صفحات العالمما يحدث في لبنان

الغالبية المتورّطة

نديم جرجورة
لم يعد قبول الآخر في لبنان وارداً، على المستوى الشعبي، بعد تصفيته على المستوى السياسي. ذلك أن أزمة الثقة بين اللبنانيين منعدمة، والارتهان المطلق لقادة القبائل الطائفية/ المذهبية طاغ على العلاقات السليمة بينهم، والتواصل بين أبناء بقعة جغرافية واحدة انتموا إليها نتيجة «القدر»، منقطع بحدّة، لأن الاستسلام الكلّي للزعيم المحليّ مانعٌ أساسي للانتماء إلى البلد، مع أن البلد منذور للموت والخراب.
لم يعد قبول الآخر في لبنان وارداً، ربما لأن لبنان لم يعد قادراً على حماية بقايا وجوده، ليس نتيجة الزلازل الإقليمية والدولية فقط، بل بسبب التقوقع المخيف في البيئات الضيّقة، التي تجعل المرء أكثر ارتياحاً في التزامه مذهباً أو طائفة، من أن يمدّ يده لهذا الآخر داخلياً. فالتدخّلات الخارجية عامل متواضع في تفكيك البنى الاجتماعية والسياسية، في مقابل الاندفاع الشعبي الحادّ للغالبية الساحقة من اللبنانيين إلى عزلات مذهبية والتزامات طائفية، ما يعني أن المصالحة اللبنانية مع الذات أولاً، ثم مع الآخر ثانياً، غُيّبت كلّياً، إرضاء لسادة المناطق/ العائلات المتناحرة في ما بينها. والتناحر المذكور يزيد البلبلة، ويوتّر الأجواء، ويرفع مستوى الأحقاد المتبادلة إلى مرتبة خطرة، في حين أن أولئك السادة منتشون بهذا التوتير، ومستفيدون من حدّة الغضب والكراهية بين اللبنانيين، لتحقيق مصالحهم الخاصّة على حساب التابعين لهم.
لهذا، بات التسامح معدوماً، والحوار السليم مغيّباً، والانشقاق سمة اللحظة الراهنة. ولهذا، ازداد التشرذم الداخلي، القابل لأن يكون وقوداً لحرب أهلية جديدة. لكن كلاماً كهذا مُملّ لشدّة تكراره، في حين أن الانتباه إلى الواقع المحلي اليومي يعيد طرح السؤال نفسه عن مصير بلد موبوء بألف مصيبة ودمار، وعن مستقبل مجتمع مفتّت وتائه وسط التناحر الأعمى بين القبائل المتحكّمة به. فأن يُعلن أحدهم أنه لن يعيد تجربة النزوح من الجنوب إلى بيروت مثلاً، إذا شنّت إسرائيل حرباً جديدة على لبنان، لأن التجربة الفائتة مرّة للغاية؛ فهذا يعني أن أزمة الثقة فاعلة، بقوّة، في بنية العلاقات الاجتماعية الداخلية. وأن يستمر آخر في رفض التعامل مع جاره، لاختلاف المذهب بينهما، بتبعاته السياسية والاجتماعية، معلناً ازدراءه إياه؛ فهذا يعكس عمق الهوّة الناشئة منذ أزمنة بعيدة، وإن بخفر وحياء، والمتجدّدة بوقاحة إثر اغتيال رفيق الحريري قبل أربعة أعوام. وأن يسقط أي نقاش بين أصدقاء في فخّ العصبية والتوتر وارتفاع النبرة والصوت معاً، وإن من دون تقاذف الشتائم المذهبية والعنصرية بين بعضهم البعض، أحياناً؛ فهذا يُساهم في إدامة الانقطاع الداخلي، بدلاً من أن يلعب النقاش السليم بين الشباب (!) على الأقلّ دور التواصل، أو محاولة وصل ما انقطع، في السياسة والثقافة والإعلام، والحياة اليومية كلّها.
تشاؤم؟ ربما. لكن إلقاء نظرة، وإن عابرة، تؤكّد أن الغالبية الساحقة متورّطة في تفخيخ البلد وناسه بألغام جاهزة للانفجار في أي لحظة.
السفير

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى