صفحات سورية

معضلة “الخارج” في المعارضة الوطنية

null
رأفت نديم شهبا
بالتزامن مع التحضير للغزو الأميركي للعراق نهاية عام 2002 بدأ النقاش يدور في أوساط المعارضة السورية حول الهدف الأميركي من الغزو، وعلى الرغم من أنهم كانوا معنيين – ككل العرب في ذلك الوقت- بآثار الغزو على العالم العربي واستقرار المنطقة، إلا أن الآثار التي تطال بلادهم أكثر من غيرها جعلت اتجاهاً يبرز بشكل واضح في المعارضة يرى رغبة الأميركية “حقيقية” بالتغيير في المنطقة، ظلَّ هذا الرأي موضع تجاذب النفي والإثبات، إلى أن وقعت حادثة اغتيال رئيس الوزراء اللبناني (14 شباط 2005)، وبدأت تداعياتها بالتحقيق الدولي والخروج المذل للجيش السوري في لبنان حتى بدا أن المسألة أصبحت واضحة: ثمة رغبة أميركية بالتغيير، إنها “الحقيقة” التي تمَّ التأكد منها مع تقارير ميلس، لم تنظر المعارضة(في الداخل على وجه الخصوص) إلى المسألة القانونية، لقد ضللها هم التغيير؛ فوقعت في فخ الرؤية السياسوية للتحقيق، شأن النظام نفسه، كلاهما اشترك في الرؤية ذاتها للتغيير القادم عبر”التحقيق”!.
بعد ذلك؛ كل النقاشات كانت تدور حول تفسير ماهية دوافع التغيير الأميركي، والمصالح الثاوية خلفها، وجاءت فكرة”الهلال الشيعي” (التي كشفها الأردن لأول مرة) لتفسح الفرصة أمام فهم جديد للمسألة، وتعزز بقوة فرضية التغيير على أساس المصالح القومية للولايات المتحدة في منطقة الشرق الأوسط عبر الأقنوم الثلاثي(النفط، الإرهاب، أسلحة الدمار الشامل) المؤسس للاستراتيجية الأميركية ما بعد 11 أيلول، وتطبيقات هذه الاستراتيجية في الشرق الأوسط تجعل إيران هدفاً رئيساً للسياسة الأميركية للفترة المقبلة، وتحوِّل النظام في سورية إلى ورقة تابعة لكسر النفوذ الإيراني المتعاظم، الذي يهدد المصالح الأميركية من الخليج النفطي إلى حدود البحر المتوسط وشمال إسرائيل.. وعلى الرغم من تحفظ المعارضة على أهداف التغيير الأميركي إلا أن المعارضة كانت مؤمنة بأن التغيير لن يكون ممكناً إلا من”الخارج”.. والخارج – فعلياً- كاد ينحصر بالولايات المتحدة التي تقود الضغوط على النظام منذ التحضير لاحتلال العراق.
على الرغم من أن المعارضة(عموماً) كانت ترفض بشكل قاطع تكرار دور المعارضة العراقية، وترفض بشكل حاسم أيضاً أي شكل من أشكال التدخل العسكري في التغيير إلا أنها كانت مختلفة فيما بينها حول درجة الاعتماد على الضغوط الخارجية، وكيفية الاستفادة من هذه الضغوط دون”علاقة” مع الخارج. ورغم أن الكثيرين في معارضة الداخل – وبحكم انتمائهم اليسروي- كانوا يرون في الرغبة الأميركية في التغيير إمبرياليةً جديدة، ويسردون تفسيرا اقتصاديا بائسا متعلقا بوسائل الإنتاج وعلاقتها بالعولمة والخصخصة وغير ذلك، لكنهم كانوا عموماً يتوقون إلى حصول هذا التغيير، وبعضهم كان – لدى إحساسه ببلوغ النظام ذروة الخوف لدى صدور أحد تقارير المحقق الألماني ديتلف ميلس- لا يتورع عن إبداء رغبته في الانخراط في علاقات أميركية رغم رواسبه الماركسية! على أساس أن العلاقات بين البلاد تقوم على أساس المصالح، لكن هذا النزوع (على قلته) كان يغطي الرغبات الفردية باستغلال الظروف باسم المصالح الوطنية، ونموذج المعارض “كمال اللبواني” مثالياً لتقريب هذه الصورة.
من تقرير إلى تقرير، انتظرت المعارضة ساعة الفرج، خمسة تقارير مرت بفارغ الصبر حتى الآن منذ بدء التحقيق الدولي، لم تنته القصَّة: ستة أشهر، مددت ثلاثة أشهر، مددت ستة أشهر بعدها، ثم ها هي تمدد سنة كاملة مرة واحدة، كان كل تقرير يبهج المعارضة، لكن تقارير “سيرج براميرتز” التي أبهجت النظام لم تغضب المعارضة في البدء، فقد كان التقرير الأول إجرائياً، وراهنت المعارضة على التقرير الثاني التي توقعت أن يكون حاسماً، لكن ما أن اقترب موعد التقرير حتى سربت الصحافة أن التقرير سيكون إجرائياً، يقول الكثير ولا يقول شيئاً أبداً! لم يكن هذا فحسب، بل إن القرار 1686 الأخير الذي يمدد عاماً للتحقيق أثار إحباط المعارضة، فما الذي يضمن أن التحقيق ينتهي بعد عام؟
هل أسقط بين يدي المعارضة؟
نعم حصل ذلك؛ لأن المعارضة كانت تراهن بشكل علني تارة وبشكل مضمر أخرى على هذا “الخارج” للتغيير، لكن في المقابل لا يعني ذلك أن النظام صار أقوى (نتيجة تقارير براميرتز) أو أضعف (بسبب تقارير ميلس) فمن يعرف سورية يدرك جيداً أن النظام لم تتغير قوته أبداً، صحيح أنه أصيب بارتباك وخوف، لكن ذلك لا يعني أنه ضعيف في الداخل.. إن المعارضة أصبحت أقوى من قبل، وفي كل يوم تحقق مكاسب جديدة في الداخل، لكنها في ظروف لا تحسد عليها أبداً، في بلد عندما تعارض فيه فإنك تقامر بدمك إنه من الوهم أن يظن المرء أن تنامي قوة المعارضة وضرب النظام لها تنم عن قوتها وخوف النظام منها (كما يذهب “إيال زيسر”)، ذلك أن النظام لا يستند في ضربه للمعارضة واعتقاله لها إلى خوفه منها، بقدر ما يريد أن يثبت صورته لدى الشعب المسكين بأنه قوي، وأن صخب المعارضة مجرد فسحة تركها النظام كرم أخلاق، وليس ضعفاً بسبب الضغوط الدولية، باختصار إنه رغبة في تثبيت الصورة، صورة النظام التسلطي القاهر القائم منذ أمد ولم يتغير.
يقع “إيال زيسر” (في مجلة ميريا) وكثيرون غيره ضحية تقارير سريعة وسطحية قادمة من دمشق، والدعاية الإعلامية أيضاً عن تنامي معارضة داخلية إسلامية، فالخلايا الأصولية الإرهابية ليس لها وجود تنظيمي، وما ثبت منهم بأنه أصولي كان بسيطاً وساذجاً إلى درجة تبدو العمليات كما لو أنها أقيمت فداء للنظام نفسه! ليس هناك أي نمو للأصولية، ولا جود لتنظيمات متطرفة ولا هم يحزنون، وليس لدى المعارضة في الداخل شك بهذه الحقيقة أبداً.
ما يهم الآن أن النظام أو “الداخل” (المقابل للـ”الخارج”) قوي، والمعارضة السياسية في دمشق تتنامى فعلاً على الرغم من أنها ما تزال ضعيفة جداً حتى الآن، وقد “أثبت” الأميركيون أنه لم يكونوا جادين فعلاً بشأن التغيير في سورية، كما يشير تقرير “ديفيد شنكر” David Schenker ـ مثلاً ـ من “معهد واشنطن لسياسات الشرق الأدنى” (12 يونيو 2006) تحت عنوان : “دكتاتورية سورية تبقى محاربة حتى يوم آخر” (Syria’s Dictatorship Survives to Fight Another Day)، حيث يؤكد بأن التكاسل الأميركي وتباطؤ الضغط باتجاه دمشق أعطى انطباعاً لدى دمشق بأن واشنطن غير جادة بالتغيير، وأن هذا التباطؤ يمنح سورية الفرصة للهروب من استحقاقات عملها في تفشيل المخطط الأميركي في العراق، ويحقق استراتيجيتها في الخروج من المأزق بالاعتماد على الوقت، ورحيل بوش، وبالأمس القريب يعيد الأميركيون تأكيدهم بأنهم لا يريدون تغيير النظام، بل تغيير سلوكه(جون بولتون، صحيفة الحياة، 16 يونيو 2006).
إن المعارضة تفتقد إلى استراتيجية فعلاً، ومن المفترض أن تجرَّها هذه الإحباطات إلى التفكير بأخذ المبادرة لصوغ استراتيجيتها دون الاعتماد على الضغوط الخارجية التي اعتمدت عليها بشكل أو بآخر، فقد أثبت الخارج أنه من غير الممكن الاعتماد عليه؛ فما حكَّ جِلدَك مثلُ ظفرِك. وإذا كانت العلاقة بالخارج مثار جدل الآن في أوساط المعارضة، فإن سير الأحداث أخيراً يجب أن تسرع حسم هذا الجدل لأنه يعني الكثير بالنسبة لمعارضة ما تزال لا تجد ما تستند عليه غير إيمانها ببلادها.
كاتب سوري
http://alghad.com/index.php?news=104436

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى