ثورة تونسميشيل كيلو

الغرب والديمقراطية

null
ميشيل كيلو
زودنا الحدث التونسي بتجربة ميدانية مهمة حول الإشكالية التي لطالما تجادلنا كمثقفين عرب حولها : إشكالية العلاقة بين الغرب والديمقراطية. وللعلم، فإن مفهوم الغرب لا يعني هنا، كما في الاقتصاد، مجمل الدول الصناعية والمتطورة، بل يقتصر على الدول الأوروبية والولايات المتحدة الأميركية وكندا وأستراليا: الدول الملقبة، أو التي تلقب نفسها، بالديمقراطية الليبرالية والتمثيلية، ويقال إنها محكومة برلمانيا ويسود فيها نظام سلطة يقوم على التداول.
هذه الدول، التي تود أن نعتقد أنها تضع الديمقراطية في مكان لا تبلغه أية ناحية أخرى من نواحي الحياة الإنسانية، تخضع الديمقراطية، كمفهوم وكواقع، لاعتبارات سياسية تنطلق من مصالحها، التي تحمل طابعا كونيا لا يتفق ومصالح القسم الأعظم من البشرية، وغالبا ما يكون على حسابها أو ضدها. بسبب هذا الواقع، نجد فهمهما للمبدأ الديمقراطي محكوما، في الممارسة العملية، بتحقيق مصالحها، المتعارضة معه في معظم الحالات والمناطق، لكنها لا تنفك تستخدمه أداة لابتزاز خصومها، مهما كانوا ديمقراطيين، في حين تتجاهله تماما أو بدرجات متفاوتة، عندما تكون مصالحها مؤمنة. في الحالة الأخيرة، التي تتصل غالبا بدول حكوماتها استبدادية – أو مفرطة في استبداديتها -، نجد الغرب يتحدث عن الاستقرار وأهميته وحيويته، ويعتبره مقدمة لا غنى عنها لأي تقدم، بما في ذلك الديموقراطي منه!. على أن الاستقرار لا يعني هنا امتناع الحكومات عن قمع مواطنيها، أو التركيز على التقدم الاقتصادي والاجتماعي، أو الأخذ بتطور سياسي متوازن ومفتوح، بل له معنى واحد هو ما أسمته مخرجة تونسية موهوبة ‘صمت القبور’: أن لا يتذمر المواطنون من حكوماتهم، أو يعترضوا عليها أو يفعلوا ما يزعجها، أو يتذكروا أن لهم مصالح خاصة، أو يطالبوا بعمل أو حرية أو… ديموقراطية.
ومن يتمسك بالاستقرار يتمسك عمليا باستمرار الوضع القائم، ويرفض بالتالي تهديده بأي حال من الأحوال أو شكل من الأشكال، أو دخول عناصر أو قوى جديدة إليه قد تزعزعه أو تؤثر في توازناته، ويزداد الرفض والتمسك بالأمر القائم، إذا كان الداخل على الخط قوة كالشعب لا يملك أحد مفاتيح التحكم فيها أو يعرف تضاريسها أو مداخلها ومخارجها. لا عجب أن مفهوم الاستقرار كان موجها حتى الآن بكل بساطة ضد الشعوب في بلداننا، وأنه في جميع أحواله وترجماته في صالح النظم القائمة، التي كثيرا ما تنتهج سياسات تؤدي إلى زعزعة استقرار مجتمعاتها، فلا يبقى لهذه أي خيار غير الرد عليها وزعزعة استقرارها: بالاحتجاج على سياساتها، وأشخاصها، ومواقفها، وظلمها. ذلك يجعل للاستقرار في نظر الغرب معنى العداء للشعوب ومطالبها وطموحاتها، في أي بلد تؤمن سلطاته مصالحه، علما بأن الشعب هو في كلاميات الغرب السياسية حامل المشروع والمبدأ الديمقراطي الرئيس إن لم يكن الوحيد!، فلا عجب إن كانت أحداث تونس قد كشفت هذه الازدواجية، وبينت كم هي رجعية سياسات الغرب ومعادية للديمقراطية في البلدان التي يضمن نظامها، وأخص بالذكر هنا السياسة الفرنسية، كما يجسدها ويعبر عنها الرئيس نيكولا ساركوزي، وكان يعبر عنها بدوره رئيس فرنسا السابق جاك شيراك، الذي زار إلى أفريقيا بعد سقوط نظام الحزب الواحد في دول المعسكر الاشتراكية السابق ليقول في خطبة شهيرة خلال لقاء ضمه إلى زعماء بلدان القارة السوداء الفرانكوفونية: أنتم يناسبكم نظام الحزب الواحد ولا يناسبكم التعدد الحزبي، لأنه سيحرك تناقضات مجتمعاتكم، وسيتسبب في حروب أهلية عندكم. أقول لا عجب أن تعرض وزير خارجية باريس العون الأمني على نظام بن علي في بداية الحركة الشعبية ضده، وأن يتحدث ساركوزي نفسه عن الاستقرار في تونس ويؤكد على أهميته، ويعرض على قائد نظامها زين العابدين بن علي العون المادي، بعد أن دعمه معنويا وأعلن وقوف فرنسا إلى جانبه ضد شعبه، بينما راقبت بقية ‘الدول الديمقراطية’ الغربية الحدث بخوف، لاعتقادها أنه عارض عابر، وأن الأمن التونسي سيتكفل بقمعه، وسيعيد الشعب إلى بيت الطاعة الرئاسي، خاصة بعد أن وصف صاحبه المحتجين والمتظاهرين بالمجانين، وقال عن أول من أحرق نفسه احتجاجا على الظلم، الشهيد محمد البوعزيزي، بعد أن عاده في المستشفى: إن هذا كان معروفا باهتزاز وضعف الشخصية، وأنذر في أول خطبة متلفزة له الشعب بأنه لن يتسامح معه، وكرر الجملة أكثر من مرة، مما أوهم ساسة الغرب بأنهم أمام واحدة من حركات الجوع العادية، التي لن تلبث أن تتراجع أو تخبو أو تقمع، ليعود الاستقرار بعدها إلى سابق عهده، وتتواصل العلاقات المميزة مع مستبدي تونس، الذين سيفهمون بلا شك حرج موقف الغرب، وسيتفهمون حتما كلمات التعاطف الكاذب مع ضحايا الأحداث، وسيفرحون بالكلمات الأخرى التي تحذر هؤلاء من التدخل في حياة بلادهم العامة، لأنه عاقبته ستكون خطيرة، بالنظر إلى ‘حق نظامها الشرعي في حماية نفسه وشعبه من المتطرفين’!. أخيرا، لو فشل الشعب التونسي، لكان الغرب قال له وهو يهز سبابته، كما فعل بن علي في خطبته الأولى – لا تكررها وإلا!.
اختلف الموقف الأمريكي عن الفرنسي، باختلاف مصالح البلدين وعمق روابطهما مع النظام. قال الأمريكيون بعد أيام من بداية الاحتجاجات: إنهم معجبون بشجاعة الشعب التونسي. ولم يقولوا لزين العابدين ما سبق لهم أن قالوه لشاه إيران عام 1978: عليك أن تغادر بلادك!. ثم بالأمس القريب، جاء فيلتمان، المشرف على المنطقة العربية في وزارة الخارجية الأمريكية، إلى تونس العاصمة ليتدارس الوضع مع حكومتها، التي لم تتوقف أو تنقطع التظاهرات الشعبية ضدها، لكنها تتمسك بالسلطة رغم حركة الاحتجاج والرفض العامة، في موقف يثير الكثير من الريبة، ويوحي بأن ما تغير في تونس هو الرئيس والدائرة القريبة منه وليس النظام بمجمله، وأن النسق السياسي الذي كان شريكا في الحكم مصمم على الدفاع عنه، أو على كبح الحركة الشعبية وحرمانها من ثمار الانتصار، ومنعها من إقامة نظام يقطع تماما مع النظام القديم، ويأخذ البلاد إلى حال من الحريات والديمقراطية هو أول نظام يقوم في الوطن العربي بقوة الشعب المباشرة وبمبادرته.
ولعله مما يثير الضحك والريبة أن رئيس وزراء تونس يبرر تمسكه بالسلطة بحجة واهية هي رغبته في خدمة الثورة خلال مرحلة الانتقال! كأن هذه مرحلة انتقال يراد له أن يكون محتجزا وناقصا، وليست مرحلة انتقال كامل يجب أن يخلص البلد من نظام الاستبداد والحزب الواحد؛ انتقال تام وتاريخي إلى نظام بديل يقوم على أسس وركائز وقوى تجعله نقيض نظم الاستبداد، فلا يجوز أن يقبل الشعب خلاله أية حلول وسط أو تسويات مع ممثلي النظام القديم، ولا بد من أن يقتلعه من جذوره، وإلا التف هؤلاء عليه وقوضوه من الداخل، بمعونة الدول الغربية، التي لا تريد نظم حريات وديمقراطية في وطن عربي يسكنه شعب يمتلك خبرة هائلة في بناء الحضارة والدول، يمسك بأكثر مناطق العالم حيوية من الناحية الجغرافية / الإستراتيجية، وبثروات وموارد لا حصر لها، سيلعب، في حال تحرر وتوحد، أخطر الأدوار في إعادة تأسيس النظام العالمي والتوازنات الدولية وبناء عالم جديد. ومما يثير الشك والريبة أن الغرب، الخائف على الاستقرار ومن الديمقراطية، بدأ يطالب التونسيين بالهدوء، ويلفت أنظارهم إلى ما يسميه مخاطر فراغ السلطة، إذا هم تخلصوا من رجال العهد القديم، فكأنه يراهن مع هؤلاء على تحويل انتفاضة الشعب من ثورة على نظام إلى تمرد على رئيس وأسرته، ومن حركة ديمقراطية تريد تأسيس تونس مختلفة، شعبية ومدنية، إلى حركة مطالبة برفع الرواتب والأجور وتحسين الأحوال المعيشية وحسب، بغض النظر عن طبيعة النظام!. كان الغرب يزعم أنه يخاف التغيير لأنه سيأتي حتما بالإسلاميين إلى السلطة، وكان يزعم أن الديمقراطية لن تنجح بسبب هؤلاء، وأنه لا مجال بالتالي لتحقيقها ضد الأمر القائم، أو حتى للنضال من أجل إسقاطه، لأن إسقاطه سيعني عمليا تسليم السلطة إلى الإسلام السياسي، أيا كانت الجهة التي ناضلت ومهما كانت درجة علمانيتها وتقدميتها ومدنيتها. الاحتجاج على الأمر القائم لا يفيد في المحصلة النهائية غير الإسلام السياسي، أي التطرف والعنف ومعاداة الديمقراطية والديمقراطيين، فلا بد أن يتعقل الديموقراطيون ويقلعوا عن خدمة التطرف الإسلامي من حيث لا يعلمون أو يريدون. هذا هو منطق الغرب وهذه هي نظرته المضمرة إلى الأمور عندنا. واليوم، قوضت تونس هذه الأوهام من أساسها، وبينت أن تبني الغرب نظرة نظم الاستبداد إلى مجتمعاتها كان خطأ فادحا، وأن خطر الإسلاميين ليس بالحجم الذي تتوهمه سياسات الغرب، فهم ليسوا خيارات مجتمعاتنا حتى يكونوا كلمتها النهائية، وليسوا من حرك الأحداث التونسية أو أطلقها أو تصدرها أو مثل القوة الرئيسية فيها، رغم مزاعم نظام بن علي وغيره، التي بالغت كثيرا في خطرهم الداهم وقوتهم الكاسحة، وقالت إنهم البديل الوحيد للأمر القائم.
وللعلم، فإن قدرات الإسلاميين مرتبطة بتوطد الاستبداد، وترسيخ سياساته، الأمنية منها خاصة، ونجاحه في تهميش شعوبه وتجويعها واحتقارها وتخوينها، وفصلها عن التراث الفكري والسياسي الديمقراطي والعلماني، وأن الشارع لم يكن للإسلاميين في تونس، وهو ليس لهم في غيرها بالضرورة، ليس لأن النظم التي ولدتهم ورعتهم وأتاحت لهم جميع مقومات النمو من أبنية تحتية ووسائل إعلام وحريات، والتي تمعن في توليدهم، تضبطهم بواسطة القمع، بل لأن مشكلات المجتمعات العربية الراهنة تتخطى أي منظور مذهبي أو ديني، ولأن الشعب الذي وحده الاستبداد لن تفرقه الحرية والديمقراطية، أو تضعه بعضه في مواجهة بعضه الآخر، أو تدفعه إلى خوض حروب أهلية داخلية، خاصة وأن الحرية هي الحاضنة التي ستخرجه من الاحتجاز السياسي والاجتماعي الاستبدادي والقمعي، وستتيح له خيارات وسبلا مفتوحة على شتى الاحتمالات، لا شك في أنها ستتيح للإسلاميين حق التعبير عن رؤاهم والطموح إلى تحقيق أفكارهم، لكنها لن تمنع غيرهم، بالمقابل، من العمل في سبيل ما يسعى إليه ومن إقناع الشعب بأحقيته، فالحرية ساحة متنوعة الممكنات، يفسح إحرازها المجال واسعا أمام انخراط سائر القوى الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والثقافية في الصراع من أجل المجتمع الذي تريده، بينما تقوم ممارسة الديمقراطية على التنافس السلمي والحوار والندية والفرص المفتوحة والمتكافئة، ولا تقوم على القمع والقتل والإرهاب، أو على الرؤية الواحدة والحزب الواحد والحاكم الأبدي الوحيد!.
هل سيغير الغرب مواقفه بعد تونس؟. هذا مستبعد، لكن مواقفه لم تعد مهمة على أية حال، بعد أن أثبتت ثورة تونس أن عصرا عربيا جديدا يولد مباشرة من رحم الشعب، وأن من كنس الاستبداد ونظامه قادر على فرض رؤيته ونهجه، الديمقراطي تحديدا، على الغرب ونظمه المنافقة!

‘ كاتب وسياسي من سورية
القدس العربي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى