صفحات الشبابصفحات الناس

اﻻنتفاضة المصريّة و إعادة انتاج الرّمز و الصّورة

null
ياسين السويحة
حين انتصرت اﻻنتفاضة التونسيّة على الطغيان ونجحت في إسقاط نظام ديكتاتوري قمعي بوسائل سلمية و حضارية أذهلت العالم أجمع انطلقت أقلام الكثير من المحللين الغربيين (و العرب) من تلامذة هنغتنتون (أقروا بذلك صراحةً أم عن طرق تحليلاتهم) تبحث عن تبريرات تنفعهم لشرح انهيار نظرياتهم الثقافوية حول الشعوب العربية و كيف كان ممكناً أن يثور شعبٌ عربي على الظلم و الطغيان و الفساد في حين كانوا يؤكدون أن هؤﻻء ﻻ يتحرّكون إلا بأمر شيخٍ أو بإلهام داعية, و أن كلّ ما يحدث لدى هذه الشعوب يُفسّر بالنصوص الدينية (ﻻ عوامل اقتصادية و ﻻ سياسية و ﻻ حتّى ثقافية غير دينية) و لذلك وجدنا عشرات المقالات التي تؤكد أن حالة تونس مختلفة عن بقيّة الدول المحيطة بسبب اختلاف طبع شعبها نتيجة عقود من السياسات “اﻻنفتاحية” (!!) للنظام, و تجرأ البعض و أكّد أن ما حدث في تونس ﻻ يمكن أن يحدث في أي دولة عربية أخرى, و هذا الخطاب التقى (يا للمصادفة!) مع تأكيدات الأنظمة العربية بأن بلدانها “ليست كتونس”.

و اطمأن الجميع… و كانت مصر!
منذ أن بدأت الانتفاضة المصرية يحاول هؤﻻء “المحللون” تسليم قيادة هذه اﻻنتفاضة للإخوان رغماً عن الجميع, حتى و إن لم يظهر لهم زخمٌ بين الجمهور, حتى لو نفى هؤﻻء أنفسهم دوراً قيادياً خارجاً عن دور الجماعات و الأحزاب السياسية الأخرى (الهامشي أصلاً أمام دور الشباب المستقل), و نرى أغلب كتاباتهم تصبّ في خانة التحذير من “خميني” جديد ربما يجب تفادي ظهوره بالإبقاء على النظام الديكتاتوري الفاسد الحالي. ﻻ يتّسع فكرهم و عقلهم و منطقهم لفكرة عظيمة بقدر ما هي بسيطة: الشعب يريد الكرامة, العدالة اﻻجتماعية, الحرّية, الديمقراطية.. الشعب ﻻ يريد الطغيان و الذّل و التسلّط و الفساد.
علينا ألا نلوم جزءاً كبيراً من هؤﻻء و قرّائهم فعقودٌ من التأكيد على أن اﻻستبداد في المنطقة العربية و الإسلامية هو الحل و ليس المشكلة قد ترسّخ في الرأي العام لدرجة أنّ جزءاً كبيراً من العرب بات يصدّقه. المفهوم العام عن الشعوب العربية (أو عن العقل العربي, كما يحبّ الكثيرون تسميته) يصفهم بالعنف, بالتطرّف, بالكراهية الطائفية, بغياب الوعي و المقدرة على التصرّف بعقلانية, بالغوغائية.. الخ, و هذه الشعوب يجب أن تحكم “بالقبضة الحقيقية”.. و لذلك كان مفهوم “الديكتاتور ومن بعده الطوفان” أكبر آفات الشعوب العربية, ليس لإيمان الآخرين به فقط و إنما لتبنّيه داخلياً و نفسياً أيضاً, خصوصاً لدى النخب التي قررت أن مهادنة الديكتاتورية أفضل من كهوف تورابورا, التي يُفترض أنها البديل الوحيد. لقد تكسّر هذا المفهوم و تصدّع من كلّ جوانبه, و نحن بانتظار(و بحاجة) نجاح التحوّل الديمقراطي التونسي (و الذي يتآمر عليه الجميع, بدءاً من الجار” الجماهيري” و وصولاً للبيت الأبيض) كي يُدفن تحت رُكام الديكتاتورية المنهارة غير مأسوفٍ عليه.
لقد ساهم الإعلام المرتهن للنظام المصري و لحلفائه داخل و خارج المنطقة العربية في رسم صورة قاتمة و مرعبة للشعب المصري, بشكل خاص في مسألة الطائفية و وضع الأقباط, و تمّ تصوير النظام الديكتاتوري على أنه الوسيلة الوحيدة لمنع انفجار الأوضاع و لحماية هذه “الأقلّية” المهددة بالمسح من قبل “أكثرية” متعطشة لإفنائها, و في هذا ابتزاز للرأي العام الغربي و استجرار لتعاطفه مع “إخوتهم في العقيدة” و تبرير ضمني لدعم ديكتاتور رغم “مساوئه”. بسبب هذا الجو المسموم و هذه الصورة القاتمة و البشعة و خادمة المصالح كانت مشاهد الجمعة (شباب أقباط يحيطون بالمصلّين داخل ميدان التحرير لحمايتهم أثناء صلاة الجمعة) و الأحد (قدّاس من أجل أرواح الشهداء في قلب ميدان التحرير) الماضيين ردّة فعل حضاريّة من شعبٍ ملّ تصويره أمام العالم كوحشٍ مقيّد في سيرك سيريالي اسمه “النظام العالمي”. لست من أنصار استخدام الشعارات و الرموز الدينية للدعوة للتعايش و لنبذ الطائفية ﻷنني أعتبر أن الرسالة التي يجب إيصالها هي أننا ﻻ نتعايش كمسلمين و مسيحيين بل كمواطنين لنا (أو يجب أن يكون لنا) كامل الحقوق و الحريات و الواجبات, أي أن هويتنا الدينية (أو ﻻ هويتنا) ﻻ دور لها في تعريفنا كمواطنين, و بالتالي ﻻ توجد أقليات و أكثريات في ما يخص بناء النسيج الوطني المتساوي و المتماسك, لكنني مع ذلك أعتقد أن ظهور هذه الرموز الدينية كان مشروعاً للغاية نظراً ﻷن الشعب المصري كان بحاجة لإرسال هذه الرسالة إلى العالم و بهذا الذكاء الذي يؤكد ما اعتقدته دوماً و اليوم أؤمن به أكثر من أي وقتٍ مضى: الشعوب أذكى مما يعتقد الكثيرون, و مما يرغب البعض.
لقد أعلنت وسائل الإعلام منذ يومين عن إحالة بلاغ ضد وزير الداخلية السابق حبيب العادلي إلى نيابة أمن الدولة يتهمه بتفجير كنيسة القديسين في اﻻسكندرية مطلع العام الحالي, و يشير مراقبون مطّلعون إلى أن الأدلة قوية بما يكفي لاعتبار الاتهام مشروعاً, و ﻻ ندري إن كان العادلي سيمثل أمام القضاء و ينال جزاءه لكنني أعتقد أن مرور هذا الخبر على المصريين دون أن يدهشهم يكفي لكي نتعرّف على طبيعة هذا النظام الذي يعانون.. لنتذكر أن العادلي نفسه اتهم تنظيماً فلسطينياً ذو تواجد محدود في غزّة بارتكاب هذه الجريمة البشعة, أي أنه أراد بهذا اﻻتهام (الذي ادهش النائب العام نفسه عندما سمعه) أن يثير المزيد من الحساسيات بين الشعبين المصري و الفلسطيني مثلما استخدموا كرة القدم لخلق عداء ﻻعقلاني و ﻻمنطقي بين الشعبين المصري و الجزائري, و أيضاً ينفع (يا للمصادفة! مرة أخرى) لتبرير استمرار التعاون مع إسرائيل لإحكام الحصار على غزّة بحجّة حماية الأمن القومي المصري. لنتذكر أن العادلي هو المسؤول المباشر (و ليس الأكبر) عن سحب قوّات الأمن من الشوارع و نشر “البلطجية” في مناورة مألوفة في كثير من الديكتاتوريات عندما تعاني من احتجاجات شعبية: تسحب قوات الأمن و تنتظر حوادث النهب و التخريب كي تشوّه صورة المحتجين و تستجلب لصفّها أولئك الذين تضرروا أو انزعجوا لما حصل من إخلال بالأمن.. لحسن الحظ, و لخيبة العادلي و خيبة رئيسه و حلفاء رئيسه فقد أعطى الشعب المصري درساً جديداً في الحضارة عندما تصرّف بسرعة و نظّم لجاناً شعبية لحماية الممتلكات العامة و الخاصة, و كان مشهد المتظاهرين و هم يحيطون بالمتحف المصري و يحمونه بأجسادهم صفعةً في وجه أنصار و مسوّقي فكرة أن اﻻستبداد هو الحل في المنطقة العربية.. المستبد كان يشيع الفوضى و الخراب و يهدد كنزاً حضارياً عمره آلاف السنين, و المتظاهرين ضده يحمون هذا الكنز بأجسادهم.
لقد شكّلت الأسابيع الأخيرة مصنعاً غزير الإنتاج للرموز و الصوّر و الشعارات, بدايةً في تونس, ثم في مصر (مركز الوطن العربي الكبير و عاصمته) ستساهم دون شك في إعادة تكوين الوعي و الهوية الشعبيتين في المنطقة العربية بغض النظر عن تطوّر الأحداث في مصر (و الذي نتمنى أن يكون لصالح طلاّب الكرامة و الحرّية), و أعتقد أن القول بأن “جمهورية ميدان التحرير” التي نراقبها اليوم هي المرادف العربي لـ “كومونة باريس” عام 1871 هو قول صائب.. و سيكون لهذه الأيام دورٌ كبير في بناء جيل جديد متحرر تماماً من أشباح الماضي المهزوم.
يشكّل ما حدث في تونس و يحدث في مصر مدرسةً بكل معنى الكلمة, هي مدرسة للشعوب العربية لكنها أيضاً مدرسة للأنظمة.. و ﻻ شك لديّ أنه, عاجلاً كان أم آجلاً.. سينتصر ذكاء الشعوب على عنجهية الأنظمة.
يروي الأصدقاء المتواجدون في ميدان التحرير أن المعنويات عالية جداً, و أنهم يعيشون حالة حضارية ليس لها مثيل و ﻻ يمكن وصف روعتها, و أن الجميع متعاون و متكاتف و كلّ يقوم بدورٍ ما لإنجاح هذه اﻻنتفاضة الشعبية, ﻻ بل أن كثيراً من المشاكل الاعتيادية في الحياة اليومية مثل نظافة الأرض (أشار مراسل جريدة إل باييس اﻻسبانية أمس بإعجاب إلى نظافة ميدان التحرير رغم وجود مئات الآﻻف من الأشخاص فيه) أو اختفاء ظاهرة التحرش بالفتيات (التلطيش أو المعاكسة) أو أي شيء يعكّر صفو رومانسيّة المشهد الثورية.. لعلّ هذا يا يحدث, يا سادتي الكرام, ﻷن الإحساس بالحرّية يُخرج أفضل و أجمل و أنبل مافي عقل الإنسان.. و في قلبه.

http://www.syriangavroche.com/

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى