ثورة مصر

زلزال سياسي واجتماعي في مصر.. وآلهة لا تفهم؟

خالد الشامي
هل اندلعت في مصر الانتفاضة التي طالما حذرنا وحذر المراقبون منها؟
لقد تحرك قطار التغيير ولا ريب، ولن تعود مصر ابدا كما كانت قبل 25 كانون الثاني/يناير، مهما حدث او لم يحدث، طال الزمن ام قصر قبل ان تتحق كل المطالب المعلنة لهذه الهبة التاريخية.
لقد قال الشعب المصري كلمته عالية واضحة، وانصت اليها التاريخ جيدا، كما فعل دائما، رغم التعتيم الاعلامي على الانتفاضة، الذي تعددت اسبابه وحساباته داخل مصر وخارجها.
اصدر هذا الشعب المكافح الاصيل حكمه بعد ان طال صمته، وظن البعض ان قدرته على الصبر ضعف واستكانة، او تصديق لحالة مرضية تسمى في علم النفس (الخنوع الجمعي) وهي التي تنتج عن العيش لزمن طويل تحت الحكم الديكتاتوري، واستشهد بها تقرير التنمية البشرية الخاص بالعالم العربي في العام 2004.
وليست هذه النظرية الوحيدة التي اثبتت الانتفاضة المصرية عدم دقتها، بل ليس من المبالغة القول ان اولئك الشباب والكهول الشيوخ والنساء، الذين تدفقوا كالغيث من كل حدب وصوب، وغالبيتهم الساحقة يخرجون في مظاهرة للمرة الاولى في حياتهم، اعادوا رسم الخريطة السياسية في مصر، وفرضوا اجندتهم الخاصة على النظام والمعارضة معا، عبرهتافاتهم التلقائية، وقدرتهم المدهشة على هدم جدار الرعب التاريخي في مواجهة ماكينة القمع الجبارة للحكم.
وليس هذا الصمت الرهيب الذي خيم على الساحة السياسية المصرية في ذلك اليوم التاريخي، باستثناء بيان من وزارة الداخلية في تأكيد جديد لمفهوم الدولة البوليسية، سوى انعكاس لمشاعر الذهول وعدم التصديق، التي تملكت المتحصنين في قصورهم والمتشبثين بمناصبهم لعقود ومن يدور في فلكهم من منافقين، بل ان قوى المعارضة نفسها، وقد اخذها التحرك الجماهيري على غرة، بدت لاهثة وهي تحاول صياغة مطالب ترتقي الى مستوى الانتفاضة. وقد اعرب عدد من المتظاهرين انفسهم عن دهشتهم من حجم التحرك وصلابته، وهم يرون عشرات الالاف يخرجون في مدينة صغيرة، بالمقاييس المصرية، كالمحلة الكبرى.
انه زلزال اجتماعي وثقافي بقدر ما هو سياسي، يفتح صفحة جديدة في علاقة المواطن المصري التاريخية والمعقدة مع الفرعون. ويخطأ بعض ‘الخبراء الجدد’ في الشأن المصري عندما يقارنون انتفاضة 25 يناير بانتفاضة 18 و19 يناير في العام 1977، التي اسماها الرئيس الراحل انور االسادات ‘انتفاضة الحرامية’، حيث ان تلك الانتفاضة ارتبطت بحدث معين هو رفع جزئي للدعم الحكومي عن بعض السلع الرئيسية، وانتهت بتحقيق هدفها، عندما تراجع السادات عن قراراته خاضعا لشرط الجيش للنزول الى الشوارع لاستعادة النظام. اما هذه الانتفاضة فقد تحدثت للمرة الاولى في التاريخ عن ضرورة رحيل الفرعون نفسه، بل وتغيير النظام، كما جاء في الهتاف الذي كان الاكثر شيوعا في ميدان التحرير، مساء الثلاثاء، الا وهو (الشعب يريد تغيير النظام)، فليس مقبولا ان يرحل شخص وتبقى ‘جوقة التوريث والفساد’ التي اوصلت البلاد لهذا الانفجار. ومن هنا فاننا امام انتفاضة غير مسبوقة في حجمها وطبيعتها ومطالبها في التاريخ المصري، حديثه وقديمه معا.
وليس السؤال ان كان الحكام الذين حولهم طول البقاء في السلطة والصلاحيات المطلقة الى اشباه الهة، قد تبلغوا الرسالة، ولكن ان كانوا فهموها بما يكفي ليجنبوا انفسهم والبلاد السيناريو التونسي؟
ورغم ان مصر مازالت ‘في غرفة الولادة’ وليس واضحا الى اي مدى ستذهب هذه الانتفاضة في اعادة تكوين المشهد السياسي، الا انها نجحت بالفعل في خلق حقائق جديدة على الارض بينها.
اصبح ضروريا على كافة مكونات النظام السياسي، اعادة النظر في استراتيجيته، ليحجز مكانا في هذه الرمال المتحركة، ثم يضبط ايقاعه على الدينامية الجديدة التي خلقتها الانتفاضة. ولا يستثنى من ذلك احد سواء في المعارضة او الحكم.
ان الحديث حول ان جماعة الاخوان هي اكبر قوى المعارضة، اصبح شيئا من الماضي بعد ان تحرك الساكنون وتكلم الساكتون، فتوارت العناوين السياسية، وتهمشت الكيانات التنظيمية على اختلاف احجامها واوزانها.
ان النظام في مصر، ليس انفعاليا مثل نظام بن علي، ومن غير المرجح ان يرتكب الاخطاء نفسها التي عجلت برحيل الرئيس التونسي، كاالمسارعة الى التخلي عن رموز الحكم، وسيعمل غالبا على احتواء الصدمة قبل ان يتخذ اجراءات متوازية على المسارين الامني والاقتصادي، لتخفيف الاحتجاجات حتى تهدأ تلقائيا، الا ان هذا لن يعفيه من الاجابة عن السؤال الصعب الذي تطرحه حول مستقبل الرئاسة، ولن يضمن له النجاح في مواجهة شارع اصبح خبيرا في خدع ‘الالهة’ ومماطلاتها.
ان رحيل الرئيس المصري، الذي هو قاعدة النظام، اصبح المطلب الجامع لهذه الانتفاضة والمكون الرئيسي لها منذ يومها الاول، ما يعني ان محاولة الالتفاف عليها باجراءات جزئية او فئوية، كعلاوات او تخفيضات في الاسعار لن تجدي.
ان قيام الانتفاضة بقيادة (الشارع) في مصر بعد تونس، يكرس ايضا نمطا ثوريا جديدا لا يحتاج الى قيادة تنظيمية، ويستند الى وسائل التنظيم التي يوفرها الاعلام الجديد، خاصة الفيس بوك، ما يقوض الجدل حول الاسماء والاشخاص، الذي طالما استهلك طاقات النخبة، واستفز خلافاتها من دون طائل.
ان المعارضة مطالبة بتوفير المعطيات اللازمة لهبوط آمن يجنب البلاد الوقوع في فراغ دستوري، ناهيك عن الفوضى التي اصبحت ‘التعريف الرسمي’ الذي اقره النظام لهذه الانتفاضة.
ان اهمية التغيير المرتقب في مصر لخصه دبلوماسي امريكي عندما اشار الى ‘ان السياسية الامريكية في الشرق الاوسط ترتكز على النظام المصري خلال الاربعين عاما الماضية’، وهو ما يبرز الفارق عن التغيير في تونس، رغم اهميته. وليس من المبالغة القول ان تغييرا ديمقراطيا حقيقيا في مصر قد يفتح الباب امام سلسلة تغييرات اقليمية قد تعيد رسم الشرق الاوسط.
ان الولايات المتحدة ابدت تمسكها بمصر كحليف استراتيجي، الا انها بدت اقل حرصا على مصير النظام الحاكم، الذي بدا التمسك به في هكذا اجواء نوعا من الانتحار السياسي.
وفي حال استمر النظام في اصراره على اعتبار الانتفاضة ‘فوضى’ فان السؤال ليس ان كان التغيير سيحدث، لكن متى وبأي ثمن.

‘ كاتب من اسرة ‘القدس العربي’

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى