بدر الدين شننثورة مصر

حين تسقط المسافة بين القهر والثورة

بدر الدين شنن
منذ سنوات عديدة ، يجمع الخبراء في الاجتماع السياسي ، على أن دول النظم العربية ، على اختلاف تسمياتها الملكية والجمهورية ، لم تبلغ بعد ، من حيث المقومات الدستورية ، والقانونية ، وتمفصل السلطات ، وحق المواطنة ، وحق العدالة الاجتماعية ، لم تبلغ مرتبة وسمات الدولة المدنية المعاصرة . وهي ، أي النظم ، وإن اختلفت في الشكل فهي متطابقة في المضمون .
فدساتير هذه الدول تمنح تعسفياً حق الوصاية على الشعب ، وسلطة قيادة الدولة والمجتمع ، لمؤسسة القبيلة في ” الدول الملكية ” وللحزب الحاكم في ” الدول الجمهورية ” . وتصنف المواطنين إلى مستويين .. إلى تابع ومتبوع . وتبعاً لمقتضيات هذه الدساتير ، تتكرس التمايزات الاجتماعية السياسية ، و’توضع القوانين المطابقة ، و’تحدث نظم اقتصادية استثنائية الجشع والتعسف ، حيث تطبق إجراءات ومعايير يتم بموجبها توزيع الناتج الاجمالي ، بما يؤمن الثراء الفاجر للأسر الحاكمة الملكية والجمهورية ، و’تمارس أشد انواع القمع ، باستخدام سلطات دستورية عنصرية سياسياً ، واستخدام قوانين حالة الطواريء والأحكام العرفية بشكل دائم ، لتأمين استدلمة بقاء نظم هذه الدول الشاذ المافيوي .. وبفضل هذه الدساتر والقوانين التعسفية المتخلفة ، وبفضل القمع الذي تستدعيه لإحكام السيطرة على المقهورين ، صار كل ملوك ورؤساء دول النظم العربية ، هم ملوك المال والثراء في بلدانهم . ويأتي بعدهم في الثراء عائلاتهم والمقربون منهم . ثم تأتي الطبقة البرجوازية التي تساندهم ، والتي تستولي معهم على معظم الدخل الوطني .
ومن ذلك انتشر الفقر والقهر في كل المجتمعات العربية ، وانتشر الاحساس الشعبي بالدونية إزاء الطبقة الحاكمة وجلاديها ، وانتشرت ثقافة الإخضاع بآليات أمنية وإعلامية ، مستهدفة تحديداً ، من هم خارج دائرة النظم ، التي عملت وتعمل على أن تحول الطبقات الشعبية المقهورة إلى قطعان من الفقراء والمتسولين ، الذين لايمكن إصلاح بعض من أحوالهم المعيشية الكريهة البالغة الصعوبة ، إلاّ بفتات ” مكرمات ” مما سرق منهم ، من فائض القيمة الذي حققوه بعملهم .. بالعرق والدم في اقتصاد بلدانهم ، يرميها إليهم باستعلاء الملك .. أو الأمير .. أو الرئيس ..
كل ما يكتب عن معاناة الطبقات الاجتماعية المقهورة لايبلغ قاع الحقيقة ، لافي المقالات ، ولافي الروايات الأدبية ” الواقعية ” ، ولا في الدراما التلفزيونية والسينمائية الملتزمة إنسانياً . إن قهر الجوع .. قهر الحرمان من اللقمة .. الذي يترادف مع حرمان الكرامة ، والكساء ، والسكن ، والتعليم ، والحب ، والزوجة ، والأسرة ، والمستقبل .. هو أ سوأ أنواع الذل البشري .. و عندما تدرج البطالة في قائمة ترادفاته ، هو من العمق والشمولية بحيث يفضي إلى أن تسقط المسافة بينه وبين الموت ..
وكل ما كتب ويكتب عن المعتقلين السياسيين لايتجاوز السطح إلاّ قليلاً في أحسن الأحوال . إذ من التعقيد بمكان ، أن يصور المرء بدقة وأمانة حالة انهيار معتقل تحت التعذيب المميت . فهو من جهة يتألم من جراح الجسد .. ومن جهة ثانية يتألم من جراح الدوس على الكرامة .. ومن جهة ثالثة يتألم من جراح مذلة الانهيار والاعتراف .. ومن جهة رابعة يتألم من إحساسه بفقدان المكانة عند الرفيق والصديق .. ومن جهة خامسة يتألم من ضياع الحبيبة أو الزوجة والولد والعائلة .. ثم الضياع في متاهات العزلة ، أو الغربة ، أوالمنفى ..
هذه الحال الواحدة المتطابقة في البلدان العربية ، تشكل الواقع الموضوعي المؤهل للإنفجار .. للتخلص من هذا الوضع المأ ساوي المزري .. لاينقصه سوى الأداة .. التنظيم القادر على التعامل معه وقيادته .
وهذه الحال تسمح لنا ، أن نسحب ما نقوله عن بلد عربي معين على البلدان العربية كافة . وتسمح أن نقول أن ما حدث في تونس ، لابد وأن يحدث ، إن عاجلاً أو آجلاً ، في بلدان عربية أخرى ، لاسيما البلدان الأكثر نضجاً وتأهيلاً لتفعيل هذا الحدث . وتسمح لنا أن نعتبر ، رغم أنف ” أحمد أبو الغيط ” أن ما يجري في هذه الأيام في مصر ، هو مقدمات لنهوض ثوري كبير .. لابد أن تستكمل شروطه للارتقاء به إلى مستوى الثورة الشعبية . فأسباب الثورة المصرية هي من النوعية والكمية ما يوازي أويفوق الأسباب ذاتها في تونس ، وفي بلدان عربية عدة .
ففي مصر ، حسب مراجع اجتماعية ورسمية مصرية ، يعيش ( 45 % ) من الشعب تحت خط الفقر ينعكس ذلك بوجود ( 48 ) مليون فقير بينهم نحو خمسة ملايين يكابدون الفقر المدقع أ ي الجوع . و( 12 ) مليون مواطن بلا مأوى ، منهم ( 5, 1 ) مليون مواطن يأوون إلى المقابر ، نصف أطفال مصر مصابون بفقر الدم . رسمياً هناك ( 10 ) مليون عاطل عن العمل والعدد الحقيقي أكثر من ذلك بكثير . و ( 46 % ) من الأسر المصرية لاتجد الطعام الكافي . ( 23 ) مليون مصابون بالاكتئاب ) منهم ( 15 % ) ينتحرون أو يحاولون الانتحار . بالمجمل ، تحتل مصر المركز ( 57 من 60 ) في لائحة دول البؤس والمركز ( 115 من 134 ) في لائحة دول الفساد .
ويمكن بسهولة تامة معرفة التفاصيل الاجتماعية والانحرافات الأخلاقية المتأتية عن هذا المشهد .
وهذا المشهد الاجتماعي المعيشي المرعب ، لم يأت من فراغ ، بل جاء نتيجة الثورة المضادة ، التي قادها الرئيس السابق ” أنور الساداد ” ، وأوغل فيها من بعده الرئيس الحالي ” حسني مبارك ” تحت عنوان الانفتاح الاقتصادي ، التي كانت تجلياتها ” الاقتصادية ” خصخصة القطاع العام الانتاجي والخدمي ، وإطلاق اقتصاد السوق الليبرالي ، والخضوع لإملاءات البنك الدولي وصندوق النقد الدولي . وكانت تجلياتها ” السياسية ” احتكار الحزب الحاكم للسلطة ، واستخدام حالة الطواريء لقمع الآخر ، وتعديلات دستورية تسمح باستدامة النظام ، والتمسك باتفاقية كمب ديفيد ، المنتقصة للسيادة المصرية ، مع إسرائيل ، والارتباط بمنظومة ومصالح الدول الرأسمالية الامبريالية ، وفي مقدمتها الولايات المتحدة وإسرائيل ، وانتهاج سياسة ” اعتدال ” معادية للتحرر العربي والفلسطيني .
وكما في بلدان عربية أخرى نجد ، أن أضلاع مثلث النظام المصري الأساسية ، هي اللاوطنية في الالتزام بمعاهدة كمب ديفيد ، التي تفرض شروطاً سياسية وعسكرية وجغرافية تنتقص من السيادة المصرية ، واللاديمقراطية بهيمنة الحزب الحاكم على السلطة والدولة والاقتصاد وممارسة مختلف أشكال القمع بمخالب حالة الطواريء والمحاكم والقوانين الاستثنائية ، والمتوحشة اقتصادياً بانتهاج النهب المنظم لمقومات البلاد الاقتصادية ، وإحداث افتراق طبقي موغل في الظلم الاجتماعي ، أدى إلى إفقار وإذلال معظم المجتمع المصري .
على خلفية هذا الواقع الشديد القسوة .. يجري الآن نهوض كبير في الشارع المصري . ما يستدعي تضامن كل الشعوب العربية .. وكل الشرفاء في العالم .. مع الشعب المصري . ويستدعي بشكل خاص ، الأقلام الحرة الديمقراطية ، لاختراق التعتيم الإعلامي الرسمي العربي وغيره على مايجري الآن في مصر ، وأن تشد من أزر مثقفي ، وصحفي ، ومحامي ، وعمال وفقراء مصر ..
ومن تونس .. إلى مصر .. انطلقت الثورة الشعبية .. وإلى مابعد مصر .. تتجه العيون والقلوب إلى سوريا .. مترقبة بدراية تامة بالوضع السوري .. أن تشهد تحرك الشارع السوري وثورته . فسوريا التي لاتتخلص عادة من الانشغالات على المستوى الإقليمي والدولي ، تتسم بنفس السمات التي كان يتسم بها نظام ” بن علي ” في تونس ويتسم بها نظام ” مبارك ” الآن . بمعنى أن النظام السوري يقوم على أسس النظام الديكتاتوري ذاتها ، المتمثلة بهيمنة الحزب الحاكم ” الديكتاتورية ” وبالقمع بمخالب حالة الطواريء والأحكام العرفية ، وخصخصة القطاع العام ، والانفتاح على اقتصاد السوق الليبرالي ، والتمايز الطبقي الاجتماعي الظالم ، التي أفضت إلى نشوء حالة انقسام اجتماعي ، أثرياء بالميارات في قمة النظام وحواشيه البرجوازية من جهة ، وفقراء حتى مستوى الجوع من جهة أخرى ، وإلى التصحر الثقافي والسياسي الأشد مضاضة من تصحر الأراضي الزراعية شرقي البلاد .
المعادلة الصعبة التي يواجهها النظام السوري وتجعله عصياً على الاصلاح ، هي نفس المعادلة يواجهها أي نظام ديكتاتوري عربي آخر . وهي أنه لايمكنه أن يلغي أسباب الفقر ، لأن ذلك يعني تجريده وتجريد طبقته الحاكمة من الثروات التي تمت سرقتها من المال العام ومن اقتصادرالشعب . ولايمكنه أن يوقف آلية القمع وينشر الديمقراطية ، لأنه سيخسر بذلك امتياز الاستئثاربالسلطة وبالهيمنة على الدولة والمجتمع . ولايمكنه إلغاء أسباب ثورة الشعب ، لأنه إن أقدم على ذلك يلغي ذاته . مامفاده أن مفتاح حل المعادلة السورية لايمكن أن يوجد ، إلاّ بالأيدي المعارضة ، التي لاتحلم بالتغيير التدرجي ، بل تضع نصب عينيها الإعداد لاستنهاض الشارع
كما تتوجه العيون والقلوب إلى البلدان العربية الأخرى ، تترقب متفائلة بنهوض المقهورين ضد جلاديهم ، وسارقي ثرواتهم ، وممتهني كراماتهم ، وسالبي حرياتهم . لاسيما وأن الجماهير المفقرة هي بصدد استدراك الحلقة المفقودة ، التي غيبها القمع العاري المتواصل ، وغيبتها اجتهادات ونظريات ليبرالية ” بشرت ” زوراً وكذباً بتأبيد عبودية الرأسمال ، وهي الأداة .. الآليات .. التي ينبغي توسلها في الصراع ضد الديكتاتوريات ، للتعويض عن غياب وتغييب قوى وأحزاب سياسية كان معولاً عليها ، أن تتبوأ دور الرافعة في هذا النهوض وهذا الصراع حتى خواتمه المنتصرة .
ومن الثوابت بمكان ، أن الشعوب .. وحركات المقهورين .. حين تستدرك حلقات النضال المفقودة .. تكتشف كم هي قوية .. وكم هي قادرة على تحطيم أصنام الديكتاتورية .. وتسقط المسافة بين القهر والثورة .. وتجد نهاية نفق الاضطهاد والاستغلال والظلم في متناول يدها ..
في غمرة الثورة التونسية بعد أن هرب الديكتاتور ، سئل وزير الخارجية المصري ” أحمد أبو الغيط ” عما إذا كان يتوقع انتقال الثورة إلى مصر ، فأجاب منفعلاً ” هذا كلام فارغ ” . لكنه من المؤكد ، أنه لن يستطيع تكرار كلامه الفارغ ، بعد أن امتلأ الشارع المصري بمئات آلاف المتظاهرين في مختلف المدن المصرية .. في القاهرة والاسكندرية والمحلة والمينا والاسماعيلية ودمياط وأسيوط والسويس والمنصورة ، وسيعرف بعد وقت لن يكون بعيداً ، ما معنى ما يتردد في المظاهرات الصاخبة من عبارات موجهة لرئيسه حسني مبارك ” بن علي بيناديك .. فندق جدة مستنيك ” ..
وستعرف السيدة ” كلينتون ” .. أن أحوال صديقها مبارك .. لم تعد كما تشتهي .. مستقرة ..

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى