صفحات سوريةمحمد علي العبد الله

ساركوزي ـ الأسد وحقوقنا الضائعة

null
محمد علي العبدالله(*)
قد يشعر البعض بالصدمة وخيبة الأمل من الدعوة التي وجهها الرئيس الفرنسي لنظيره السوري لزيارة فرنسا، إلا أن الإنفتاح الفرنسي على النظام السوري كان متوقعاً بعد وعودٍ صريحة أطلقها ساركوزي قبل أن يعلن تجميد العلاقات مع دمشق منذ أشهر. والمتابع لتلك التصريحات بدقة يذكر بسهولة أنه حتى عندما أعلن ساركوزي تجميد هذه العلاقات قال وقتها إن دمشق ستفاجأ بحجم الإنفتاح الذي ستبديه باريس فيما لو سهلت عملية إنتخاب رئيس الجمهورية اللبناني. المفاجأة الحقيقية هي أن تتم دعوة الأسد للمشاركة بالإحتفال بالعيد الوطني الفرنسي.
فالذكرى بكل ما تحمله من معانٍ لا تنحصر في فرنسا وحدها بل تتعداها إلى العالم بأسره، ولعل فرنسا اتخذت من تاريخ سقوط الباستيل عيداً وطنياً لها للدلالة فقط على ما مثلته الثورة الفرنسية بشعاراتها الانسانية الجامعة كالحرية والإخاء والمساواة، الأمر الذي يجعل من الذكرى مناسبة لإحتفال جميع المناضلين والمدافعين عن حقوق الإنسان.
وانقسمت منظمات حقوق الإنسان الدولية بين من وقف ضد الدعوة بالمطلق كمنظمة “مراسلون بلا حدود” التي أعلنت عن إدانتها للدعوة وأصدرت بياناً اتهمت فيه الرئيس الفرنسي بالتنصل من الوعود التي قطعها خلال حملته الإنتخابية لصالح مكاسب سياسية ضيقة وتجاهل المبادئ والقيم التي ينبغي على فرنسا تجسيدها. وأعلن أمينها العام روبير مينار أنه سيشعر بالخجل كفرنسي فيما لو شارك “الدكتاتور السوري” بالإحتفال في ذكرى سقوط الباستيل.
ثم دخلت منظمة هيومن رايتس ووتش على الخط متحاشية الدخول في السجال السياسي الدائر حول الدعوة وصوابها من عدمه، واكتفت بتذكير الدول الغربية السّاعية إلى تحسين علاقاتها مع سوريا بأن السلطات السورية ما زالت تعتقل وتحاكم وتضايق الناشطين السياسيين وناشطي حقوق الإنسان، مطالبة الدبلوماسيين الغربيين أن يظهروا الجرأة خلال محادثاتهم مع سوريا وأن يقوموا بإبلاغ السلطات السورية بأن عليها إطلاق سراح المعتقلين السياسيين.
وخلال متابعتي للأحداث عدت بذاكرتي للعام 2005 وتذكرت اللقاء مع النائب في البرلمان الأوروبي ورئيسة لجنة العلاقات مع بلدان المشرق العربي “بياتريس باتري”، التي زارت دمشق والتقت أبناء المعتقلين وقتها. وتذكرت الوعود التي أطلقتها الأخيرة على مسمعي ومسمع جمانة سيف (كريمة النائب رياض سيف) باسم البرلمان الأوروبي والتي تركزت في معظمها على أن الأوروبيين لن يقدّموا أي مكاسب سياسية على حساب موضوع حقوق الإنسان، وأن المفاوضات مع سوريا بشأن الشراكة الأورومتوسطية ستتضمن بنداً واضحاً عن إحترام السلطات السورية لحقوق الإنسان وتحسين سجلها عن الموضوع في هذا الإطار.
منح ذلك اللقاء وقتها أملاً كبيراً بجدية الضغوط للإفراج عن المعتقلين السياسيين، وفي اليوم التالي وبعد تصريحات أطلقتها باتري من دمشق عن الوعود التي قطعتها أمامنا شنت الصحف السورية الرسمية الثلاث حملة إعلامية ضد المحامي أنور البني الذي رتب لقاءات باتري بأبناء المعتقلين، وصلت إلى درجة المطالبة بمحاكمة البني باعتباره خائناً.
في المجمل كانت محصلة تلك الزيارة مبعث ارتياح لدى الكثير من النشطاء، الذين لمسوا من خلالها جدية البرلمان الأوروبي في دعم قضايا حقوق الانسان في سوريا.
ولكن ما لبث ذلك التفاؤل أن أخذ بالتقهقر شيئاً فشيئاً، بداية بسبب إغلاق السلطات مركزاً لتدريب نشطاء حقوق الإنسان أنشئ بالتعاون مع المفوضية الأوروبية لحقوق الإنسان في ظل غيابٍ شبه كامل لأية ردود فعل أوروبية جدية على قرار الإغلاق. ثم لاحقاً اعتقال المحامي أنور البني والحكم عليه بالسجن خمس سنوات بسبب إدارته للمركز المذكور.
وعادت صدقية الاتحاد الأوروبي لتوضع على المحك في ما يتعلق بما يمكن أن يقدمه من دعم وضغط لتحسين أوضاع حقوق الإنسان. لكنها لم تصل سابقاً إلى القناعة التي تكونت لدى معظم النشطاء اليوم عن الدول الأوروبية وعن إهتمامها بحقوق الإنسان في العالم الثالث، فألطف تعبير يمكن أن توصف به المساعي الاوروبية في مجال تحسين حقوق الانسان ودعمها هو عدم الصدقية في ما تطرحه من اهتمام بقضايا الحريات وحقوق الانسان، أو إهمالها وجعلها في آخر الأجندة السياسية الخاصة بهم في علاقاتهم مع دول الاستبداد.
ربما يُتهم أصحاب مثل هذا الرأي بالتشاؤم وإطلاق الأحكام جزافاً، وقد يطالب البعض بإنتظار زيارة الرئيس الأسد لفرنسا، فمن يدري قد يتحلى الرئيس ساركوزي بالشجاعة ويُقدم على فتح ملف المعتقلين السياسيين مع الأسد، سيّما أن فرنسا نفسها هي صاحبة الفضل في إطلاق الأستاذ رياض الترك من السجن عام 2002.
لكن الصورة مختلفة اليوم تماماً، فالموقف الفرنسي عام 2002 كان جزءاً من سياسة أوروبية عامة تضع ملف حقوق الإنسان في أعلى سلم أولوياتها، أما اليوم فيمكن بسهولة ملاحظة التمايز في مواقف الدول الأوروبية بالنسبة للموضوع، الأمر الذي يصعّب إتخاذ موقف أوروبي موحّد لنصرة قضايا حقوق الإنسان، ويظهر هذا التمايز جلياً في السكوت المطلق ونسيان الملف كلياً من قبل مسؤولين من حجم خافيير سولانا الذي تجاهل الخوض في موضوع الإعتقالات والقمع المتزايد خلال زيارته الأخيرة لدمشق واكتفى بالحديث عن لبنان والعراق وفلسطين.
وطبعاً لا يتحمل الأوروبيون وحدهم مسؤولية دفن الملف، فلوبيات الضغط الموجودة في الدول الأوروبية والمكونة من نشطاء حقوق إنسان سوريين لا تقوم بواجبها، أو لا تقوم به كما يجب. ويبقى الضغط الذي تمارسه على الحكومات والبرلمانات الأوروبية ضعيفاً وغير قادر على تحقيق مكاسب أكثر من بيانات أوروبية منددة لا تسمن ولا تغني من جوع.
ولعل أخطر ما في الأمر هو ما أقدم عليه الرئيس ساركوزي مؤخراً والذي يبدو مهتماً أكثر بإنجازاته السياسية وبمشروع الاتحاد المتوسطي الذي يرمي إلى تعزيز التعاون القائم بين دول البحر الأبيض المتوسط المجاورة والاتحاد الأوروبي؛ إهتمام دفع ساركوزي إلى الإشادة بسجل القذافي وزين العابدين بن علي في مجال حقوق الإنسان؛ أمر يدفع جدياً للقلق من أن ساركوزي قد يمنح الأسد شهادة حسن سلوك في سجل حقوق الإنسان؛ شهادة تضع العراقيل أمام نضال وتضحيات الكثيرين لإطلاق سراح المعتقلين ومحاولة تحصيل ما يمكن تحصيله من حقوقنا الضائعة.

(*) كاتب وناشط حقوقي سوري.
المستقبل

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى