صفحات سورية

الدور الفرنسي تحت المظلة الأميركية

null
محمد السماك
تعاني المجموعة الأوروبية من مشكلة مستعصية في الشرق الأوسط ، فإذا اتخذت أوروبا مبادرة مستقلة عن الولايات المتحدة، تتولى إسرائيل إجهاضها حتى تعود أوروبا إلى الحضن الأميركي. وإذا سارت أوروبا في ركاب الولايات المتحدة، تفقد خصوصيتها المتمثلة في الاتحاد الأوروبي، وتفقد بالتالي قدرتها على إقامة علاقات مميزة مع العالم العربي. يبدو الآن أن الرئيس الفرنسي ساركوزي يحاول أن يقدم مخرجاً من هذه المعاناة، يتمثل في المبادرات الآتية: المبادرة الأولى هو دعوته إلى مؤتمر قمة لدول شمال وجنوب البحر المتوسط يعقد في باريس في 14 يوليو القادم (عيد الثورة الفرنسية)، ولعل من أبرز المدعوين، الرئيس السوري بشار الأسد ورئيس الحكومة الإسرائيلية إيهود أولمرت. المبادرة الثانية هي زيارته لإسرائيل حيث نادى من خلال الخطاب الذي ألقاه أمام الكنيست بإقامة دولة فلسطينية تكون القدس عاصمة مشتركة لها ولإسرائيل، ودعا إلى وقف الاستيطان اليهودي وتصفية المستوطنات في الضفة الغربية وتعويض أصحابها. وفي مقابل ذلك يتبنى الرئيس الفرنسي الموقف الإسرائيلي من الملف النووي الإيراني.
أما المبادرة الثالثة، فهي قراره استعادة عضوية فرنسا السياسية إلى جانب عضويتها العسكرية في حلف شمال الأطلسي. وكان الرئيس الفرنسي الأسبق الجنرال شارل ديجول قد قطع علاقة بلاده السياسية بالحلف، والتزمت الحكومات الفرنسية المتعاقبة بهذا الموقف إلى أن اتخذ ساركوزي قراره الجديد. ويعكس هذا القرار العلاقات الحميمة بين الرئيسين ساركوزي وبوش، حتى أن الفرنسيين يتهكمون في صحافتهم على رئيسهم بالقول انه “بوش الفرنسي”.
ليس واضحاً ما إذا كان اقتراح ساركوزي بإقامة نوع من التحالف المتوسطي بين دول الشمال والجنوب يحظى بموافقة أو على الأقل برضا الولايات المتحدة. لقد حاول الرئيس الفرنسي جاهداً تسويق هذا الاقتراح في الاتحاد الأوروبي، وخاصة لدى الدول المتوسطية منها. إلا أن المشكلة التي يواجهها الاقتراح تأتي من الدول العربية في الدرجة الأولى، لأنها ستجد نفسها في موقع واحد مع إسرائيل حتى قبل أي تسوية سياسية معها، أي أن التطبيع سيسبق التسوية! من هنا جاء تحرك ساركوزي ليزاوج بين السعي الأميركي لحلٍ سياسي على قاعدة الدولتين الفلسطينية والإسرائيلية وبين دعوته إلى تصفية المستوطنات وتقاسم القدس. من هنا التساؤل عما إذا كان هناك تنسيق بين بوش الأميركي وبوش الفرنسي، بمعنى هل أن الرئيس ساكوزي طالب في الكنيست بما لم يطالب به الرئيس بوش بهدف الالتفاف على المصاعب التي تواجهها مساعي التسوية السياسية؟
لا تزال أمام الرئيس ساكوزي خمس سنوات أخرى في الرئاسة، بينما لم يتبقَ للرئيس بوش سوى خمسة أشهر في البيت الأبيض. مع ذلك، فإن الخطاب الذي ألقاه الرئيس الأميركي في الكنيست خلال زيارته الأخيرة لإسرائيل بدا فيه “أشد صهيونية حتى من غلاة الصهاينة”، على حدّ قول أحد القياديين الفلسطينيين في غزة، الأمر الذي أثار غضباً عربياً وتسبّب في الوقت ذاته في إحراج الحكومة الإسرائيلية التي دخلت في مفاوضات ثنائية مع سوريا حول تقرير مصير مرتفعات الجولان بوساطة تركية ناجحة. فالمواقف التي أعلنها الرئيس بوش من على منبر الكنيست، شكلت عقبات في وجه هذه المفاوضات وعكست نوعاً من عدم الرضا الأميركي عليها. هنا أيضاً لا بد من التساؤل عما إذا كان عدم الرضا هذا جدّياً أو تكتيكياً، وحول ما إذا كان إقدام حكومة أولمرت على التفاوض مع سوريا رغم الموقف السلبي الأميركي من هذه المفاوضات هو مجرد توزيع أدوار بين واشنطن وتل أبيب هدفه ابتزاز سوريا أميركياً من جهة أولى، وتعزيز الموقف التفاوضي الإسرائيلي من جهة ثانية.
واقعياً يفتقد الرئيس الأميركي خلال الفترة القصيرة المتبقية من ولايته القدرة على الوفاء بوعده بتحقيق تسوية إقليمية على قاعدة الدولتين رغم سلامة هذه القاعدة من حيث المبدأ. وذلك لأنه فقد صدقيته في معظم أرجاء العالم العربي كما تشير إلى ذلك استطلاعات الرأي التي تجريها مؤسسات أميركية محترفة. فقد فشلت سياسات الرئيس بوش في العراق وأفغانستان وفلسطين، وحتى في لبنان! لقد صاغت إدارة الرئيس بوش مواقفها السياسية من قضايا المنطقة على خلفية عقائدية جامدة، فهل سيتمكن الرئيس ساركوزي من الالتفاف حول هذه المواقف؟ وكيف؟
للإجابة على هذا السؤال، لا بد من الإشارة إلى عدد من المستجدات المهمة التي فرضت ذاتها على مسرح المنطقة. من هذه المستجدات: أولاً: اتفاق التهدئة بين إسرائيل و”حماس” في قطاع غزة، والذي جاء ثمرة لمساع مصرية وبموافقة السلطة الفلسطينية في رام الله، والجانبان المصري والفلسطيني ليسا على علاقة جيدة مع إيران. ثانياً: التقدم المضطرد في المباحثات السورية- الإسرائيلية التي تتواصل في تركيا بتشجيع أميركي. علماً بأنه لا الولايات المتحدة ولا تركيا على علاقة جيدة بإيران. وعلماً أيضاً بأن إسرائيل تحرض الولايات المتحدة لاستخدام القوة ضد إيران على خلفية ملفها النووي. ثالثاً: الإعلان الفرنسي الرسمي- على لسان وزير الخارجية كوشنير عن نيّة فرنسا جمع الرئيس السوري بشار الأسد ورئيس الحكومة الإسرائيلية إيهود أولمرت على طاولة واحدة، خلال القمة المتوسطية المقبلة. رابعاً:الإعلان الأميركي على لسان وزيرة الخارجية كوندوليزا رايس بأنه حان الوقت لمعالجة قضية مزارع شبعا على أساس وضع المزارع في مرحلة أولى تحت إشراف قوات الأمم المتحدة المتواجدة في جنوب لبنان (اليونيفيل) تمهيداً لإعادتها إلى السيادة اللبنانية. علماً بأن هذا الإعلان الأميركي تزامن مع إعلان تقول فيه إسرائيل إنها لم تدّع يوماً أن المزارع إسرائيلية، وإنها لم تنسحب منها حتى الآن لوجود خلاف سوري- لبناني حول السيادة عليها، حتى أن الأمم المتحدة ذاتها لم تقرر بعد رسمياً حسم هذا الأمر. خامساً: نجاح الحكومة العراقية في بدء رحلة الألف ميل حول إعادة الأمن والوحدة إلى العراق. ورغم الصعوبات التي تواجهها، فإنها تجرأت على الولايات المتحدة ورفضت مشروع الاتفاق الأمني بالصيغة التي اقترحها الأميركيون المحتلون. ويبدو أن الانفتاح العربي على العراق بدأ يعطي ثماره اليافعة مزيداً من التحفظ العراقي على ما تقوم به إيران في العراق. كان هناك اعتقاد بأن إيران تستخدم أوراق هذه القضايا لتحسين موقعها التفاوضي حول ملفها النووي. وبدا لحين من الوقت أنها نجحت في ذلك، إذ أنها تمكّنت على الأقل من تعطيل كل المبادرت الأميركية والأوروبية والدولية لحملها على وقف عملية تخصيب اليورانيوم. كما أنه بدا وكأن استخدام هذه الأوراق لعب دوراً أساسياً ومباشراً في تحقيق هذا الإنجاز. ذلك أن إيران كانت تفاوض سياسياً وتضغط خارجياً وتخصب نووياً. وإذا كان هذا الاستخدام صحيحاً فكيف ستتصرف إيران الآن بعد أن رفضت العرض الدولي الأخير لوقف التخصيب مقابل مقترحات سخية يعرضها عليها المجتمع الدولي؟ هل تعيد تحريك هذه الملفات من جديد وكيف؟ هل تعطل اتفاق الدوحة بين اللبنانيين؟ هل تفشل الوساطة المصرية بين الفلسطينيين، وبينهم وبين إسرائيل؟ هل تصب الزيت على نار الخلافات السُنية- الشيعية، والعربية- الكردية في العراق؟ واقعياً، لا يمكن إنكار الحقيقة التالية، وهي أن الوضع هش في العراق، وأنه قابل للانفجار المذهبي بأقل من عود ثقاب. ولا يمكن إنكار حقيقة أخرى، وهي أن الواقع اللبناني هشّ أيضاً رغم كل محاولات التجميل الاصطناعية. ليس من الصعوبة إسقاط اتفاق التهدئة بين “حماس” وإسرائيل. فأولمرت نفسه وصف التهدئة بأنها هشة وأنها لن تعمر طويلاً (أي ستة أشهر). وليس مفاجئاً أن تنهار المباحثات السورية- الإسرائيلية أو أن تستمر في الدوران في حلقة مفرغة، ذلك أن مستقبل أولمرت على كف عفريت، ويمكن إسقاطه في أي وقت لإسقاط هذه المباحثات أو تعطيلها. ثم أن طاولة واحدة تجمع بين الرئيس السوري وأولمرت في باريس أمر يتماهى مع المباحثات السورية – الإسرائيلية ويتكامل معها، أياً تكن نتائج هذه المباحثات. أما مزارع شبعا، فان استعادتها إلى حضن الوطن اللبناني باتت على قاب قوسين أو أدنى؛ وكانت بداية التحول صدور قرار مجلس الأمن الدولي 1701 والذي يعتبر صدوره في حد ذاته انتصاراً للدبلوماسية اللبنانية التي قادها الرئيس فؤاد السنيورة وحكومته المستقيلة في وجه الحرب العدوانية الإسرائيلية على لبنان. غير أن إسرائيل اليوم تحاول كعادتها أن تبتز لبنان. وتقول إسرائيل إنها بعد أن عقدت مع كل من مصر والأردن معاهدتيْ سلام، وبعد أن تفاوضت مع السلطة الفلسطينية مباشرة، وحتى مع “حماس” بصورة غير مباشرة (بواسطة مصر)، وأنه في الوقت الذي تتفاوض فيه مع سوريا حول مرتفعات الجولان: كيف يمكن لها أن تعيد إلى لبنان مزارع شبعا من دون أن تتفاوض معه؟ ولماذا يبقى لبنان وحده خارج التفاوض مع إسرائيل، وهو الحلقة الأضعف في المجموعة العربية؟ من الواضح أن لبنان متمسك بموقف مبدأي أطلقه الرئيس الشهيد رفيق الحريري، وهو أن لبنان رغم انه أول المستفيدين من السلام في الشرق الأوسط، فإنه آخر المفاوضين العرب مع إسرائيل.
الاتحاد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى