ثورة مصر

لحظة الحقيقة النظام يطلق الثورة المضادة

شريف يونس
تبين الآن أن خطاب مبارك الذى وعد بإصلاحات محدودة للغاية لم يكن سوى مناورة لتصفية الانتفاضة المصرية. إن ما يحدث الآن من مذابح لا يمكن فهمه من الوجهة السياسية إلا فى إطار الخطة الشاملة التى شكلها مبارك ونظامه لوأد الانتفاضة وإطلاق حكم الإرهاب. وفيما يلى استعراض سريع لتطور استراتيجيات النظام ومساره الحالى.
(1) واجه مبارك تحدى 25 يناير بتكتيل قوات الأمن المركزى الضخمة، ولكن هذه القوات هُزمت هزيمة منكرة فى 28 منه فى القاهرة والإسكندرية والسويس. ثم فى بضعة مدن فى اليوم التالى. اضطر النظام إذن للجوء إلى الجيش، عن غير رغبة. لأن دخول الجيش يمس المعادلة التى قام عليها النظام: الرئاسة؛ الداخلية وما يتبعها من بلطجية وعناصر الشرطة السرية تحت سيطرة أمن الدولة؛ رجال الأعمال. كانت الانتفاضة هى التى كشفت بنية النظام من الداخل.
(2) بعد هذه الهزيمة المنكرة غير النظام تحالفاته، وتجسد ذلك فى تعيين مدير المخابرات نائبا وأحمد شفيق رئيسا للوزراء. ولكن بالمقابل قاومت الشرطة، وخصوصا أمن الدولة تغيير موازين القوى داخل النظام وجرى إطلاق المساجين وعناصر من الشرطة السرية وعناصر إجرامية يستخدمها عادة لتحويل الانتفاضة إلى غياب كامل للأمن وترويع السكان. ولعب إعلام النظام دورا مهما لمضاعفة تأثير هذه العمليات.
(3) نجحت قوات الجيش فى النهاية فى تنحية العادلى بعد مناورات. وكان تعيين وزير جديد للداخلية علامة على إنشاء تحالف جديد تتبع فيه الشرطة الجيش، كأمر واقع بعد سيطرة الجيش على وزارة الداخلية وتوليه مهام الأمن مع فرض حظر التجول، فضلا عن تراجع سيطرة أمن الدولة على الشرطة.
(4) كان من نتائج تدهور الأوضاع الأمنية أن تولى السكان بأنفسهم تنظيم المرور وتنظيف الشوارع وحماية الأحياء بتعاون جماعى بروح معنوية مرتفعة. ولكن ترافق مع ذلك تزايد رغبة الكثيرين فى الأمن، مع تزايد الرغبة فى تنحى مبارك لتهدئة الأوضاع. وقد أدى تدهور الأوضاع المعيشية إلى انقسام السكان. ولكن النتيجة النهائية تكشفت فى مظاهرات أول يناير الحاشدة التى تطالب بتنحى مبارك.
(5) بعد نجاح مبارك فى إعادة تشكيل تحالف الشرطة والجيش بعد تنحية العادلى، بدأت دوريات الجيش تضم عناصر من الشرطة. فى نفس الوقت أطلق النظام مجموعة من المظاهرات التى تعتمد على عناصر من الحزب الوطنى والشرطة السرية والشرطة التى تلبس ملابس مدنية، لم تلق اهتماما كبيرا فى البداية. ولكن هذه كانت علامة تحرك القوى المستفيدة من النظام والتى تتمثل فى مجموعات رجال الأعمال الذين حركوا بعض عمالهم بالرشوة بمبالغ طائلة وعناصر الشرطة التى أفقدتها الجماهير هيبتها، والنقابات العمالية الصفراء التى وعدت متظاهرين بمكافآت كبيرة. ثم ألقى مبارك بيان الليلة الماضية الذى قدم فيه تنازلات شكلية، محتفظا فى يده بكافة السلطات، وكذلك لرئيس الجمهورية القادم. ولكنه نجح بذلك فى تحييد قطاعات من الطبقة الوسطى، بما فيها قطاعات من المتظاهرين، قررت أن هذه التنازلات المحدودة تصلح كبداية. وبناء على ذلك ظهرت تظاهرات جديدة اليوم من عناصر من الطبقة الوسطى، مؤيدة لمبارك بمعنى الاستقرار بأى ثمن، وبأمل الحصول لاحقا على نصيب أكبر من كعكة السلطة الاستبدادية نفسها.
(6) أخيرا، طالب الجيش المتظاهرين بالرجوع إلى بيوتهم. ولكن الجمع بين هذا المطلب وإطلاق المظاهرات المضادة يعنى أن مبارك قرر أن يسحق الانتفاضة، لا أن يفرض عليها تخفيض سقف مطالبها فحسب. وبالفعل تدفقت عناصر التخريب على ميدان التحرير مسلحة بأسلحة بيضاء وأحصنة، بل وقنابل مسيلة للدموع لا تملكها سوى الشرطة، لتُجهز على قوى الانتفاضة الأكثر صمودا فى القاهرة والإسكندرية، وربما مدن أخرى. وبرغم أن هذا التحول قلل القطاعات التى تعاطفت مع مبارك بعد خطابه الأخير، فإنه سيعزز الخوف، وهو ما يعنى حسم الأزمة السياسية بتعزيز صورة مكثفة من حكم الإرهاب الذى ساد البلاد وتجلى بكل قوته فى مواجهة الانتفاضة فى بدايتها. أصبح المطلوب لا يقل عن الثأر من هزيمة 28 و29 يناير، ليكشف النظام عن ديكتاتوريته فى أكثر أشكالها بشاعة. إنها لحظة الحقيقة.
(7) على المستوى الإقليمى كانت الانتفاضة أيضا لحظة الحقيقة حيث تعاطفت الأنظمة العربية تماما مع النظام. كما كانت إسرائيل الأكثر حماسا فى الدفاع عنه، ليس فقط عبر التصريحات، ولكن أيضا بجهود دبلوماسية هائلة. أما الولايات المتحدة فقد أدركت أن استمرار مبارك بعد الانتفاضة المليونية تعنى أن يتحول النظام القائم من حليف إلى عبء باهظ عليها، سياسيا وربما اقتصاديا أيضا، لذا تحولت بشكل إلى مطالبة مبارك بالتنحى.
(8) برغم كل هذه المناورات، فشل النظام فى إخماد الانتفاضة العزلاء فى لحظات كما كان يأمل، وأصبح عليه أن يواجه عواقب تكشف إجرامه الذى وصل إلى حد هجوم بلطجيته على المتحف المصرى وحرق متاجر فى القطاعات التى يسيطر عليها. لقد أدت هذه المقاومة الباسلة أيا كانت نتائجها إلى محو أية أوهام بشأن طبيعة النظام والقوى التى تؤيده، وفقدان الكثير من التعاطف الأولى الذى حصل عليه مبارك بحيلة بارعة بالأمس. كما أن الموقف السلبى للجيش، بل وإفساح الطريق لبلطجية النظام للدخول بأسلحتهم إلى الميدان، بل والتسامح مع استيلائهم على بعض معداته، كل ذلك نهش شرعية الجيش بقسوة ويهدد بتفككه تحت وطأة العار. إن مبارك يسحب معه إلى مذبلة السياسة الفاشستية كل ما ينتمى له أو يقترب منه أو يتشبث به.
(9) الآن أصبح على النظام، إذا استمر، أن يحكم بالقوة العارية، فينتقل إلى حملة اعتقالات، وربما تصفية جسدية، واسعة. لقد رفض أن يقدم أى تنازل سياسى له معنى. وسيكون عليه فى الأسابيع القادمة، إذا نجح فى سحق الانتفاضة بالكامل، أن يواصل مسلسل الدولة الأمنية، ولكن بمشروعية متناقصة بشدة، ويقدم من اللحم الحى لاقتصاد البلاد رشاوى اقتصادية لأكبر قطاع ممكن من المواطنين، إلى أن تستقر قبضته تماما بالإرهاب على السلطة، فيُستكمل تخريب الاقتصاد.
(10) كان البديل الذى رفضه النظام هو تنحية مبارك بشكل كريم وتقديم تنازل سياسى ملموس للانتفاضة بإتاحة الفرصة من حيث المبدأ لصياغة دستور جديد أو إعادة صياغة الدستور القائم. كان من شأن هذا التنازل أن يفتح الأفق لإقامة مجال سياسى يساعد الناس على تحمل المصاعب الاقتصادية القادمة، بناء على الثقة فى النظام نفسه. هذا الخيار يبدو أنه فُقد بسبب نجاح مبارك فى بناء التحالف الأمنى مرة أخرى.
(11) لا يتبقى أى أمل فى الإفلات من هذا المصير سوى أن يخرج الجيش من هذا التحالف مرة أخرى ويعيد تقييم مواقفه ويبحث عن حلفاء مدنيين لإنقاذ البلاد، ويبدو أن هذا مشروط بأن تستمر الانتفاضة برغم كل شىء، بما يهدد تماسك القوات المسلحة أمام الأعمال البشعة وصعود الشرطة مرة أخرى كمنقذ للنظام على حسابه. والمشكلة الجوهرية أمام هذا الخيار هو ضعف القوى السياسية نفسها. ولكن لعله مما يشجع على بعض الأمل هو أن قوى المعارضة أدانت ضرب الانتفاضة وتمسكت بموقف تنحية مبارك، بما يرفع قدر الثقة الشعبية بها فى حالة استمرار الانتفاضة. وبالتالى ثمة فرصة فى المقابل لتسيس الانتفاضة بشكل أكبر، وتسيس قطاعات واسعة من السكان وتزايد إدراكها لطبيعة النظام الذى يحكمهم. إنها.. مرة أخيرة.. لحظة الحقيقة.
من شريف يونس قبل لحظات:
إضافة للنقطة عشرة: فى حالة انتصار النظام سوف تكون العلاقة بين العنف والسياسة قد وضعها النظام كقاعدة مُلزمة للجميع. وعلى خلاف عمليات الإرهاب التى قام بها الإسلاميون فى الثمانينيات والتسعينيات والتى أثارت استنكار معظم …سكان البلاد، سوف يصبح العمل العنيف هو الطريق الوحيد المنطقى للسياسة فى نظر قطاعات واسعة، خاصة بعد أن يستنفذ النظام قدراته فى رشوة قطاعات السكان.
أخيرا يا زملاء، أنا لا أعرف كيف حقق المتظاهرون هذا الصمود المذهل والانتصار، ولو المؤقت فى ميدان التحرير. شىء مذهل حقيقة. عاشت الانتفاضة. قلبى يبكى دما على الشهداء الشرفاء والجرحى الذين لم يبخلوا بشىء.. لا أتصور أى عقاب يمكن أن يُعتبر بأى مقياس كافيا للزبانية الحكام. لا أتصور.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى