ثورة مصر

هل يُعاد تعريف أحجام الدول العربية؟

حسام عيتاني
لم يعد أي من الأصدقاء يعرف أين أصبحت المشاورات الرامية الى تشكيل الحكومة اللبنانية. باتت الأسئلة عما رشح من لقاءات الرئيس المكلف مع المسؤولين في قوى الموالاة والمعارضة السابقتين تقابَل بنظرات استغراب. عاد تشكيل الحكومة اختصاصاً سرياً لا يفقه رموزه وإشارته سوى قلة من الزملاء المعنيين حصراً بالسياسة اللبنانية.
تفسير ذلك موجود في عبارة من كلمتين تكفيان لإعادة كل نقاش إلى الحيز الذي يتراءى للجالسين أنه يستحق نقاشاً: «هذه مصر». ليس حجم التحرك وحده ما يجذب الأبصار، بل وقوعه في أكبر دولة عربية وأهمها من نواحٍ كثيرة ليس أقلها التاريخ والتأثير الثقافي والموقع الاستراتيجي.
ولعلنا ننتمي إلى جيل نسي الأثر المصري في الحياة العامة بسبب انقطاعه منذ بداية عهد الرئيس حسني مبارك، لأسباب عدة. ففي العقود الثلاثة الماضية لم تعد تأتينا من مصر أفكار ذات قيمة، سواء في السياسة أو الفنون أو الآداب. وبدا أن إخوتنا الذين ربّوا أجيــالاً سابقـــة مــــن المشرقييـــن والمغاربة على تذوق الفن المصــــري وعلــى تقديـــم مصر في الريادة في مجالات شتى، قد أصيبوا بالقحط وراح يظهر من بينهم من يقدم القديم والمبتذل والهالك على أنه أفضل ما يمكن ابتكاره. كان التراجع المصري العلامة الأبرز على النكبة التي أصابت العالم العربي معلنة فشل مشاريع التنمية والنهوض والحداثة، بمعانيها السياسية والاجتماعية والثقافية.
وربــــما يحق للبنانيين التأمل في معنى اجتياح اسرائيل بلدهم واحتلالهــــا عاصمتهم وتنصيبها رئيساً عليهم، عام 1982، بالتزامن مع تكريس الاختلال الهائل في موازين القوى الذي أحدثه خروج مصر ليس من الصراع العربي – الاسرائيلي فحسب، بل من كل مجـــال التأثير والفعل في المنطقة، واكتفاء الحكم فيها باتباع سياسة العداء للسياسة بما هي تفاعل وتداول ومشاركة وتبادل. الاجتياح الإسرائيلي لبنان كان علامة أولى وكبيرة على ما ينتظر الدول العربية من مآسٍ قد لا يكون غزو العراق ودماره سوى واحدة منها.
هذا ما تقوله الجغرافيا السياسية بمعادلاتها الكلاسيكية عن موازين القوى وحسابات الامتلاء والفراغ والجذب والدفع التي تشكلها المصالح المادية والإغراءات الاستراتيجية لكل مناطق العالم.
تقلص الدور المصري في الجوار العربي بذريعة الاهتمام بالقضايا الداخلية الاقتصادية والاجتماعية، شرع الأبواب أمام دول وقوى سعت الى ملء الفراغ. ومن «جبهة الصمود والتصدي» أواخر السبعينات، إلى «محور الممانعة» في العقد الأول من القرن الحالي، بــدا أن المنطقة لا تفلح في الشفاء من عرج يجعل سيرها أشبه بسلسلة لا تنتهي من حوادث السقوط ومحاولات القيام ثم السقوط من جديد.
وما قيل عن «عودة مصر» في النصف الثاني من الثمانينات بعد استئناف العلاقات الديبلوماسية بين الدول العربية والقاهرة التي استعادت مقر الأمانة العامة لجامعة الدول العربية (ومنصب الأمين العام)، لم يجد ترجمة عميقة له بين العرب، ليس لأن هؤلاء تغيروا في الثمانينات بعد ظهور جملة تحديات جديدة كالجمهورية الإسلامية في إيران والحرب العراقية – الإيرانية وانكشاف اهتراء الوضع العربي بعد العجز عن فرض حل سلمي في لبنان، بل أيضاً لأن مصر ذاتها قد تغيرت، ولأنها «عادت» نصف عودة، بسفاراتها وديبلوماسييها، لكنها عادت خالية من الحيوية والأدوار والأفكار التي كانت تحملها وتوزعها وتؤديها، على نحو كان يثير ضيق «الإخوة» والجيران.
لكن مجــــرد دبيب الروح في شوارع القاهرة والإسكندرية والسويس وغيرها من المدن، بيّن أن مركز منطقتنا هو الذي انتفض وليس فرعاً أو ناحية قصيّة هامشية. وظهر مجدداً ضعف بل هزال كل دولة أو مدينة سعى أصحابها الى تكريسها مركزاً بديلاً عن القاهرة.
صحيــــح أنه من المبكر وقد يدخل في باب الافتعال، القول إن توازنــــاً سياسياً جديداً، سواء في الصراع العربي – الإسرائيلي او العلاقات العربية – الإيرانية أو في السعي إلى بناء مجتمع مدني وسلطــــة ديموقراطية عربيين، سينشأ عندنا وأن دولة الاستبداد العربيـــــة قد أزف وقت رحيلها. بيد أننا لا نستطيع الزعم، في المقابــــل، أن شيـــئــاً لـــــم يحدث وأن يقظة «الشباب المصري العظيم» لا تعني سوى تغيير طفيف وشكلي على سطح السلطة في مصر.
ما حـــدث وما سيحدث كبيــــر الأهمية، لا شك في ذلك ولا لبــــس. وسيتـــــرك أثره في المنطقة بأسرها، على ما تجمع أقلام وآراء من مشــــارب ومنابــــت مختلفة. و«عودة مصر»، بالمعنى هذا، قد لا تكون عودة مرحباً بها ممن سعى إلى احتلال موقع مصر في السياسة والاقتصاد وغيرهما. لكن ذلك لن يحول دون أن تؤدي مصر دوراً جديداً في المنطقة يختلف كثيراً عن ذلك الذي ألفه أهل المشرق العربي منذ ثلث قرن على الأقل.
وإذا كـــان استئناف الدور السياسي المصري يبدو في حكم المؤكــــد، بسبــــب ارتباطـــه بحماية المصالح المباشرة للدولة الوطنية المصرية والعمل على الاستجابة لمطالب الإصلاح التي عبرت عنها ثورة الشباب المصري، فهل يجوز الاعتقاد أن تغييرات مهمة ستدخل قريباً على دورة الاقتصاد المصري المصاب بأمراض الطفيلية والفساد وضآلة الكفاءات الماهرة (من غير المهاجرة)؟ وهل يعني ذلك أن خطاً مباشرا أقيم بين الحراك السياسي وبين كسر قوالب النمطية المفلسة التي أحاطت مجمل الإنتاج الثقافي المصري؟
على غرار كل انقلاب كبير، تطرح الثورة المصرية أسئلة أكثر مما تقدم من أجوبة. وبصرف النظر عن المآل الأخير للسلطة السياسية في القاهرة، يبدو الرهان على بداية مرحلة جديدة تحمل الكثير من الآمال، رهاناً رابحاً.
الحياة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى