتها في محاربة الأصولية وكم أفواه مواطنيها وتجاهل حقهم في الحرية والمواطنة وحقوق الإنسان، واستعدادها لارتكاب أية أفعال مهما كانت قاسية ضد شعوبها. بمثل هذه ‘التزكية’، وبقدر كبير من التخويف والتهويل، يصدق الغرب ما تسمعه أذناه ويفبرك أمام عينيه حول خطر الأصولية الداهم، الذي سيطاوله إن هو قصر أو تراخى الغرب في دعم النظام العربي الراهن، أو مارس ضغوطا عليه، أو تسبب في اهانته أو تعريضه لمتاعب جدية، أو سمح بإضعافه، لما سيترتب على ذلك من أخطار داهمة على ‘الاستقرار’ العربي ومراكز الحضارة المتقدمة في البلدان الغربية، في آن معا.
في ظل هذا الابتزاز الناجح ‘العطف أو تعاطف الغرب’، يرى هذا في النظم العربية حصونا تصد عنه خطر الإسلاميين، تتخذ مواقف من هؤلاء تتعين باعتبارين : أن لا يقوى الإسلام السياسي إلى الدرجة التي تهددها فعلا، ولا يضعف إلى حد يحول دون نجاح تخويف الغرب بخطره. هكذا، تتنوع حسابات النظم وخطواتها حيال الإسلام السياسي بتنوع أوضاعه وتتسم بأقدار متباينة من الشدة واللين، بينما تعبر مواقف النظم من القوى الديمقراطية والعلمانية عن قلق مبدئي لا يبرره رغم صغر حجمها وضمور دورها ونفوذها وخطرها، فلا تكتيك هنا بل حذر وتوجس وملاحقة في كل مكان، ما دام وجود قوى ديمقراطية وعلمانية يمكن أن تشكل منافسا للإسلاميين يحبط أطروحة النظام حول بدائله، وقد يقنع الغرب بتغييّر موقفه ويقلص خوفه من الأصولية، مما يقوض معادلة النظم، التي تلعب دورا مهما في استقرار الأمر القائم، ويهدد سياساتها وعلاقاتها مع داخلها والخارج، ويربكها ويفسد ألاعيبها.
يخوض الغرب حربا عالمية بالغة الغباء ضد الأصولية الإسلامية، ويدعم بغباء أشد النظم التي تحاربها أو تدعي محاربتها، ويعمل لتمكينها من كبحها أو السيطرة عليها، بتعزيز ما لديها من خبرة وأجهزة مدربة، وتزويدها بما يلزم من تقنيات حديثة وأموال، وإقامة أشكال من التنسيق الأمني/ السياسي بعيد المدى معها، ومسامحتها على ما تفعله بشعوبها عامة وبالقوى الديمقراطية / العلمانية خاصة. من جانبها، تستغل النظم صمت الغرب، أو مواقفه المؤيدة لضرب القوى والحركات الديمقراطية / العلمانية والسلمية، ولإضعافها وإبقائها تحت سقف منخفض، فلا تصير قوة يحسب لها حساب في توازنات القوى داخل بلدانها، إن تركت لها فرص النمو والعمل الحر. بذلك، يرى الغرب ‘الديموقراطي’ في حرب النظم على التيارات الديمقراطية / العلمانية شأنا داخليا، يتجاهله خشية إضعاف النظم في ‘الصراع الحقيقي’ ضد الأصولية الإسلامية والإرهاب. مع هذه المفارقة، لا يرى الغرب تناقضا بين موقفه الداعم لنظم تطارد القوى الديمقراطية وتلاعب الإسلاميين وتفبرك حركات مزعومة لهم، وبين إعلاناته المتكررة عن تأييد الديمقراطية، التي يبدو أن فكرتها شيء والقوى الحاملة لها شيء آخر، لذلك تراه ‘يدافع’ عن فكرتها ويسكت على قمع قواها ويتعامي عن ما يحدث لها، متجاهلا أن لديها فرص نمو حقيقية في مجتمعاتها، وأن بوسعها التحول إلى قوة ضغط مؤثرة على الأصولية، ولعب دور متزايد الأهمية في تقييد انتشارها، وإقامة أوضاع تسهم في جعل الشعب حصينا في مواجهتها.
هل هناك حقا خطر أصولي داهم يسوغ دعم الغرب للنظم في معظم البلدان العربية ؟ وهل تمثل هذه النظم، الفاسدة حتى النخاع والعاجزة حتى العظم، جدار صد حقيقي وفاعل يستطيع منع تصاعد وانتشار الخطر الأصولي، سواء بما تمارسه من سياسات أو تعتمده من مواقف حيال مشاكل شعوبها وأوطانها : بدءا بلقمة الخبز وصولا إلى فرص العمل، ومن المقعد الدراسي إلى سرير المستشفى، ومن المشاركة في الشأن العام التي يكفلها قانون يقال إنه السيد الوحيد في الدولة إلى حرية القول والعمل المقيدين والمكروهين؟ من الضروري طمأنة الغرب إلى أن الأنظمة التي يدعمها خوفا من الأصولية هي التي لعبت دورا حاسما في إنجابها وتقويتها، فليست مؤهلة لكبحها والحد من خطرها، كما أنها تحملت في الماضي القريب وتتحمل اليوم وستتحمل في المستقبل أيضا مسؤولية مباشرة وجدية عن بروزها، الذي يتعاظم وسيتعاظم بالفعل بقدر ما يطول عمر الفساد المستشري والاضطهاد المتفاقم والإخفاق السياسي والاجتماعي والاقتصادي الرسمي المتمادي. ومن يقارن منتصف القرن العشرين الأول مع منتصفه الثاني سيضع يده حتما على بعض أسباب صعود التيار الأصولي، داخل السياسة الإسلامية من جهة، وفي كل نظام وبلد من نظم وبلدان العرب من جهة أخرى. إن فقدان أهلية النظم للحكم، وفشل مشاريعها السياسية والاجتماعية، على الصعيدين الوطني والقومي، وقمعها أي حراك مجتمعي حر وخارج عن سيطرة أجهزة السلطة الأمنية، وإقصاء الحرية والمواطنة عن المجال العام والخاص، هي العوامل الرئيسية التي جعلت خطر الأصوليات داهما، وإن بدرجات تتفاوت من بلد إلى آخر. وإذن، فإن دعم الغرب لنظم ترفض تغيير الأسس التي أنجبت الأصولية وإصلاح أوضاعها وتغيير علاقاتها مع مجتمعاتها، وصمته المشين عن قضائها المنظم والمنهجي على أي نشاط أو قول حر: ديمقراطي وعلماني، هو سياسة خاطئة من ألفها إلى يائها، تتكامل مع سياسات النظم الخاطئة من ما قبل ألفها إلى ما بعد يائها، وتشجع عمليا النظم على رفض أي إصلاح للأوضاع القائمة وتغيير أي شرط من شروط عمل السلطة، وتطبيع علاقاتها مع الدولة والمجتمع والمواطن، ووضع حد لفسادها ونشر ثقافة التسامح والحوار والتفاهم مع مواطنيها. لو كان الغرب يجزي مواقف النظم بالمغانم، إن هي أجرت إصلاحات تسمح بممارسة حرية يضبطها توافق وطني جامع. ولو كان يفرض عليها عقوبات، في حال واصلت التمسك بأوضاعها الفاسدة وسياساتها المخربة، التي لا تبقي لمواطنيها أي خيار غير تبني آراء أصولية والإرهاب، لحصن الغرب مواقفه ضد الأصولية. أما أن يجزي القمع ويسكت عن أوضاع تنتج الأصولية، فهذا ليس سياسة حتى يكون قادرا على وقف زحف التطرف تحت، أو الحد من الاستبداد والفساد فوق.
لا تأتي الأصولية من عقول الناس بل من واقعهم. لو كان منبعها عقولهم، لكانوا أصوليين على مر تاريخهم. لكن التاريخ يخبرنا أنهم لم يكونوا أصوليين إلى ما قبل فترة قريبة، مع أنهم كانوا وظلوا مسلمين دوما. وليست الأصولية ابنة الإسلام، إنها نتاج واقع يغلق باب التقدم والحياة الحرة والكريمة في وجه مواطن مظلوم لم يبق لديه أي رد على بؤسه المتفاقم غير ‘فكر ‘مذهبي يتسم بقدر عظيم من الفوات والتهافت والتقليدية. الأصولية ابنة واقع حول علمانيين كثيرين إلى أصوليين / علمانيين من أنماط مختلفة، فهم قوميون وشيوعيون وليبراليون وديمقراطيون، لكنهم في الوقت نفسه أصوليون : كل حسب أيديولوجيته وحزبه وطريقته في الحكم أو المعارضة، ويأتي على رأس الأصوليين لعلم الغرب الغبي – أولئك الذين يمسكون بالسلطة ويساندهم ضد الأصولية الإسلامية. والحق، إن الأصولية لا تقتصر على الإسلاميين، وإن كانت واسعة الانتشار بينهم، لأن نظم الحداثة القمعية والفئوية جعلتهم ينغلقون على أنفسهم ويتبنون خيارات أصولية، وعندما انتبهت إلى ما يجري لهم، عالجت أمرهم بطريقة دفعتهم إلى مزيد من الانكفاء على الذات وتاليا مزيد من الأصولية، وأخرجتهم من السياسة والشأن العام كي تستأثر بمفردها ودون أي شريك وطني بالبلاد والعباد، وتتصرف على هواها بالمال العام، والثروة العامة، والعلم والمعرفة والإعلام، والقوة والسلطة، وتنفرد باحتلال قنوات التواصل الفردي والمجتمعي، وتمتلك لغة خاصة بدوائرها لا يفهمها المجتمع ولا يستطيع فك رموزها، تتيح لها معرفة كل شيء عنه وتحول بينه وبين معرفة أي شيء عنها. هنا، في هذه النقطة، وقع النظام العربي في شر أفعاله : إن انكفاء المواطنين على أنفسهم لم يحمل معنى خروجهم من السياسة بإطلاق، بل أخرجهم من سياسات النظم ودفعهم في الوقت نفسه إلى البحث عن سياسة بديلة سرعان ما وجدوها عند الأصولية، التي لم تنقل إليهم برنامجا لا يعرفونه، ولم تخاطبهم بلغة مغلقة وخاصة لا يفهمونها، بل اكتفت بتذكيرهم بما يعتمل في عقولهم ونفوسهم من أفكار مسبقة تقليدية ومذهبية. هكذا، حصدت الأصولية نتائج إقصاء الشعب بالقمع والتخويف من المجال العام، وعرفت كيف تقلب عزلة المواطن وبعده عن النظام إلى منبع رئيسي لها، قدمت لمن انتسبوا إليه مجالا عاما هو نقيض المجال الذي طردوا منه، من حيث عمقه ونقائه وقربه من عقولهم ونفوسهم. خاطبت الأصولية ذاكرة مواطن يرى بعينيه خراب وفساد دنياه الرسمية، فهي نتاج تلاقي إقصائه من الحقل العام والشأن العام وذاكرته التي تحفظ نظاما مختلفا يكمن داخلها، خدرته فحجبته لفترة لغة خلابة سمعها في الخمسينيات والستينيات، زينت له الانضواء في واقع فردوسي سيجعله النظام في متناوله، يتفق مع ما في ذاكرته من قصص عن العدالة والمساواة والكرامة الإنسانية. وعندما انكشفت الحقيقة لعينيه خلال العقود الأربع الماضية، وتأكد أنها لا تمت بصلة إلى الوعود التي خدرته، انكفأ على ذاته: على ما فيها من نزوع نحو العدالة والمساواة والكرامة، واكتشف أن لكل واحدة من هذه المفردات مضامين مختلفة في فكره الديني وذاكرته آمن أنها هي الصحيحة، لاتفاقها مع هويته وشعوره، ولأنها تمده بسكينة روحية ونفسيه تعوضه عن الظلم الواقع عليه باسم عدالة ومساواة حاكمين لصوص. ماذا يمنع المواطن من إنجاز قطيعته مع الأمر القائم، والسعي إلى الأصولية بملء إرادته ؟.. بعد القطيعة التي حدثت في الواقع بين الحاكم والمحكوم، وبين معاني ومفردات السياسات المختلفة، كان من المحتم قيام مدرستين عامتين هما: الأصولية الدينية والأصولية المقابلة: الرسمية / السياسية، إلى جانب نتوء ديمقراطي / علماني صغير.
بخروجه من النظام وعالمه السياسي، وعودته إلى عالمه الداخلي بما هو ساحته السياسية الحقيقية، التي يستطيع أن يمارس فيها حرية على مقاسه لا يقيدها أحد، خسر النظام بنيته التحتية : كما تتجسد في المواطن، ولم يبق له غير بنيته الفوقية، أجهزة قمعه، التي أخذ ينتج ذاته انطلاقا منها، وبالتحديد من رأسه، رئيسه، ويعيش بفضل أجهزة يجسم وجودها أزمته، لكنه لم يعد يمتلك أية حماية غيرها ضد ‘شعبه الأصولي والمعادي’. بذلك، انشطر المجال السياسي إلى عالمين: واحد سلطوي يرتبط بالأجهزة السرية والأمنية وآخر مجتمعي ركيزته المواطن المضطهد، وبينما يملك الأول جميع وسائل القوة والسيطرة والثروة، يفتقر الثاني إلى جميع أنواع الحقوق، بما في ذلك الحق في الحياة، وفي أحيان كثيرة حتى في الوجود. من هذه اللحظة، تعمق ابتعاد أحدهما عن الآخر، وقامت بينهما هوة تزايدت صعوبة تخطيها، ولم يبق أي تواصل بين فوق وتحت غير ‘التواصل ‘الذي يتيحه الخوف والعنف : تواصل التنافي المتبادل، الذي يضع سلطة مسلحة وعنيفة في مواجهة شعب أعزل، سلاحه الوحيد انطواؤه على حقده وغضبه وإحساسه بالمهانة والخديعة، وما في رأسه من زاد يفتح أمامه باب الاغتراب المتعاظم عن واقع ظالم، واستعداده المتزايد لمواجهته بالوسيلة التي يستخدمها النظام في علاقاته معه: العنف.
هل النظام القائم، الذي ينتج الأصولية، قادر على التصدي لها وإيجاد حلول ناجعة لمشكلتها؟ وهل يصح أن تعتبره أوروبا والغرب درعا يقيها الأخطار، إن كان هو الذي يوطدها في الواقع العملي، ويعمق ما فيها من نزوع إلى الإرهاب، بامتناعه عن مواجهتها، أو لسماح للديمقراطيين بمواجهتها، بالعقلانية والتسامح والتنوير، وإصراره على اعتبار الأصولية حالة أمنية لا علاج لها غير القمع، لا دور في مواجهتها لقوى المجتمع الراغبة في التغيير والداعمة له، والتي تشلها السياسات الأمنية المدعومة غربيا وتجبرها على متابعة الشأن العام من بعيد؟.
أخيرا، هل يجوز أن تستمر لعبة الخداع المزدوجة، التي يأخذ الغرب فيها دور الخائف من الأصولية والإرهاب والداعم لنظم تركز قمعها على الديمقراطيين والإصلاحيين والعلمانيين، تجعل كل مسلم أصوليا وتتلاعب بحقيقة أن أغلبية المسلمين ليسوا إسلاميين حتى يكونوا أصوليين، وأن الأصولية ليست إسلامية فقط، بل هي أيضا علمانية وقومية واشتراكية وليبرالية … الخ.
متى تتوقف هذه اللعبة ويحل محلها تحالف عريض يضم كل من ليس أصوليا ؛ تحالف يقوم على عقد سياسي/ اجتماعي يقر كل طرف من أطرافه بشرعية وقانونية أطرافه الأخرى، ويتوافق معها على تكامل في مواقفها وجهودها يعزز تنوعها، حماية للبلاد والعباد، وتحديا للأصولية بقوة معطلة تماما هي قوة الحرية : القادرة وحدها على إخراج المواطن من عالمه المذهبي المغلق، وعلى إدخاله إلى عصره وحل مشكلاته، بعد أن أدى احتجازه إلى يأسه من الحداثة وخروجه من عالمها.
لا تحل معادلة النظم المزدوجة مأزق الغرب مع الأصولية. وقد حان وقت الخروج من المخادعة المتبادلة، التي تقوي مخاطر الأصولية وتشل قدرات الديمقراطية وتخضع الشعوب لقمع يتصاعد من يوم لآخر، بينما تعاني المجتمعات العربية حالة احتجاز وانحطاط تجعل الوطن العربي والعالم الإسلامي قنبلة موقوتة يهدد انفجارها أمن وسلام العرب والمسلمين والبشرية جمعاء.

‘ كاتب وسياسي من سورية
الخليج

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى