صفحات ثقافيةمنذر مصري

مقدمة … لأنّي لستُ شخصاً آخر

null
بمناسبة قراءتي لهذه المقدمة في المركز الثقافي الفرنسي للشرق الأدنى في دمشق، بتاريخ 7/2/2011
منذ البداية، كان على شعري وهو في طريقه إلى النشر أن يواجه الكثير من العراقيل والعوائق. باكورتي (آمال شاقة)، لم تصدر أبداً، إلاّ أنّي، اعترافاً بأنها من صلبي، كما العديد من قصائدي التي لم يكن لها أدنى فرصة بالنشر، مثل (فلسطيني وسوداني والثالث مغربي) و(بيروت جثة ترتدي ثوب السهرة) و(كتاب الهند الصغير) و(ساقا الشهوة)، طبعتها على الآلة الكاتبة ونسختها بأعداد محدودة، ومن ثم وزعتها وكأنها منشورات سرية، على حد تعبير أحدهم، على الأصدقاء وغير الأصدقاء.
ورغم أن أول قصائدي النثرية نشرت في مجلة الموقف الأدبي، العدد الخاص بحرب تشرين – 1973، عندما كان يرأس تحريرها زكريا تامر، فقد سبقني كلّ أقراني الشعريين، نزيه أبو عفش، بندر عبد الحميد، عادل محمود، وحتى رياض الصالح الحسين أصغرنا سناً، في إصدار مجموعاتهم، ولم تصدر مجموعتي الشعرية (بشر وتواريخ وأمكنة) وزارة الثقافة السورية، حتى الشهر الأخير من السنة الأخيرة من عقد السبعينات /1979/، العقد من السنين الذي كتبت فيه ما جعلني أصدق نفسي، وجعل الآخرين، ليس جميعهم!، يصدّقون أني شاعر. وكانت تتضمن ما أطلقت عليه، حينها، قصائدي العمومية، وقد تنبّه لخلوها من أيّة قصيدة حب رياض الصالح الحسين عندما كتب في مقالته النقدية الوحيدة: (منذر مصري يؤرشف حياتنا اليومية) صحيفة تشرين- 5/1/1980: “فوجئت عندما لم أجد في المجموعة قصيدة واحدة عن علاقة الرجل بالمرأة”. لكني بعدها جمعت ما يقارب المائة قصيدة حب، لمرام مصري، أختي، ولصديقي الراحل محمد سيدة ولي في مجموعة مشتركة: (أنذرتك بحمامة بيضاء) صدرت أيضاً عن وزارة الثقافة /1984/. ثم في /1989/ لم يتح ل(داكن) أن يبدد دكنته ويظهر للضوء، صدر وصودر من قبل وزارة الثقافة نفسها، بعد أن تمت الموافقة عليه بقرار، وقبضت مكافأته، وطبع منه /2000/ نسخة، رجوت حينها أن يحرقوها، بدل رميها، عن بكرة أبيها، في حاوي ة قمامة. حتّى إنهم لم يزودوني بنسخة مطبوعة منه، للذكرى!؟ كما وعدوا، إضافة إلى أنهم لم يعيدوا لي المخطوطة الأصلية!؟.
الأمر الذي أدّى إلى قطع علاقتي كشاعر، ولكن ليس كصديق، مع الوزارة ومديرية التأليف والترجمة فيها، بعد أن كنت واحداً من بين الشعراء القليلين المعدودين (المحسوبين) عليها، مقابل شعراء كثيرين، أغلبيتهم المطلقة شعراء قصيدة تفعيلة، كانوا محسوبين على إتحاد الكتاب العرب، الجهة الرسمية الثانية المكلفة بطبع وإصدار الكتب في سورية، هذا الإتحاد الذي لم يوافق على طبع (آمال شاقّة)، كما لم يوافق على قبولي عضواً فيه رغم استيفائي، حين قدّمت الطلب في عام /1980/، لشروط العضوية كاملة. وهكذا، مثلي مثل أشباهي من الشعراء غير الحزبيين وغير المحسوبين على أيّ طرف، أوصدت كلّ أبواب النشر في وجه شعري.
ولكن بعد أن قامت مجلة (الناقد) البيروتية بنشر (ساقا الشهوة) /1995/، القصيدة الملعونة التي كانت السبب الأول في منع (داكن)، ومزّقت الرقابة السورية صفحتيها من المجلة، كما حصل في عدّة بلدان عربية، جاءني اتصال هاتفي من شركة رياض الريس للكتب والنشر في بيروت، يسألني فيه شخص لم أكن أعرفه، اسمه يوسف بزي، ما إذا كان لدي الرغبة في طبع مجموعة شعرية عندهم؟. وكان ذلك إثر زيارة له لدمشق وشرائه (بشر وتواريخ وأمكنة) من بسطة كتب على الرصيف. وهكذا صدرت (مزهرية على هيئة قبضة يد) /1997/ متضمنة أغلب قصائد مخطوطة (الصدى الذي أخطأ)، إضافة لقصائد متفرقة : (ساقا الشهوة)، (بيروت جثة ترتدي ثوب السهرة)، (قصائد أخرى من الغرفة)، وست قصائد من (بولينيزات)، فكانت وكأنّها مختارات لشاعر لم يصدر سابقاً في حياته سوى مجموعة واحدة!؟.
ثم لا أدري أيّ مزاج كدر كنت أرتع فيه لسنوات، سمح لي أن لا أدفع بمجموعة جديدة للنشر حتى /2004/، حين صدر لي عن شركة الريس أيضاً مجموعة (الشاي ليس بطيئاً) متضمنة القصائد التي كتبتها في النصف الثاني من عقد التسعينات. والتي في ظنّي تمثل بداية توجه جديد في تجربتي.
غير أنه في /2006/ صدر لي عن دار أميسا في دمشق، التي أغلقت بعد إصدارها الروايات الثلاث لصاحبها خالد خليفة، وكتاب واحد هو: (المجموعات الأربع الأولى)، وكان بمثابة الجزء الأول من أعمالي الشعرية، متضمناً (آمال شاقة) و(بشر وتواريخ وأمكنة) و(الحب يرى، الكره أعمى) و(دعوة خاصة للجميع). والشيء اللافت في هذا، هو أن ثلاث مجموعات منها لم تكن قد صدرت سابقاً، مما دفعني للإحساس: (بأنه أشبهُ بشيءٍ يحدث للموتى!!).
بعدها بسنة وبضعة أشهر، كانون الثاني 2008، صدرت لي مجموعة جديدة: (من الصعب أن أبتكر صيفاً) عن دار الريس أيضاً. التي تتضمن قصائدي التي كتبتها خلال عامي /2000/ و/2002/. الأمر الذي أشعرني لأوّل مرّة، بأن الأمور بدأت، ولو متأخرة، تأخذ مساراً شبه مقبول بالنسبة لي. وصار واضحاً بأنّ علي أن أتابع في توضيب القصائد التي كتبتها في عقد الثمانينات وبداية عقد التسعينات، ضمن مجموعات وهمية جاهزة للطبع: (داكن والقصيدة الملعونة)، (بولونيزات وتجارب أخرى ناقصة)، (رجل أقوال)، و(لمن العالم والمطولات)، ثم إصدارها مجتمعة في الجزء الثاني من أعمالي الشعرية، ليأتي بعده الجزء الثالث متضمناً: (الصدى الذي أخطأ) و(الشاي ليس بطيئاً) و(منذر مصري وشركاه) و (من الصعبِ أن أبتكرَ صيفاً). أما ما سيتبع ذلك فهو ليس في مجال رؤيتي بعد.
إلاّ أنه من العدل القول، إن مشاكل شعري مع النشر لم تكن تعود فقط إلى الظروف التي كانت تتحكم بآليات نشر الشعر والأدب عموماً في سوريا، أقصد ما كانت عليه أحوال الجهات العامة التي تخصص لها الدولة في سوريا ميزانيات مالية معتبرة، لطبع وإصدار الكتب الأدبية والفكرية، وكذلك دور النشر الخاصة التي بدأت بالظهور منذ الثمانينات، والتي سنت قانوناً ينص على أنه لا تطبع المجموعات الشعرية إلاّ على حساب أصحابها، بل ربما جزء كبير من مشاكلي هذه سببها الأهم كان وما زال، يرجع لطبعي الشخصي ومزاجي الخاص، مرجئ، ومتباطئ، ومتبرم، ومكابر.. نعم بمكابرة خرقاء، كنت أرفض طبع أي مجموعة شعرية على حسابي، الأمر الذي فعله شعراء كثيرون يقلّون عني ملاءة مادية ويزيدونني مكانة وشهرة. متعللاً بأنه لا يليق بشاعر يحترم تجربته، أو على الأقل يريد لتجربته أن تبدو محترمة، أن يقوم بإصدار مجموعاته الشعرية على حسابه. ولكنّي في الوقت نفسه، عندما كان يأتي ناشر جديد ما، ويعرض علي نشر مجموعة في داره، حصل هذا أكثر من مرة، كنت دائماً أتقاعس في قبول هكذا تضحية، حتى جاء الوقت ولم أجد مفراً من قبول عرض رياض الريس، ثم بعدها دار أميسا، كما ذكرت. فإلى متى سأظل مستمتعاً بتمثيل دور الضحية؟ إلى متى سأظل مطمئناً لفكرة أنه سيأتي مسؤول عن دار نشر عربية كبيرة، هيئة رسمية ما، دار نشر ينشئها صديق جمع قدراً لا بأس به من المال أثناء عمله في إحدى دول الخليج، في المستقبل القريب أو البعيد، ويصار إلى إرغامي على أن أقدم لهم مخزون شعري كاملاً، فيقومون بطبع وإصدار مجموعاتي القديمة والحديثة، إيماناً بأني شاعر له تجربة تستحق أن يطلع عليها جمهور الشعر في مختلف أنحاء الوطن العربي، وأنه يتوقع له، إذا نشر شعره، شهرة عربية ودولية مدوية، وربما، نيل جائزة نوبل، لماذا لا؟ أ ليس كل من فاز بها سابقاً أناساً يقعون على مؤخراتهم ويقضون حاجاتهم مثلي، على حد تعبير بوب ديلان في إحدى أغنياته الاحتجاجية. كل هذا وأنا لم أنل في حياتي جائزةً من أي نوع، ولا حتى المعنوية!؟. إلى متى سأظل مطمئناً إلى أن شعري مهما تقادم عليه العهد، لابد وسيجد طريقه للانبعاث، وإن الناس سيجدون فيه ما يستحقّ أن يبتاعوه ولا يعيدوه للبائع بعد قراءة قصيدة أو قصيدتين منه؟ كما أخبرني مرة المسؤول عن بيع كتب الوزارة في المركز الثقافي العربي في اللاذقية!. لكن المشكلة البنيوية التي كان لها الدور الأول، في إعاقة نشر شعري، فهي شعري بالذات!؟ شعر أعتبر نثر بكلّ معنى الكلمة، فيه أروي قصصاً وأحاور وأصف وأكثر من التفاصيل، بل أسهب وأثرثر!، واقعي، مادي، رافض لما يعرف أنّه لغة شعرية، جاحد بأدوات الشعر وأغراضه التقليدية، فلا خيال ولا مبالغات ولا ادعاء لبطولة أو تضحية!؟ حقيقي، يحرص ما بوسعه أن يكون صادقاً: (علينا أن نبعد الكذب عن شعرنا كما نبعده عن حياتنا)، مقتصد لحد التقتير بالاستعارات والصور، يوقع قصيدة النثر في أخطر مطبّاتها: السردية!؟ أيّ بدوت وكأنّي أكتب شعراً ضد الشعر.. وبالفعل، كنت، عن سابق قصد وتصميم، أكتب شعراً مضاداً للشعر الذي كان يروّج له ويسود في سوريا، ما جعلني مرّة أقول: (كتبت أول قصائدي لأري أصدقائي كيف في رأيي يجب أن يكتب الشعر). قلت هذا ولم يكن لديّ أي باع بالشعر، لم يكن لديّ أية عدّة، وراثية أو تربوية، لغوية أو فكرية، لخوض غماره! ولكن كان لي باعي الشخصي، وعدتي الشخصية، كان لي المقدرة أن أعلم ماذا أفعل، وكيف أفعله كما أظنّه يجب أن يفعل. وهكذا لم أعدم الذين يحملون شعري، ويحفظون مقاطع منه، ويدورون به!؟ فاجأني هذا! فاجأني منذ أوّل قصائد نشرتها /1974/ ومنذ أول مجموعة أصدرتها أنّه صار لي اسم، وصار لي مكانة في واجهة (فتريتة) الشعر الجديد في سوريا!. (بشر وتواريخ وأمكنة)، و(أنذرتك بحمامة بيضاء) استقبلا أروع استقبال!؟ وكأنه صحيح ما كنت أدّعيه، أنا الذي كنت أدّعي بأنّي لا أدّعي شيئاً، بأنّ هذا هو الشعر الذي ينتظره الجميع ويريدونه!؟ شعر الحياة، مكتوباً بلغة الحياة، شعر الناس مكتوباً بلغة الناس، لا شعر الشعارات والايدولوجيا، ولا لغة القواميس والمعاجم، لا شعر القوالب الجاهز منها والدارج. لذلك صحيح أيضاً بأنّي كنت محظوظاً، أعرف شعراء واعدين وموهوبين كثيرين، كتبوا قصائد رائعة، وأعدّوا باكوراتهم الشعرية، ومخطوطات عديدة بعدها، كانت، لو صدرت، لأعطت وجهاً أشد غنى وروعة للشعر السوري والشعر العربي الجديد، لا ريب. ولكن لم تتح لهم الفرصة، ولم تكن لهم الإمكانية، ولم تقدّم لهم يد المساعدة، ليصدروا أيّاً منها، فبقيت في أدراجهم، أو وضعوها، مع بقية أحلامهم وأطماعهم، داخل علب من الورق المقوّى، في زوايا شرفاتهم.
نعم، في صدور مختاراتي الشعرية (… لأني لست شخصاً آخر) عام 2010، في مصر، عن الهيئة العامة لقصور الثقافة ضمن سلسلة (آفاق عربية) الشهيرة،  شعرت بأنّي شاعر سعيد الحظّ فعلاً. غير أنّ الحظّ أو محاسن الصدف، أو أيّ شيء آخر من هذا القبيل، لن يكون بمقدوره أن يجعل من شعري أو شعر غيري، شعراً يعاد إليه كما يعود المرء لحب أول، أو لوطن لا بديل عنه. نعم أؤمن بأن الشعر الذي يستحقّ الاسم واللقب والوسام، هو الشعر الذي يجد فيه الناس ما يساعدهم ويخدمهم، في بحثهم اللاهث والشاق، منذ لحظة ولادتهم إلى لحظة موتهم، عن الحب والسعادة والمعنى… والجمال.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى