ثورة تونس

-الوصفة- التونسية

فخر الدين فياض
(1)
اعتاد العرب، طيلة عقود عديدة مضت، على العنف..
عنف اليسار وعنف اليمين..
عنف الأنظمة وأجهزة المخابرات، بدءً من الاعتقال والتغييب والتعذيب والحرق و”الشَبْح” و”الكرسي” و”الكهرباء” وصولاً إلى التصفية الجسدية..
عنف الأصوليات الانتحارية وعنف التفجير والتهجير والقتل الرخيص..
العنف الإسرائيلي والقصف العشوائي..
العنف الإيديولوجي العقائدي عبر عمامات بيضاء أو سوداء ..لا فرق!!
عنف ديني، طائفي، مذهبي، عرقي..
وكان العنف “العنفوان العرباوي.. الإسلاموي، عنف الحاكم والمحكوم” لا يولّد إلا عنفاً همجياً، يوازيه طأطأة رؤوس مترافقة مع جميع كآبات العبيد..
العنف في تونس كان له لوناً آخر..
المثقفون والطلاب ونشطاء المجتمع المدني، العمال والفلاحون والعاطلون عن العمل.. الحركة الشعبية بكل ما حملته خرجت لتعلن قرفها من جميع “التراكيب والتركيبات” السياسية والأمنية التي اخترعها الحزب الواحد والقائد الأوحد..
قتل الكثير وجرح الكثير.. وظل الشعب التونسي المسالم والطيب على عنفوانه.. يقاوم متحدياً الموت دون أن يشتري به الآخرة و”حور العين”.. ودون أن يرفع شعارات العقائديين المقيتة..
عنف أراد الحياة، كريمة حرة.. ببساطة.
العنف في تونس كان له لوناً أخضر.. يشبه تونس الخضراء..
(2)
اعتاد العرب طيلة عقود عديدة مضت، على المثقف السلطوي، أو المتزلف للسلطة، أو “المستقل” الساعي بخطى حثيثة نحو مائدة السلطة.. أو “المعارض” الذي يعرض بضاعته لتشتريه السلطة.. وقلّة هم المثقفون المعارضون الذين ثبتوا على “الجمرة” التي تحرق أيديهم..
ولا تختلف تونس من هذه الناحية عن “أخواتها” العربيات..
لكن المثقف التونسي الذي رفع لواء انتفاضة شعبية.. وقتل برصاص النظام قال شيئاً آخر، لم يقله المثقف العربي..
وإن كنت أثمن غالياً مثقفي تونس الشرفاء، لكنني أرى أن الشعب التونسي سبقهم جميعاً، وحملهم على أكتافه نحو التغيير..
أقول أننا اعتدنا على مثقف عربي “خائف” يشبه “الطنط” في سلوكه مع السلطة، لكنه يستأسد على “العامة”..
مثقفو “المؤتمر القومي” وأمثالهم “رسميين وغير رسميين”، لا وقت لديهم بعيداً عن قضايا العرب الكبرى، في الوحدة والحرية والاشتراكية، وقضية العرب المركزية: فلسطين!!
وينتقلون من مأدبة “الرئيس” إلى مائدة “الملك”.. يحملون شعاراتهم ومعلقاتهم “مطولاتهم القومية والعقائدية” رافعين أصابع النصر مع “القادة التاريخيين”..
هؤلاء سبب نكبة العرب والعروبة، ونكبة الوحدة والحرية والاشتراكية.. ونكبة فلسطين أولاً.
المثقفون الذين خانوا الثقافة لصالح السياسة والعقائد و”الهدايا”!!
تونس حين اشتعلت شوارعها بالرفض والتمرد.. صمتوا!!
وللصمت دلالات كثيرة.. والقلة التي تكلمت منهم آنذاك، تحدثوا عن “مخاوف” على وحدة تونس وسلامها وسلامتها وسلامتهم..
لم يعلنوا تضامنهم مع شباب تونس القتلى برصاص النظام.. ولم يطالبوا بمسيرات تأييد.. وكفّت أقلامهم التي اعتادت على “الحساب والتحسّب” عن الكتابة حول تونس..
وحين فرّ الرئيس بن علي، وانتصر الشارع التونسي، خرج هؤلاء يعلنون أنهم انتصروا على نظام أمريكي ـ غربي عميل للموساد.. وأن الشعب أسقطه لهذه الأسباب!!
وحدها الفضائيات قالت كلمتها الصريحة بلغة الكاميرا..
وحدها الفضائيات جيّشت وحرّضت، وكانت شفّافة في نقل ما يجري داخل شوارع تونس..
وحدها الفضائيات احترمت الدم التونسي.. وأعلنته للعالم رمزاً للرفض والتمرد دفاعاً عن كرامة الإنسان..
(3)
اعتاد العرب طيلة عقود عديدة مضت، على النظام صاحب الباب العالي والبوابات الحديدية الصماء، والجيش الانكشاري..
تونس غيرت هذه المعادلة..
الرئيس زين العابدين بن علي تحدث أولاً عن عصابات وملثمين وإرهاب يضرب تونس.. فازدادت الحركة الشعبية تمرداً ورفضاً وتضحيات لتثبت له “وللعالم أجمع” أنهم أبناء تونس الأوفياء..
عاد الرئيس وقدم تنازلات: وظائف للعاطلين عن العمل، لجان تحقيق في قضايا الفساد والرشوة، إطلاق سراح المعتقلين والمدونين الأبطال.. إقالة وزير الداخلية.. لكن الحركة الشعبية لم تقتنع بلغة للتغيير فيها “تأتأة ومأمأة”.. أرادت لغة صريحة وواضحة وسير حقيقي نحو التغيير..
خرج الرئيس للمرة الثالثة شفافاً واضحاً وصريحاً ليعلن بـ “شجاعة” لا يعرفها الحاكم العربي.. أن أوضاع بلاده خراب.. وأنه يقدم للشعب البطل والشجاع حرياته العامة وعلى رأسها حرية التعبير والإعلام إضافة إلى الخبز والحليب.. لم يعرف “العربان” في الممالك والجمهوريات، وعلى مدار تاريخهم “المجيد” تغييراً أسرع من هذا التغيير، الذي يعتبر خطوة متقدمة لو أن الشعب التونسي توقف عندها..
وكان يمكن القول آنذاك “عاش زين العابدين دون رئاسة مدى الحياة، وعاش زين العابدين حرية الإعلام والتعبير، وعاش زين العابدين دون إطلاق النار على الرأي الآخر..
لكن الناس، البسطاء وغير البسطاء في تونس، أرادوا الأبعد والأوضح والمتوافق مع التاريخ: المصير المحتوم للجلاّد وبطانته، ونهاية الديكتاتورية.. مرة واحدة وإلى الأبد.
(4)
على مدار عدة أسابيع، خاف العالم وتخوف من هذا العنف التونسي الجديد.. وصور الكثيرون أن البلاد ذاهبة إلى الفوضى والدمار.. فالتحرك شعبي يغيب عنه التنظيم بسبب غياب التنظيمات السياسية والنقابية ومؤسسات المجتمع المدني.. وأية مؤسسة يمكن أن يعتبرها النظام مؤسسة للمعارضة.
الرئيس زين العابدين، شأنه شأن كل الحكام العرب، قام بتصفية معارضيه الواحد تلو الآخر..
وتبدو صورة البلدان العربية اليوم بلا معارضة..
في بداية الأزمة احتاج النظام التونسي إلى من يحاوره ويفاوضه ليقدم تنازلاته.. فلم يجد أية جهة سياسية فاعلة تنوب عن الشعب التونسي.. وهنا أدرك فحش خطيئة تصفية المعارضة (الأمر الغائب حتى الآن عن باقي الأنظمة العربية التي صفّت معارضيها)، فلم يجد أمامه إلا الشعب بكليته المختلفة والمتنوعة ليحاوره، فتوجه إليه مباشرة، بخطاب قل مثيله في شجاعته وشفافيته.. رغم أن الشعب التونسي رآه خطاباً منافقاً وقد أتى متأخراً.
البلدان العربية اليوم تترقب وتشاهد.. شعوباً وأنظمة، ويبدو أن الوصفة التونسية هي الأنجح في التغيير.. ولا يوجد بلد عربي عصيٌ على هذه الوصفة، فجميعها في الداء سواء.. أنظمة ديكتاتورية وشعوب خائفة معذبة يقتلها القهر والفقر وأجهزة القمع والإرهاب..
مع تونس انتهى زمن معادلة الخبز (الكفاف القهري) مقابل الاستقرار والانضباط.. تلك المعادلة التي اعتبرها النظام العربي المدجج بأجهزة مخابراته، وبالحماية الغربية طريقاً لاستمراره وقطع الطريق على أية معارضة، علمانية أو إسلامية.. لا الغرب ولا المخابرات حمت “العصابة” التي استولت على تونس لزمن طويل.
ولاشك أن تونس فاتحة الثورات العربية الحقيقية.. النابعة من الصميم الشعبي، وعياً وإدراكاً تاريخياً، ولا شك أن تونس ودّعت زمن الحزب الواحد والزعيم الأوحد.. ومعها ودّع العرب “التراكيب والكراكيب” القائمة في بلادهم.. وإن يكن في وعيهم كحد أدنى..
ومصر بدأت بقوة وزخم لا يوصفان.. وسيكون المقال القادم “”الوصفة” التونسية.. في مصر” موضوعنا..
هل يبدأ النظام العربي بالتغيير دون الحاجة إلى العشرات وربما مئات أو آلاف من القتلى؟!
سؤال يجب أن يسأله كل نظام عربي لنفسه بجدية.. بعد تونس ومصر اليوم.
أم أن السيناريو سيتكرر، عاجلاً أم آجلاً، في العواصم والمدن العربية التي تبدو اليوم وكأن على رأسها الطير؟!!

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى