صفحات ثقافية

رداً على عباس بيضون في “استرداد الماغوط”: السخرية أعلى درجات الجدية

null
جان داية
قلت في مستهل الفصل الثالث من كتابي الجديد «محمد الماغوط وصوبيا الحزب القومي» المتمحور على المرحلة الأولى (1950 ـ 1962) من حياة الماغوط السياسية والأدبية والصحافية: «لماذا لم يكتب وينشر أدبا ساخرا منذ بداية خمسينيات القرن الماضي، فلاعتقاده ان ذلك لا يتناسب مع اعتناقه عقيدة سعادة وانضوائه في حزبه، خصوصا ان قسَمه الحزبي حصل بعد أشهر من اغتيال سعادة. وربما عزز الاعتقاد الخاطئ، ان معظم الشعراء والأدباء القوميين أمثال فؤاد سليمان، كانوا مجلببين بالألوان السوداء».
فطرح عليّ الزميل عباس بيضون، في سياق نقده للكتاب والكاتب المنشور في هذه الجريدة بتاريخ 31 آب 2009 نصف دزينة من الأسئلة، وهي: 1ـ «على ماذا بنى داية ما اعتبر (اعتقاد) الماغوط»؟ 2ـ «وهل هناك في كلام الماغوط ما يثبت هذا الاعتقاد»؟ 3ـ «وهل يظن داية ان سخرية الماغوط وفنه وشغفه الأدبي أزرار عقائدية تعمل بحسب الحاجة الحزبية»؟ 4ـ «وان الماغوط كان حينذاك هذه الماكينة الحزبية»؟ 5ـ «هل يعني ان مصرع سعادة نشر حدادا عاما حتى على الأساليب الأدبية، فامتنع الضحك والسخرية بعد ذلك»؟ 6ـ «هل يعني ان السخرية لا تناسب أساسا جدية العقيدة»؟
أما جوابي عن السؤالين المترابطين الأول والثاني، فهو ان الماغوط لم يكشف سر امتناعه عن ممارسة السخرية في الكتابة منذ 1950 حتى صيف 1958. لكني استنتجت ذلك «الاعتقاد» من خلال القصائد والمقالات النثرية التي نشرها خلال تلك الفترة غير القصيرة، ومعظمها تناول اغتيال سعادة، مباشرة او مداورة، بمنهج حزين. وبالامكان التثبت من ذلك عبر النماذج الكثيرة من بواكيره التي أعدت نشرها في الكتاب.
وردا على السؤالين الثالث والرابع المترابطين أيضا، أقول: كلا، لم يكن الماغوط ماكينة حزبية، ولم تكن سخريته أزرارا عقائدية تعمل بحسب الحاجة الحزبية. وليس في فصول الكتاب السبعة حرف واحد يُفهم منه أني أظن ان الماغوطية ماكينة وأزرار.
وبالنسبة للسؤال الخامس، أجيب بأن أدبيات الحزب القومي في خمسينيات القرن الماضي التي اطلعت عليها، لا تحتضن تعميما واحدا يعلن الحداد العام ويحظر الضحك والسخرية، على أعضاء الحزب وأدبائه. لكن خسارة الحزب، لمفكر مبدع، وقائد تمكن من القضاء على الطائفية في صفوف مريديه، وسياسي لم تتعد ثروته الأربعمئة ليرة لبنانية لحظة اعدامه، ولم يتخط الخامسة والأربعين، أغضبت القوميين ومنهم الأدباء أمثال محمد يوسف حمود وأدونيس، وأحزنتهم، فكتبوا المقالات والقصائد التموزية.
من هنا سرّ تتويج الأديب الساخر سعيد تقي الدين حياته الحزبية التي بدأت في تشرين الأول 1951 بمقاله الشهير «حدثني الكاهن الذي عرّفه». وفي حين شارك في الغضب والحزن عدد قليل من الكتّاب والصحافيين غير القوميين أمثال مؤسس «الحياة» كامل مروة، فرح الآخرون بالجلاد وسخروا من الضحية كأن سعادة فكتور عواد.
وأجيب عن السؤال السادس بأن السخرية، سواء كانت مبكية او مضحكة، او الاثنتين معا، لا تتعارض مع جدية عقيدة سعادة او أي عقيدة سياسية. لذلك أكرر ما سبق ونشرته في مجلة «الساخر» وهو «ان السخرية هي أعلى درجات الجدية».
طبعا، لم يكتف الشاعر الناقد بطرح الأسئلة او بالأحرى «الأجوبة»، بل هو أصدر الأحكام وقدّم النصائح. ومن أحكامه، أني، كباحث، أحتاج «إلى أمور كثيرة من بينها وعي تاريخي لا يتأتى لمن لا يزالون يؤمنون بحرفية العقيدة». ومن أحكامه أيضا، ان الماغوط «لم يكن فخورا بما نشره في الصحافة الحزبية». ويرد عدم افتخاره الى ان تلك البواكير «لم تتفجر خيالا وسخرية وشاعرية، بل حذلقة».
وكما أجبت عن الأسئلة، أستأنف الحكمين. بالنسبة للأول، أكرر العبارة التي نشرتها في كتاب «حياتي الحزبية» وهي «ان درس سيرة سعادة ونتاجه يجب ان يتم بمنهج علمي ونقدي، وليس بمنهج حزبي ومدحي»، وهذا المنهج اتبعته في كتابي الأخير وفي سائر الكتب والدراسات والمقالات التي درست سعادة فيها، وبالمناسبة، هل المطلوب ان أمارس موضة التهجم على مؤلف كتاب «نشوء الأمم» كي أثبت عدم إيماني بحرفية عقيدته؟
وردا على الحكم الثاني، أكتفي بالقول ان الماغوط هو الذي أعلمني بأن بواكيره الساخرة قد نشرها في «البناء» البيروتية بدءا من صيف 1958. وقد نشرت معلومته في مجلة «الصياد» خلال صدورها في لندن. فلو كانت تلك البواكير حذلقة، لما أعلمني بها، وكان طلب مني التعتيم عليها. وبالنسبة لروايته «غرام في سن الفيل» التي نشرها في «البناء» على حلقات، فقد عبّر عن اعتزازه بها للعديد من الذين اجتمع بهم خلال السنوات التي كرر فيها “نهفة” الصوبيا والبنطلون، وطلب منهم نبشها ونشرها.
تبقى النصيحة التي أسداها لي على النحو التالي: «كنت أفضل لو اقتصر دايه على هذا الباب، أي نبش المرحلة المغمورة من سيرة محمد الماغوط، وترك لغيره ان يستثمر ما كشف عنه في أبحاثه. كان أفضل لو تنكّب عن التحليل الأدبي». وهنا، أعتذر عن قبول النصيحة لسبب بسيط، هو اني لست بوسطجيا حيث تبدأ وظيفتي بنبش الوثائق والكتابات المجهولة وتنتهي بتسليمها للباحثين من أجل تحليلها وتقييمها. وبالمناسبة، فإن نقده لكتابي الجديد ولكتابي السابق «لكم جبرانكم ولي جبراني»، يدفعني الى إسداء نصيحة اليه وهي ان يحلق سكسوكة الواعظ المتعالي وينتقد الكتب والكتّاب بموضوعية وتواضع.
جان داية

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى